أوضاع الصحافة الفلسطينية... مرآة لقصّة فلسطين

يعيش الصحافيون والصحافيات في فلسطين ظروفاً شديدة التعقيد، على غرار سائر المواطنين والمواطنات في الأراضي الفلسطينية. وحين يحاول أحدهم كشف حقيقةٍ حساسة أو صعبة، فذلك يعني حتماً تعرّضه للخطر، وصولاً أحياناً إلى الاغتيال المباشر، كما حصل مع الصحافية شيرين أبو عاقلة التي كانت تنقل مباشرةً ما تقترفه أيدي الاحتلال الإسرائيلي في مخيّم جنّين، حين أصابتها رصاصات الغدر القاتلة؛ فاعتُبر مقتلها حدثَ عام 2022 الأبرز في عالم الصحافة والحريات الإعلامية، وجريمةَ اغتيالٍ مُدبَّرة لـ"أيقونة الصحافة الفلسطينية".

بقلم الصحافية الفلسطينية مها زكي

بعد شهرٍ تقريباً من مقتل أبو شيرين أبو عاقلة في 11 أيار/مايو 2022، ارتكبت قوات الاحتلال جريمةً أخرى لا تقل بشاعةً، وقعت ضحيتها الصحافية غفران وراسنة، تحديداً في 1 حزيران/يونيو 2022، عند مدخل مخيّم العروب في مدينة الخليل جنوب الضفة الغربية المحتلة.

لكن المسألة في فلسطين لا تتوقف عند القتل الجسدي للصحافيين والصحافيات فحسب، بل تتعدّد وتتوالى أساليب الانتهاكات التي ينتهجها الاحتلال ضدهم، فتتراوح بين الاعتقال والضرب والمنع من التنقل والسفر وغيرها من الممارسات التقييدية والعنصرية، من دون أي حسيب أو رقيب. 

أما السبب الأبرز وراء محاولات الاحتلال الإسرائيلي التصدّي للعمل الصحافي، فهو، ببساطة، إسكات صوت الحق وطمس الحقيقة أو معاقبة مَن يتجرأ أن ينقلها.

للساحة الفلسطينية تاريخ طويل مع مهنة الصحافة والمُراسَلة التي عرفت حقباتٍ زمنية كثيرة وصعبة، لسنا بصدد العودة إليها كلها، لكن الأكيد أن تلك الصحافة لا تلبث تخرج من نهج تسلّط وقمع حتى تدخل حقبة تُعرّفها على نهجٍ أقسى، تماماً كما يحصل مع القضية الفلسطينية ككلّ. فمثلاً، منذ عام 1967 ولغاية عام 1993، أي الفترة التي استكمل فيها الاحتلال الإسرائيلي استيلاءه على كامل الأرض الفلسطينية مبتلعاً الضفة الغربية وقطاع غزة والشطر الشرقي من القدس المحتلة (حيث كانت هذه المناطق منذ العام 1948 ولغاية 1967 خاضعة للحكم الأردني والمصري)، والإسرائيليون يفرضون هيمنتَهم على كل مناحي الحياة، بما فيها الحياة الصحافية الفلسطينية التي تخضع لنوعَين من التشريعات: النوع الأول مرتبط بقانون المطبوعات لسنة 1933 الذي يُعتبر بمثابة التعديل الذي أجرته بريطانيا على قانون المطبوعات العثماني، والنوع الثاني هو قانون الدفاع أو قانون "الطوارئ" الذي صدر عن بريطانيا عام 1945 إبان حكمها لفلسطين؛ أما "القانون" الأقوى الذي باتت تخضع له، فهو تعسّف الاحتلال وبطشه، ولكن أيضاً، "ظلم الأقربين".

الصحافة الفلسطينية ضحية الاحتلال والرقابة الفلسطينية أيضاً

بعد عقودٍ من الزمن، انتقلت الصحافة في فلسطين إلى معاناة من نوعٍ آخر، هذه المرّة مع كلّ من الاحتلال والانقسام الفلسطيني الداخلي؛ عاملان قوّضا حرية التعبير والصحافة في الأراضي الفلسطينية.

