هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
شادية خذير
لم يكن قرار راقصة الباليه التونسية نسرين بن عربية، بالخروج من قاعات الأوبرا المليئة بالأضواء والجماهير النخبوية إلى الشارع، في عام 2017 بالأمر السهل. واجهت نسرين تحديات قانونية، إذ يتطلب تقديم العروض في الأماكن العامة الحصول على تراخيص، بالإضافة إلى المخاوف من الجماعات المتشددة والرفض المجتمعي. ومع ذلك، أبدت نسرين إصراراً كبيراً على كسر الحواجز بين الفنّ والجمهور العادي، وإدخال الباليه إلى الفضاءات العامة. نوع من اشكال ديمقراطية الابداع.
استعادة الشارع بالرقص
في آذار \ مارس عام 2012، اعتدى متشددون(1) على مجموعة من الفنانين والمثقفين، خلال احتفالهم باليوم العالمي للمسرح، عبر تقديم عروض فنيّة تعبيرية في الشارع، أمام المسرح البلدي، الذي يُعد شاهداً على التاريخ الإبداعي لتونس منذ بدايات القرن العشرين(
لم يكن الهجوم موجهاً ضد الفنانين فحسب، بل أيضاً ضدَّ فكرة تحويل الشارع إلى مساحة للتعبير الحرّ. أشعلت هذه الأحداث مواجهة مباشرة بين الحركات المتشدّدة والفنانين والمثقفين، الذين حاولوا بعد ثورة عام 2011، تحرير الشارع من قبضة البوليس وتحويله كمنصّة كبرى للفن. ما حدث من مشادات واستفزازات دفع وزارة الداخلية إلى فرض نظام الترخيص المسبق لأيّ نوع من التظاهرات أو الفعاليات العامة، ما أدى إلى خضوع الفضاءات العامة لقيود تنظيمية أكثر صرامة، ورغم ذلك، قدمت نسرين بن عربية رقصات الباليه وحصص تصوير في أماكن مختلفة، مثل المدينة العتيقة، المرسى، سيدي بوسعيد، الكاف، والمهدية.
تؤكد نسرين أنها تختار الفضاءات العامة، التي تقدم فيها عروضها، بعناية، تقول: "أفضّل الأماكن التي تنبض بالحركة والحياة وتحمل في طياتها التاريخ والقصص ، أختار المباني ذات الطراز المعماري التونسي الاصيل كخلفية لعروضي. أؤمن بأن هذه الفضاءات تشكّل جزءاً جزءً من سردية عروضي. ينبع الفن من الشارع وعليه أن يعود إليه".
تعرضت نسرين لخطاب الكراهية وللشتائم، خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن الغريب أنها، على عكس ما يحدث في الفضاء الافتراضي، لم تواجه العنف اللفظي أو الجسدي في الشارع. في لقاء مع قناة 'بي.بي.سي'، قالت نسرين: "لا أخاف من ممارسة حقّي في تمّلك جزء من الشارع التونسي. لم أفرض رقصاتي على أحد، وإذا لم يعجب فنّي بعض الناس، فلماذا العنف؟".
وعن العنف ضد النساء في الفضاء العام، تقول هند قفصي، المستشارة في تخطيط المدن والنوع الاجتماعي: "يعود خطاب الكراهية ضد النساء في الفضاء العام إلى ثقافة ذكورية تستند إلى قراءة مغلوطة للدين، تعتبر مكان المرأة الطبيعي هو المنزل، ويجب أن تبقى وسط العائلة، وتتفرغ لدورها البيولوجي، وهو الإنجاب ورعاية عائلتها وأبنائها وزوجها"، تضيف هند: "على الرغم من مشاركة المرأة التونسية الفعّالة في الحياة الاقتصادية، بفضل ارتفاع نسبة المتعلمات، إذ أن 70% من التونسيات حاصلات على شهادات جامعية، إلّا أن وجودهن في الفضاء العام، لأغراض تتجاوز العمل ورعاية الأسرة، ما زال يجابه بالرفض والاستهجان. يُنظر على نطاق واسع إلى إظهار النساء لمواهب مثل الغناء أو الرقص أو الرسم في الشارع، على أنه أمر غير لائق، ويُعتقد أنها تصرفات تثير رغبة الرجال، وتُخرِج المرأة من إطار دورها التقليدي في الإنجاب ورعاية الأسرة".
التونسي الخارق وأزمةُ العنف
بعد أربعة أشهر فقط من هروب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، في 14 يناير 2011، على إثر الاحتجاجات الشعبية ضد نظامه البوليس، قررت التشكيلية والمصورة والمخرجة مفيدة فضيلة، انتقاد المؤسسات الحكومية التي سيطرت على الفنّ وحرية التعبير، من خلال مشروع "التونسي الخارق"، الذي استلهمته من الأوضاع الاجتماعية والسياسية الجديدة، بعد سقوط نظام بن علي. ارتدت فضيلة زيَّ "سوبرمان' (Superman)"، وجابت الشوارع، تحمل لافتة كُتب عليها "التونسي الخارق Super Tunisian))".
