شيماء اليوسف
في منزلٍ متهالكٍ وسط قرية درنكة بمحافظة أسيوط، تعيش السيدة أم مارتن، ربة منزل تبلغ من العمر 60 عاماً. تواجه أم مارتن أوضاعاً اقتصادية قاسية وظروفاً صحية متدهورة، ورغم أن حصولها على نصيبها من تركة والدها والتي تُقدر بأكثر من 2 مليون جنيه مصري (نحو 40 ألف دولارٍ أميركي)، كان من الممكن أن يغيّر حياتها رأساً على عقب، إلّا أنها تجد نفسها عاجزة عن المطالبة بحقّها. فقد كتب والدها، قبل وفاته، كامل ثروته التي تُقدر بحوالي 30 مليون جنيه مصري (نحو 611 ألف دولارٍ أميركي)، لأبنائه الذكور الثلاثة، وأوصاهم بعدم إعطاء أي نصيب من الإرث لبناته الست.
الضغط الأُسري لحرمان النساء من الميراث
لا توجد تقديرات رسمية واضحة لعدد المسيحيين الأقباط في مصر، ويبدو أن هناك غموضاً متعمداً في هذا الشأن(1). تشير بعض التقديرات الرسمية إلى أن نسبة الأقباط المسيحيين تتراوح بين 6% و10% من إجمالي السكان.
ومع ذلك، صرح البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، بأن عدد الأقباط في مصر يبلغ حوالي 15 مليون نسمة داخل البلاد، بالإضافة إلى مليوني شخص في المهجر(2). بناءً على ذلك، يُقدَّر العدد الإجمالي للأقباط بحوالي 15-20%.
تتعرض المصريات المسيحيات عموماً للظلم فيما يتعلق بالميراث، خاصةً بسبب اعتماد القوانين على الشريعة الإسلامية بدلاً من قوانين مدنية تضمن المساواة الكاملة بين النساء والرجال.
حاول أبناء السيدة أم مارتن إقناعها برفع دعوى قضائية ضد أشقائها للحصول على حصتها من الإرث، لكنها ترددت خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى قطيعة عائلية. تقول مرثا، ابنتها الكبرى لـ "ميدفيمنسوية": "لما سألنا خالي على نصيب أمي في الميراث قالنا وصية أبويا البنات ملهاش ورث ولازم نعمل بيها".
تواجه أم مارتن تهديداً بالمقاطعة من أشقائها، كما حدث مع شقيقتها الصغرى ماري. فقد زعمت ماري أنها مريضة وتحتاج إلى إجراء عملية جراحية تكلف 100 ألف جنيه مصري أي نحو 2000 دولارٍ أميركي، وبالفعل، دفع الأشقاء لها المبلغ، لكنهم اكتشفوا لاحقاً أنها اختلقت الأمر. وعندما طالبوها بإعادة المال، رفضت وقالت لهم: "خدوه من ميراث أبويا اللي استوليتوا عليه". ردّاً على ذلك، قاطعها إخوتها، معتبرين ذلك وسيلة لتأديبها.
يشير الباحث في علم الاجتماع الأدبي، محمد جبريل، في كتابه سقوط دولة الرجل، والذي يتناول فكرة تحوّل المجتمعات وهيمنة الرجال على السلطة والعلاقات الاجتماعية، وما إذا كان هناك انهيار لهذه الهيمنة في ظل تغييرات اجتماعية وثقافية وسياسية، إلى أن بعض الآباء يلجأون إلى بيع ممتلكاتهم لأبنائهم الذكور بشكل صوري، بهدف حرمان بناتهم الإناث من الميراث، كما يسلط الضوء على أن حرمان المرأة من الميراث ليس فقط انتهاكاً لحقوقها القانونية، بل هو أيضاً انعكاس عميق للعقلية الأبوية التي تسيطر على العلاقات الأسرية والاجتماعية وكيف يتم تبرير حرمان المرأة من الميراث تحت ذرائع مثل الحفاظ على الممتلكات داخل العائلة أو الخوف من انتقالها إلى عائلة أخرى عبر الزواج.
