هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: English (الإنجليزية)
بقلم كلارا غطّاس- مُدوِّنة من لبنان
هل سمعت بفنّ عدم حشر الأنف بشؤون الآخرين؟ ليتنا نتقنه فيهتم كلٌّ منا بشؤونه الخاصة.
في الآونة الأخيرة، بدأت ظاهرة جديدة نوعاً ما تجتاح العالم. هي كراهية عنيفة تواجه المفكرين/ات الأحرار والفنانين/ات وأفراد الميم-عين والناشطين/ات الذين يسعون إلى إحداث تغيير مجتمعي جذري، وتدفع الناس إلى حشر أنوفهم في حيوات أناسٍ آخرين.
للأسف، بالنسبة إلى البعض، تشكّل هذه الشخصيات الشجاعة تهديداً للبشرية، لا بل تنذر بهلاك الإنسان. لذلك، فإن "البشر الطبيعيين" سَولت لهم أنفسهم الإساءة لهؤلاء الأشخاص وتجاهل حقهم/ن الأساسي في أن يتمتّعوا بحرية التفكير والرأي، فأخذوا على عاتقهم تحويل حياتهم/ن إلى جحيم.
مرّةً أخرى، ها هو الظالم يضطهد المظلوم.
وفي هذه الحالة، هل عليّ اعتبار أنّ ما نعيشه واقعٌ سليم، بما أننا نشأنا على فكرة أن كل ما هو جديد أو مختلف يجب مهاجمته على الفور، أم عليّ أن أعترف بصراحة أنّه ينبغي التعاطي مع ما يجري كلعبة تنمّر خطيرة؟ ليس هذا التنمر محصوراً بمكان واحد، بل على العكس، هو يتمدّد إلى جميع أنحاء العالم، ويقدّم نفسه بلا خجل كركنٍ أساسي من منصّات التواصل الاجتماعي.
واقعنا اليوم عبارةٌ عن لمحات نلتقطها من وسائل التواصل هذه، حيث بدأ قسم التعليقات أسفل كل منشور يتحوّل بشكل وحشي إلى هوّة عميقة بشعة ينبثق منها شكلٌ من أشكال الإساءة الملموسة، والفعليّة. لا يطيق البعض الاعتراف بأنّ الفنان/ة أو الناشط/ة أو الصحافي/ة يمكن أن يُثبت، رغم كل الظروف، أنّه قادر على كسب رزقه من المهنة أو المهمّة التي اختارها. فالشهرة والنجاح اللذان يمكن أن يحققهما يزعجان أحياناً الأشخاص التقليديين أصحاب الوظائف التقليدية.
اليوم، يناضل ناشطون/ات وفنانون/ات وأشخاص عاديون بكل جوارحهم/ن في سبيل قضية بالكاد يكرّس لها أصحاب القرار لحظةً من اهتمامهم للاعتراف بوجودها والسماح بالدفاع عن حقوقها والعمل على تعزيزها. يتعرّض باحثون وباحثات عن العدالة للسخرية من قِبل مجموعات كثيرة، وبشكل يومي، وتُردَّد على مسامعهم/ن العبارات نفسها: "إلى أين يظنون أنهم سيصلون، أيصدّقون أنهم سيغيرون العالم؟" أو "هذا الناشط ينتمي حتماً إلى حزب سياسي، وهدفه المال والشهرة فقط" أو "كم تحب الظهور وجذب الانتباه! أراهن أن زوجها دفع مبالغ طائلة كي تظهر على التلفزيون للمطالبة بحقوق قضية لم تسمع بها من قبل" أو "كل هؤلاء الناشطين/ات من عائلات ثرية"...هذه مجرد أمثلة، وقائمة الإهانات المغيظة تطول يوماً بعد يوم.
إذا سألتني عن السبب الحقيقي وراء هذه الكراهية المتفشية تجاه كل من يحاول دعوة مجتمعه/ا لاكتشاف سردية جديدة يمكن الاقتداء بها، سأقول إن الأمر يتعلق بنظرة المجتمع المغلوطة إلى هؤلاء الأشخاص الذين "انحرفوا" بشجاعة عن "القاعدة" وتبنوا قناعتهم الخاصة، لكننا كبشر نميل غالباً إلى السخرية من الآخرين كي نرضى أكثر عن أنفسنا، وما نحن عليه.
للمفارقة، يبدو أنّ الشعور بالغيرة ومهاجمة الآخرين لمجرد أنهم خطوا خطوة شجاعة وعبّروا عن أفكارهم أمر متجذر في طبيعتنا البشرية، ولكن عندما نخرج من الظل ونقف بدورنا تحت المجهر، سنطلب في سرّنا لو يقدّر الآخرون شجاعتنا ويثنون عليها لعلّنا نحقّق النجاح. وجميعنا يخاف من الوقوف تحت الأضواء ورفع الصوت أمام جمهور على أهبة الاستعداد لرشقه/ا بالبيض.
نسعى جميعنا لنيل التقدير مهما كان المجال الذي نعمل فيه، لذا، لا داعي لننقضّ على بعضنا البعض من أجل صب جمّ غضبنا على الناشطين/ات والفنانين/ات والصحافيين/ات والمفكرين/ات الأحرار ومجتمع الميم-عين.
لو اكترث كلٌ منا لشؤونه وخفّف من انتقاداته اللاذعة، قد تتمكن الأصوات التي يتم إسكاتها من التعبير عن رأيها بحرية من دون أن تخشى مروحة الألاعيب المسرحية التي يمارسها الجمهور من خلف شاشاتهم.
ليس خطأً أن يتمتع المرء بروح حرة متحررة من كل القيود.
وليس بالأمر الغريب أن يطالب المرء بحقه في أن يختار الشريك الذي ينسابه مهما كان جنسه وجندره.
وبالتأكيد، لا يجب أن يبدو غريباً أو مشبوهاً أن يكون المرء ناشطاً يضع إصبعه على العيوب الحقيقية الموجودة في المجتمع.
وليس خطأً أيضاً أن يعيش المرء حياة بسيطة بعيدة من الأضواء... ولكن لا داعي لأن ننبذ أياً مما سبق لمجرد أننا نواجه صعوبة في تقبّل كل ما هو جديد وغير مألوف بالنسبة إلينا.
حقاً، لا داعي لحشر أنوفنا في شؤون الآخرين.