هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
جميع مقالات رولا تجدونها هنا
رغم أن مفتي الديار الفلسطينية أعلن ثبوت هلال العيد يوم 31 آذار/ مارس الماضي في فلسطين، لكن لم يعلن أحدٌ عن ثبوت هلال الهدنة في قطاع غزة!
لقد انتظر الناس هنا خبر عودة الهدوء وتأكيد اتفاق وقف إطلاق النار أكثر من انتظارهم لرؤية هلال العيد. يقولون: "كيف نفرح بقدوم العيد ونحن لا نأمن مكر الاحتلال وغدره؟". فإسرائيل لا تتورّع عن قصف المدنيين/ات في غزة، حتى في أعيادهم/ن!
العيد الثالثُ في ظل الإبادة
هذا هو العيد الثالث(1) لغزة في ظل الإبادة الجماعية المتواصلة.
تجربة الأعياد السابقة كانت حافلة بالدم، والفقد، والدموع.
ولم ينتهِ اليوم الأخير من شهر رمضان، الموافق لنهاية شهر آذار/ مارس، حتى أعلنت وزارة الصحة عن وصول عشرات الضحايا إلى مستشفياتها، نتيجة قصف الاحتلال الإسرائيلي لمناطق متفرقة في القطاع.
وبينما كان حيّ الرمال، وسط المدينة، يعجّ بالمواطنين/ ات الذين/ ات خرجوا/ ن عصر اليوم يبحثون عن وجه العيد بين الطرقات المكسورة وبقايا المحلات المدمّرة، باغتتهم/ ن طائرات الاحتلال بقصف أرضٍ زراعية قرب وزارة الأسرى، التي لا تبعد كثيراً عن نقطة الازدحام وتكدّس الناس. هزّ الانفجار قلوبهم، ودبّ الرعب في نفوسهم.
وفي مكان غير بعيد، جاء الانفجار الآخر بعد دقائق قليلة، ليصيب خيمة تؤوي نازحين/ات داخل مقر التأمين والمعاشات، غرب مدينة غزة، فاستُشهدت ثلاث نساء في هذا القصف.
قررتُ في هذا العيد أن أصنع بعض السعادة لأطفالي، رغم الإبادة التي عادت لتحوم حولنا، ورغم انقطاعٍ دام عاماً ونصف عن الاحتفال بطقوس الأعياد.
أمٌّ تهتم بالتفاصيل رغم الحرب
قبل السابع من أكتوبر، كنتُ امرأة تؤمن بمبدأ أن "السعادة قرار"، وكنت أتعامل في معظم المناسبات العائلية والمواقف الاجتماعية وفقاً لهذه القناعة.
وعملاً بهذا المبدأ، قررتُ في هذا العيد أن أصنع بعض السعادة لأطفالي، رغم الإبادة التي عادت لتحوم حولنا، ورغم انقطاعٍ دام عاماً ونصف عن الاحتفال بطقوس الأعياد.
خرجتُ أكثر من مرة لشراء ما يناسب أطفالي من ملابس، مما توفر في المحلات القليلة التي نجت من الدمار في مدينة غزة.
كنت أحاول تجهيزهم لاستقبال العيد بذات التفاصيل التي اعتادوا عليها قبل العدوان.
ومن يعرفني، يعرف أنني أمّ تهتم بأدق التفاصيل المتعلقة بمظهر أطفالها وملابسهم، خاصة في الأعياد والمناسبات المهمة. وفعلتُ كلّ ما في وسعي في هذا الأمر، إلى أن استأنف الاحتلال عدوانه علينا بشكل مباغت وموجع.
توقفت تجهيزاتي، والتزمتُ بـ"بيت النزوح"(2)، خوفاً من القصف العشوائي الذي يستهدف تجمعات المواطنين، والسيارات المدنية، والمنازل، والخيام، ومراكز الإيواء.
ثم لا حلوى في المدينة، فالاحتلال ما زال يغلق معابر القطاع منذ شهر ويمنع إدخال المساعدات للغزيين.
بقيتُ على هذا الحال حتى اليوم الأخير من رمضان. ومع بدء الحديث عن إمكانية التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع حلول العيد، خرجتُ لاستكمال ما تبقى من مستلزمات العيد لأطفالي. لكن حين عاد العيد، ولم يعد معه الهدوء، دبَّ الخوف في قلبي من جديد. فقررت أن نحتفل بالعيد وحدنا، داخل المنزل، من دون زيارة الأهل في الجنوب كما اعتدنا في كلّ عيد.
لبس أطفالي صباح العيد ملابسهم الجديدة، صنعتُ لهم إفطاراً ظننتُه مميزاً، وقدّمت لهم بعض حلوى العيد والعيدية.