البنات ضيفاتٌ في منازل الآباء لا غير
لم تتمكن والدة نريمان من إقناع زوجها بالعدول عن قراره بحرمان بناته من الميراث، بينما رفضت الابنة الوسطى قرار الأب إذ اعتبرته ظلماً لها ولشقيقتيها، خاصة أن التركة كبيرة. يُقدر سعر المنزل الواقع بمدينة العبور وحده بنحو 12 مليون جنيه أي نحو 245 ألف دولار أميركي، تقول نريمان: "لما اعترضت وقولت لأبويا دا ميرضيش ربنا، قالي دا مش قانون ربنا دا قانوني وأنا حرّ".
يحظى الأبناء الذكور بمعاملة خاصة من والدهم، الذي يعتبر بناته مجرد "ضيفات". ويكرر دائماً عبارته الشهيرة: "البنات ملهمش عندي غير مساعدتهم في الجواز بس".
بلغت نسبة حرمان المرأة المصرية (من مسلمات ومسيحيات) من الميراث 20.7%، وتظهر المشكلة بشكل أكبر بين النساء في الريف، حيث وصلت النسبة إلى 25%، مقارنة بنسبة 15% بين النساء في المناطق الحضرية.
و حسب كتاب "المرأة والإعلام في صعيد مصر" للباحثة عواطف عبد الرحمن ، يعود حرمان النساء من الإرث في كثير من الأحيان إلى سيطرة العادات والتقاليد التي ترفض تقسيم الميراث مع النساء. تُبرَّر هذه العادات بالخوف من انتقال السيطرة على الميراث إلى أزواجهن، ما يعني تحويل تبعيتهن الاقتصادية والاجتماعية إلى عائلات أخرى، خاصة في المناطق الريفية.
أخبرنا مايكل ابن السيدة أمل، إحدى الوريثات، أن الشقيقتين لجئتا إلى الكنيسة لعقد جلسات وديّة يترأسها قساوسة لتوزيع التركة بالتراضي بينهم. لكن أخاهما رفض هذا الحل، مبرراً موقفه بأنَّه الأحقّ بالنصيب الأكبر لأنه كان يرافق والده ويساهم في جمع الثروة. وبناءً على ذلك، قرر اللجوء إلى القضاء المصري للمطالبة بنصف التركة.
وبمجرد دخول القضية إلى أروقة المحاكم، ستخسر النساء حقوقهن إذ يقول رمسيس النجار، المحامي بالنقض: "في حالة اتفاق الورثة المسيحيين على تقسيم التركة وفقاً لقوانينهم، يمكنهم تنفيذ ذلك بالتوافق والرضا فيما بينهم. ولكن في حال وجود خلاف بينهم وعدم الوصول إلى اتفاق، يلجأ القضاء عادةً إلى تطبيق الشريعة الإسلامية باعتبارها قانوناً عاماً في توزيع الميراث، وفقاً للأحكام الواردة في القانون المصري".
النساء يشتكين من هضم حقوقهن
تشير دراسة بحثية بعنوان "تغيير القوانين وكسر الحواجز من أجل تحقيق التمكين الاقتصادي للمرأة في مصر والأردن والمغرب وتونس"(3)، إلى أن نحو 95% من النساء المصريات تعرضن للضرر والحرمان من الميراث، خاصةً فيما يتعلق بملكية الأراضي، وتخضع هذه القضايا إلى الأحكام العرفية التي تساهم في نقل ملكية الأرض إلى الذكور، ما يعني أن حرمان النساء المسيحيات هو جزء من ظلم واسع يطال تقريباً كل النساء في مصر.