دعت فضيلة في مشروعها إلى بناء مجتمع جديد يتلائم مع الوضع الذي أفرزته الثورة، مشجعة على التصويت لمرشح وحيد هو "التونسي الخارق"، وهو التونسي العادي الذي استطاع الإطاحة بالنظام القديم. وفي ظلّ تلك اللحظة الثورية، كانت البلاد مفتوحة على مصراعيها أمام مختلف التيارات الفكرية الاسلاموية والمتشددة، التي سعت إلى استغلال هذه اللحظة وتحويلها لمصلحة ايديولوجيتها.
عبد الواحد المكني، أستاذ التاريخ المعاصر والأنتروبولوجيا التاريخية بالجامعة التونسية، يقول: "استمرَّ إقصاء المرأة من الفضاء العام في تونس خلال فترة الاستعمار وحتى بدايات الاستقلال. كانت ممارسة الفنّ، بجميع أشكاله، في الفضاءات العامة مرفوضة وتعتبر عديمة القيمة بالنسبة للرجال والنساء على حدّ سواء. واجهت فنانات مثل فضيلة ختمي، فتحية خيري، وحسيبة رشدي،(2) صعوبات كبيرة في بداية مسيرتهن الفنية".
أمّا بالنسبة للمشاركة الفعلية للنساء في الحياة العامة، بحسب المكني، فقد بدأت ملامحها تتبلور مع ظهور التحركات الطلابية في بداية السبعينات. ومع تخرج دفعات من المعلمات والممرضات اللواتي انخرطن في الحياة المهنية، وُضِعَ حجر الأساس لدخول المرأة إلى الفضاء العام وقبولها فيه.
الفنانات المعاصرات في الشارع
في 27 فبراير 2011، وفي خضم الحراك الثوري والاعتصام الذي شهدته ساحة الحكومة بالقصبة، والتغيرات السياسية التي عصفت بالبلاد، شاركت الفنانة التشكيلية فاتن الرويسي في حدث فنّي رمزي، برفقة مجموعة من طلبتها وفنانين\ ات آخرين، إضافة إلى مواطنين\ ات وشباب\ شابات. قامت الرويسي بطلاء وتلوين السيارات التي أُحرقها المتظاهرون\ ات في بطحاء ضاحية الكرم، شمال العاصمة. وتعود ملكية هذه السيارات لأصهار الرئيس السابق بن علي. و قد أحرقها التونسيون\ ات تعبيراً عن غضبهم وألمهم، لكن الرويسي قررت تحويل مشهد الدمار إلى لوحة فنية تعكس الأمل والحرية من خلال فعّالية "شارع الفن- الفن في الحي".
تقول فاتن الرويسي: "كفنانة، كنت أرى في السيارات المحروقة أشكالاً وأحجاماً في حالة ولادة. كانت بمثابة منحوتات كبيرة الحجم تُنتج طاقة فنيّة وجمالية، وقد ولّدت أعمالاً فنية معاصرة، حيث لعبت الصدفة دوراً كبيراً في تكوينها".
تتابع: " كان الهاجس الفني ممزوجاً بلحظة وعي وتساؤل عميق: هل سنواصل الحرق، أم سننتقل إلى مرحلة بناء تونس أخرى، ملونة، يكون فيها للثقافة والفنّ المعاصر مكانٌ بارز، بعيداً عن السياسات العمومية القديمة التي حصرت الفنّ في إطار الفولكلور والنسخ؟".
انطلقت حركة الرويسي الفنية في صباح يوم 27 فبراير 2011، واستمرت حتى ساعات متأخرة من اليوم نفسه. شارك فيها متطوعون\ ات، تحت حماية القوات الأمنية وبمباركة من البلدية. تحوّل فضاء حرق السيارات إلى ورشة عمل فنية، حيث تم تطويع الفضاء العام ليصبح مسرحاً للأحداث.
