في زاويةٍ من زوايا مركز إيواء مكتظ في قلب دير البلح في قطاع غزة، تفوح رائحة الخبز الساخن ممزوجة برائحة التعب.
وفرن الطين أو (الطابون) هو فرن بدائي، يُصنع على شكل قبة، وله فتحة علوية لخروج الدخان، وجانبية لإدخال الحطب، وأخرى أمامية لإدخال العجين فيما يترك الفرن بعد تشكيله لعدة أيام حتى يجفَّ تماماً ويصبح جاهزاً للاستخدام لاحقاً.
وسط هذا المشهد، تقف أم تامر، أرملة في الأربعين من عمرها، تلوّح بيديها على لهب الفرن، وتحكي حكايتها بصوت متماسك: "فقدت زوجي في القصف، وعندي خمسة أطفال، وما عندي أي مصدر دخل. صنعت فرن طينة وبلشت أبيع الخبز للنازحين... كل شي تغيّر، بس أولادي لازم ياكلوا."
وازداد انتشار أفران الطين مع اشتداد الحصار المفروض على غزة، ومنع الاحتلال الإسرائيلي دخول المواد الغذائية والمواد الأولية، إلى جانب الانقطاع المتكرر للكهرباء والغاز، والارتفاع الكبير في أسعار الخبز.
وشهد الرقم القياسي لأسعار المستهلك في قطاع غزة ارتفاعاً قياسياً بنسبة 75.59% خلال شهر نيسان 2025 مقارنة بشهر آذار من نفس العام. في مواجهة هذا الواقع، باتت هذه الأفران وسيلة بديلة تضمن للناس الحدّ الأدنى من الحياة.
إعداد الخبز كوسيلةٍ للنجاة
مثل أم تامر، سنجد عشرات النساء الأرامل وقد وجدن في إعداد الخبز وسيلة للنجاة، بعد أن فقدن أزواجهن ومنازلهن وكلّ ما كان يُشكّل سنداً لهن ولأطفالهن. نساءٌ كنّ بالأمس ربات بيوت، وجدن أنفسهن فجأة معيلات ومنتجات في مهن لم يتخيلن يوماً أنهن سيلجأن لها، يواجهن وحيدات قسوة النزوح، وتحديات الإعالة، ونظرات المجتمع التي قد تكون قاسية أحياناً. وفي ظل الخراب، تتحوّل الأرغفة إلى شريان حياة.
ورغم بساطة الوسيلة، إلّا أن العمل ليس سهلاً. حرارة النار تلسع الأيادي، والدخان يدمع العيون، وأحياناً تترك النيران آثارها على الأكف المتعبة. ومع ذلك، تصرّ النساء على الاستمرار. بعضهن يبعن الخبز بثمن رمزي، وأخريات يتبادلن الأرغفة مقابل كيس طحين أو بضعة خضراوات.
أم يزن، شابة في الثلاثينات من عمرها، تقول: "الناس تستغرب كيف وحدة زيي تشتغل على فرن طينة، بس شو أعمل؟ عندي بنتين، وبدهم أكل ودواء ومصاريف كثير. الخبز صار مصدر رزقي الوحيد".
هذه الأفران البدائية، المصنوعة من الطين والحطب، لم تعد مشهداً غريباً في مراكز الإيواء وأطراف الشوارع. حولها تتحلق النساء والأطفال، وبعض الجيران والجارات الذين/ ات يتقاسمون ما توفر من حطب وطحين. ومع غياب الكهرباء وشحّ الغاز، أصبحت أفران الطينة رمزاً للحياة في زمن الحرب، ودليلاً على قدرة الناس، وخاصة النساء، على ابتكار وسائل للنجاة في أقسى الظروف.

الحرارة تلذع الأيدي والدخان يحرق العيون
ورغم بساطة الوسيلة، إلّا أن العمل ليس سهلاً. حرارة النار تلسع الأيادي، والدخان يدمع العيون، وأحياناً تترك النيران آثارها على الأكف المتعبة. ومع ذلك، تصرّ النساء على الاستمرار. بعضهن يبعن الخبز بثمن رمزي، وأخريات يتبادلن الأرغفة مقابل كيس طحين أو بضعة خضراوات.
تقول الناشطة النسوية روان إن ما يحدث هو أكثر من مجرد محاولة للبقاء: "هؤلاء النساء لا يطلبن الشفقة، بل يخلقن بدائل للعيش. الخبز هنا ليس مجرد طعام، بل فعل مقاومة نسوية في وجه الفقد والتهميش."
في مجتمع يُحمّل النساء مسؤوليات مضاعفة دون أن يمنحهن دائماً الدعم الكافي، تنهض الأرامل في غزة من تحت أنقاض الحزن ليصبحن أعمدة لبيوت مهدّمة. بأفران الطين، يخبزن الكرامة على نار الحاجة.
وبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بلغ عدد الإناث في فلسطين نحو 2.70 مليون أنثى في منتصف عام 2023، أي ما يعادل 49% من إجمالي السكان. وتشير البيانات إلى أن النساء يترأسن نحو 12% من الأسر الفلسطينية، بواقع 12% في الضفة الغربية و11% في قطاع غزة.
"هؤلاء النساء لا يطلبن الشفقة، بل يخلقن بدائل للعيش. الخبز هنا ليس مجرد طعام، بل فعل مقاومة نسوية في وجه الفقد والتهميش."
وفي سوق العمل، تنخرط نحو 68% من النساء العاملات في القطاع الخاص، وغالباً في وظائف غير منتظمة كالخياطة، وتحضير الطعام، وخَبز الخبز. وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن ما بين 3,000 و5,000 امرأة في غزة يعملن اليوم في صناعة الخبز المنزلي وبيعه، بعدما دفعتهن الحرب المستمرة وتدهور الأوضاع الاقتصادية إلى البحث عن وسائل بديلة للعيش.
وفي بيان صادر عن وزارة العمل في غزة، أكدت الوزارة أهمية دعم وتمكين النساء العاملات، لاسيما الأرامل والمعيلات، في ظل التحديات الاقتصادية المتفاقمة. وأشارت إلى تنفيذ سلسلة من اللقاءات التوعوية داخل مراكز الإيواء والمؤسسات النسوية، بهدف تعزيز الوعي القانوني والاقتصادي لدى النساء، وتمكينهن من دخول سوق العمل من خلال أدوات بسيطة ومشاريع صغيرة تُلبّي احتياجاتهن وتُعزز استقلاليتهن.