وبسبب ازدياد عدد شكاوى النساء بعد حرمانهن من الميراث بعد وفاة الأب واستحواذ ذكور العائلة على التركة، أصدر البرلمان المصري قانون رقم 71، الذي يتيح للأب كتابة وصية لصالح وريث قانوني. ومع ذلك، نادراً ما تُكتب هذه الوصية، إذ أن أعراف القرى والمناطق النائية لا تدعم تمكين النساء اقتصادياً. في النهاية، تسيطر العقلية البطريركية والمعتقدات الاجتماعية على حقوق النساء. وحتى في حال إصدار قوانين تدعم هذه الحقوق، فإنها تظل حبراً على ورق ما لم يُبذل جهد حقيقي لتغيير العقلية الاجتماعية.
لا ميراث للأرملة المسيحية حتى لو أسلمت
في كتابه "هل من مسألة قبطية في مصر؟" (4) يناقش عزمي بشارة القضية القبطية في مصر من منظور تاريخي وسياسي واجتماعي، محاولاً تحليل العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين المسلمين والمسيحيين في مصر. مشيراً إلى أن الأرامل المسيحيات اللواتي توفي أزواجهن المسلمون لا يتمتعن بأي حقّ تلقائي في الميراث وهذا ما يشكل تحدٍ حقيقي لهن وفي رعاية ابنائهن حتى.
هذا ما حدث مع والدة السيد هشام حمودة، وهو متقاعد. بعد وفاة والده، كان هشام وشقيقه الأصغر قاصرين، ما دفع والدته إلى اعتناق الإسلام لتجنب انتقال حضانة طفليها إلى أقارب الأب.
بموجب الشريعة الإسلامية، لا ترث الزوجة المسيحية من زوجها المسلم إلّا إذا أسلمت قبل وفاته. يقول هشام: "كان أبي ثرياً ولأن أمي لم تتحول للإسلام إلّا بعد وفاته حُرمت من نصيبها في تركته".
وفي ظل هذه الفوضى وحرمان الكثير من النساء من حقوقهن، دعا المجلس القومي للمرأة المصري إلى تعديل قانون الميراث حتى يتماشى مع خطط التنمية المستدامة المصرية ضمن إطار استراتيجية 2030، ويضمن حقوق جميع النساء، وقدم المجلس، بالشراكة مع منظمات حقوقية، مسودات لإصلاح قانون الميراث، ومع ذلك، لم تتضمن هذه المسودات مقترحات لتحقيق المساواة الكاملة بين النساء والرجال في الميراث.
في عام 2017، أُدخل تعديل على قانون الميراث يفرض غرامة تصل إلى 100 ألف جنيه مصري على من يحرم المرأة المصرية من حقها في الميراث.
قضايا انتصرت لحق المرأة المسيحية
تتجلى محاولات النساء للمطالبة بحقوقهن عبر رفع الدعاوى القضائية، ما يشجع أخريات على اتخاذ خطوات مماثلة. في آيار/ مايو 2015، أصدرت محكمة استئناف طنطا حكماً تاريخياً بتطبيق القانون الكنسي في قضايا الإرث. تبعتها محكمة استئناف القاهرة بحكم يقضي بالمساواة في توزيع الميراث بين الأشقاء استناداً إلى لائحة الأقباط الأرثوذكس والمادة الثالثة من الدستور التي تقول: "على أن مبادئ شرائع المسيحيين واليهود هي المصدر الرئيسي للأحوال الشخصية وشؤونهم الدينية". بعد اعتراض السيدة وفاء على تطبيق الشريعة الإسلامية في إرث شقيقتها. وفي عام 2018، صدر حكم آخر عن محكمة أسرة حلوان بتطبيق القانون الكنسي لتوزيع الميراث بالتساوي، بعد دعوى رفعتها السيدة ماجدة يوسف بنداري ضد أشقائها لإبطال إعلام الوراثة الصادر برقم 1797 في سنة 2015.