لم يبقَ من تلك السيارات الملونة سوى واحدة، وهي الآن معروضة في فناء"المدرسة الوطنية للهندسة المعمارية" بالعاصمة. بالإضافة إلى ذلك، نظّمت فاتن الرويسي معرضاً خلال شهر مارس من العام نفسه، تضمّن بعض الصور التي وثقت فيها تلك التجربة. عندما تقف الفنانة بجانب السيارة الوحيدة المتبقية، تشعر بغصة في الحلق لاعتقادها أن الفضاء العمومي لم يعد مفتوحاً أمامها كما كان من قبل، وذلك بسبب استعادة وزارة الداخلية لكامل سلطتها التعسفية. تتابع فاتن: "كانت مرحلة وانتهت، ما تغير اليوم هو فقدان الأمل في فاعلية استراتيجيات التغيير التي تطلقها مجموعات وتحالفات. قد يكون الفرد هو الاتجاه الحقيقي للتغيير وليس المجموعة، وقد تكون الأعمال الفردية المنفتحة على العالم أكثر جدوى من محاولة التغيير عبر الخروج للفضاء العمومي".
كسر الجدار الرابع
في قلب المدينة العتيقة بالعاصمة ، ومنذ عام 2007، اعتاد الجمهور على متابعة مغامرات يومية يدعو إليها مهرجان "دريم سيتي". يُعتبر هذا المهرجان شاملاً)، حيث يمنح مساحة مهمة للنساء، بما في ذلك المغنيات والممثلات والفنانات التشكيليات.
تنظم مهرجان "دريم سيتي" جمعية " الشارع فن ، التي تهدف إلى حفز الجمهور على إعادة اكتشاف المدينة العتيقة وأزقتها وحكاياتها المخفية. يتضمن المهرجان عروضاً للفنّ المعاصر والرقص والموسيقى والأداء المسرحي، بالإضافة إلى إنتاج تعابير فنية متعددة تتوافق والمقاييس الجديدة، ما يخلق تناغماً مع الفضاء الحضري والنسيج المعماري العمراني للمدينة.
تتذكر المسرحية والناقدة الصحفية سعاد بن سليمان مشاركتها في مهرجان "دريم سيتي"، عام 2010، حيث قدمت عرضاً مسرحياً في نهج سيدي بن عروس بعنوان "بادام بادام"، وهو اسم عنوان أغنية شهيرة للفنانة الفرنسية إديث بياف، تقول بن سليمان: "العرض هو أداء مسرحي يدوم قرابة الربع ساعة، ويؤسس لعلاقة مختلفة مع الجمهور، تخرج عن التقسيم الكلاسيكي الذي يميز بين الفضاء الركحي والجمهور. يتميز بتشكيل معماري جديد يكسر ما يُعرف في المسرح بـ "الجدار الرابع"، الذي يمثل الحاجز الفاصل بين الممثلين\ ات والجمهور. أما النص المسرحي، فهو متحرك ومتغير، حيث يعتمد على العلاقة المباشرة والحيّة مع الجمهور المتفاعل. في هذا السياق، تصبح الكتابة المسرحية في الفضاء العمومي كتابة للفضاء وللديكور، ويتم تقسيمها إلى مشاهد كما هو الحال في عالم السينما".
تتابع بن سليمان: " لا تتشابه العروض، فلكلّ عرض مذاق خاص يصنعه المارة الذين أخاطبهم بشكل مباشر ". لا تتذكر سعاد بن سليمان تعرضها لأي عنف من العابرين الذين استوقفهم الفضول أثناء عروضها. على العكس، تحتفظ بشعور قوي بالحرية وإحساس جارف بتملك ((s’approprierالشارع. تقول بن سلمان: " أحدَثَ مهرجان "دريم سيتي" ديناميكية وحركية اقتصادية في المدينة العتيقة، حيث ساهم في تعزيز وعي السكان بأهمية الثقافة والفن. تفاعل الناس بشكل كبير مع المهرجان، حيث قدم بعضهم مساعدتهم للفنانين\ ات عن طريق ا لسماح لهم باستخدام دكاكينهم كحجرة لتغيير الملابس أو إرشاد المارة إلى أماكن العروض الأخرى".
منَحَ الشارع، كمساحة للفن، سعاد علاقة أقوى بالمكان، تتابع: "للشارع سحره وألغازه، وبعض الشوارع تمتلك شحنة عاطفية أكثر من غيرها، لما تحمله من حكايات عن التحولات التي عاشتها تونس. وفى شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة طاقة مشعة ملهمة ومليئة بالرمزية والمعاني. يمثل هذا الشارع محوراً للنقاش والصراع بين القوى والتيارات المختلفة التي تسعى للسيطرة عليه، ولكن على الرغم من كل المحاولات، لا يزال فضاءً عصياً من على أي جهة كانت. الشارع لم يُقل كلمته الأخيرة بعد".
مسرحيّو تونس يواصلون "المسيرة" – جريدة الأخبار – 31\ 3\ 2012
فضيلة ختمي وحسيبة رشدي وفتحية خيري: ممثلات ومغنيات سطع نجمهن في بداية القرن العشرين في تونس
قيق بدعم المكتب التونسي لمؤسسة "روزا لوكسمبورغ".