اليوم، يسود الخطر المزمن وأشكالُ عنف عديدة على عمل الصحافيين والصحافيات الروتيني، بخاصة أولئك المعنيون بنقل المستجدات في الميدان، إذ غالباً ما يتعرّضون للاعتداءات والعنف النفسي والصدمات وحالات الخوف الشديد جرّاء رؤيتهم ونقلهم لمشاهد قاسية جداً خلال المعارك والمواجهات.

صحافيات كثيرات تحدّثن أيضاً عن تعرّضهن لأعراضٍ جسدية مزمنة، مثل فقدان الشهية وآلام المفاصل، وأوجاع المعدة، ودقات القلب المتسارعة، أو لأعراض سلوكية مثل محاولة تجنّب النوم خوفاً من الكوابيس المتكررة أو الأرق، وفقدان السيطرة على المشاعر والغضب الشديد.

علاوةً على ما سبق، يعاني الصحافيون والصحافيات من عنف رقابي داخلي، ومن عنف اقتصادي شديد، يتجلّى في صفوف الصحافيات المستقلات تحديداً، اللواتي لا يعرفن معنى الأمان الاقتصادي، وعادةً ما يفقدن مصدرَ دخلهن نتيجة استهداف الاحتلال منازلهن أو أمكان عملهن. كما أنهن يعانين من العنف الاجتماعي الذي لا يشجّع النساء الصحافيات على التغطية الميدانية في زمن الحرب عادةً، ويستبعدهن عن أماكن العمل، ويحرمهن من الحقوق العمالية، كالتعويضات في حال الإصابة أو الوفاة لعدم توفّر العقود الواضحة.

عام 2023 غير مُطمئن إطلاقاً

حديثاً، شهد الشهر الأول من العام 2023 ارتفاعاً لافتاً في أعداد الانتهاكات ضد الحريات الإعلامية في فلسطين إذ وثّق "مركز مدى للحريات الاعلامية" ما مجموعه 59 انتهاكاً خلال كانون الثاني/يناير، ارتكبت سلطات الاحتلال 44 انتهاكاً منها، في حين ارتكبت جهات فلسطينية مختلفة في الضفة الغربية وقطاع غزة 8 انتهاكات، وكانت وسائل التواصل الاجتماعي مسؤولة عن 7 انتهاكات.

يمثّل هذا الارتفاع ما مقداره 28 نقطة (أو نسبة 203%)، مقارنةً بما وُثّق خلال الشهر الذي سبقه (كانون الأول/ديسمبر 2022) الذي كان شهد 29 انتهاكاً، 20 انتهاكاً ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلية و6 انتهاكات ارتكبها مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي، و3 انتهاكات ارتكبتها جهات فلسطينية.

بالإضافة إلى ما سبق، وثّق المركز خلال شهر شباط/فبراير 2023، 15 انتهاكاً تمثّلت بالاستهداف لمنع التغطية، عن طريق رمي صحافيين وصحافيات بقنابل الغاز وتعريضهم للاختناق في المنطقة الشرقية في مدينة نابلس.

استُهدفت مجموعة أخرى بالرصاص المطاطي لمنعها من تغطية اقتحام المستوطنين لبلدة "عورتا" في نابلس، وأصابت إحدى الرصاصات كشاف كاميرا المصوّر ليث جعار وكسرته، كما احتجز عناصر الاحتلال المجموعة إلى حين انتهاء عمليات الاقتحام. الرصاص الحي أيضاً اقتربت من مراسلي قناة رؤيا ووكالة J-Media، خلال تغطية مواجهات جنين، ومُنع 4 صحافيون من تغطية الأحداث في بلدة "سلوان" جنوب المسجد الأقصى، ومُنع آخرَين من تغطية تجمّع المواطنين والمواطنات في بلدة "بيت حنينا"، رفضاً للإغلاق المفروض عليها... واللائحة تطول، إلى أن يأتي ما يضع الاحتلال -وممارساته المشينة- عند حدّه.

Exit mobile version