لكنهم لم يشعروا بالسعادة… وكان ذلك واضحاً في سؤالهم الذي لم يتوقف: "ماما، متى بدنا نروح ع العيد؟".
فعرفتُ حينها أننا لم نعد نملك قرار السعادة، وأن العيد لا نصنعه وحدنا، بل هو فرحٌ نتقاسمه مع الآخرين. واكتشفت أن فرحة العيد كلّ عام، كانت تبدأ بزيارة أبي وإخوتي، الذين لم يتمكنوا هذا العام من القدوم إلينا في غزة، بسبب القصف وصعوبة المواصلات.
عيد... احتفالٌ ثم موت
ظل أطفالي طوال اليوم يطلبون النزول إلى الشارع "لرؤية العيد"، حاولت التحايل عليهم وخلق أعذارٍ للرفض، لكن محاولاتي باءت بالفشل، ونزولاً عند رغبتهم، وافقت أخيراً... على مضض وبقلق.
خرجنا نبحث عن وجه العيد في مدينتنا الحزينة، المكلومة. صدمتني الأسعار الجنونية لكل شيء! رغم أننا نعاني من أزمة ارتفاع الأسعار منذ اليوم الأول لإغلاق المعابر قبل شهر، وزادت الأسعار أكثر بعد استئناف العدوان، إلا أن ارتفاعاً جديداً وغير مفهومٍ طرأ مع حلول العيد!
فعرفتُ حينها أنه لم يعد هناك جدوى من محاولات صنع السعادة في مدينتنا، وأن الموت الذي يطاردنا أكبر من محاولات النجاة التي نسعى إليها.
حاولت أن أشتري لأطفالي ما تيسّر مما قد يُسعدهم. ومع مغيب الشمس، قررنا العودة إلى المنزل. الليل في غزة يعني مزيداً من الخوف والخطر، وكثافة أعلى في القصف والاستهدافات.
وفي طريق عودتنا، حدث ما كنا نخشاه، وما كنت أرفض الخروج لأجله! كان بيننا وبين الموت دقيقة، لربما بضعة أمتار فقط، حيث قصفت طائرة مسيّرة إسرائيلية سيارةً مدنية عند أحد المفترقات الرئيسية في مدينة غزة، على بعد خطوات بسيطة من المكان الذي كنا نسير فيه!
شهدنا صراخ المارة والمصابين، الذين كانوا قبل لحظات يسيرون في الشارع بالقرب منّا، وفجأة ارتموا أرضاً بإصابات مختلفة!
تحولت سعادة أطفالي إلى خوف ورجفة في قلوبهم، وتبدلت ضحكاتهم بالبكاء، وضاعت كلّ جهودي لرسم الابتسامة على وجوههم!
فعرفتُ حينها أنه لم يعد هناك جدوى من محاولات صنع السعادة في مدينتنا، وأن الموت الذي يطاردنا أكبر من محاولات النجاة التي نسعى إليها.
انتهى يوم العيد بالموت
انتهى اليوم الأول من العيد بوصول أكثر من 70 ضحية إلى المستشفيات في غزة، وعشرات الإصابات، معظمهم من النساء والأطفال الذين كانوا يرتدون ملابس العيد التي تلطخت بدمائهم!
وهكذا غابت عن خيام النازحين ملامح العيد، واختفت فيها رائحة الكعك والمعمول(3)، وطغت عليها رائحة البارود.
كان من المفترض أن تصدح فيها تكبيرات العيد، لكن أزيز طائرات الاحتلال يعلو أكثر! ويخطف أرواح الأطفال والنساء، فتتحول التكبيرات إلى حشرجة بكاء أثناء صلوات الجنازة على الضحايا.
مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أكّد أن كل شيء في غزة ينفذ، بما في ذلك الإمدادات والوقت والحياة، مع استمرار التدهور الإنساني!
كلّ الجهات الحكومية والإنسانية تؤكد على كارثية الظروف الإنسانية في غزة، لكن على الأرض، لا صوت يعلو فوق صوت الحصار والدمار واستمرار الإغلاق!
رغم كل هذا، مازلتُ أماً تبحث عن سعادة أطفالها وسط الإبادة...
العيد الثالث: تقصد به عيدي الفطر والأضحى. يأتي عيد الفطر بعد شهر رمضان، أما عيد الأضحى فيأتي بعد موسم الحج
بيت النزوح: بعد أن عاشت رولا وعائلتها لأكثر من عام في الخيام، تمكنت مع زوجها من استئجار منزل صغير، كانت القذائف قد حطّمت جزءاً منه بالفعل.
الكعك والمعمول: حلويات شعبية تُحضّر غالباً في المنازل ضمن طقس تقليدي أو تُشترى جاهزة خصيصاً للعيد.