هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
في الحقيقة، حاولتُ مراراً وتكراراً الكتابة، منذ أن خرجتُ من تلك الزنزانة المُظلمة والباردة، لكنني لم أفلح خوفاً من أن تكون تلك الغرفة الضيّقة اشتاقت لدموعي وصوتي الهزيل فتسحبني إليها من جديد، أو أن تكون تلك الأفرشة الزرقاء اشتاقت إلى جسدي المرهق، أو أن يكون ذاك السقف العالي اشتاق هو الآخر إلى عينَي الطوّاقتين حينها... إلى الحرية.
لم أكتب، لأن شيئاً ما في داخلي لم يكن يريد العودة إلى تلك الأيام التي قضيتُها داخل زنزانةٍ لأنني في الحقيقة كتبتُ وصوّرت وتكلّمت. وكم هو صعبٌ، ولا يزال، سردُ قصة اعتقالي أو توقيفي، وأنا لا أدري من أين أبدأ وأين أنتهي، ولم أصل بعد إلى النهاية أصلاً. نعم، هو نضالٌ إلى ما لا نهاية من أجل صحافة حرّة ومستقلة.
سأقضي الليلة في مركز أمن مقابلٍ لمقرّ أوّل وسيلةٍ إعلاميةٍ عملتُ فيها
ثاني أيام عيد الفطر، وبعد أيام من إحياء اليوم العالمي لحرية الصحافة، وتحديداً يوم الرابع عشر من أيار/مايو 2021، تمّ اعتقالي ووضعي "تحت النظر" إلى غاية يوم 18 أيار/مايو 2021.
بينما كنتُ برفقة عدد من الصحافيين والمصورين أغطي مسيرةً للحراك الشعبي الذي كان وصل إلى عامه الثالث على التوالي، تمّ توقيفي واقتيادي إلى مركز الأمن في الجزائر الوسطى -العاصمة. بقيتُ هناك إلى غاية الساعة الرابعة تقريباً، ليتمّ اقتيادي فيما بعد إلى مركز أمنٍ آخر. وهناك، لمحتُ زملاء صحافيين آخرين تمّ توقيفهم أيضاً.
ظننتُ أنّني سأغادر مركز الأمن بعد أن يتمّ استجوابي، لكنّ زملائي غادروه أما أنا فبقيتُ أنتظر. تأخرّ الوقت وبدأ الخوف ينتابني. وفي حدود الحادية عشر ليلاً، وبعد أن وُجّهت إليّ أسئلةٌ حول شخصي، وسبب تواجدي في مسيرة للحراك، أخبروني أنني سأقضي الليلة تحت النظر. وقّعتُ على "محضر سماع" واستفدت من حقي في الاتصال بأحد أفراد عائلتي.
كنتُ منهارةً ودموعي كادت أن تجفّ... أسئلةٌ كثيرة كانت تراودني، لم أجد لها أجوبةً من شدّة التعب والإرهاق. ثمّ تم اقتيادي إلى طبيب شرعي من أجل إجراء فحوصات، وفيما بعد إلى زنزانةٍ في قلب العاصمة، مقرّها مقابلٌ لمقرّ أوّل وسيلةٍ إعلاميةٍ عملتُ فيها بعد تخرّجي سنة 2014. نعم، يا لها من صدفة!

أنت صحافية وفقط
قد يبدو الأمر غريباً، لكنّني وبمجرّد دخولي إلى هناك، كان الشخص الأول الذي تبادر إلى ذهني، ليس أمّي ولا إخوتي ولا زملائي أو أصدقائي، بل كان وزير الاتصال آنذاك: كيفسينامالوزير؟
استلقيتُ على أحد تلك الأفرشة وضوءٌ أبيض في عيني زاد أفكاري تشويشاً. وجّهت إلى نفسي أسئلةً كثيرة، لكن اكتفيتُ بجوابٍ واحدٍ قبل أن يستسلم جسدي المرهق وأغطّ في نومٍ عميقٍ: أنت صحافية وفقط.
التضامن كان سندي طيلة تلك الأيام
وأنا في الزنزانة، زراتني المحامية زبيدة عسول، ثمّ أمّي وبعدها أخي. كانوا هم فقط الرابط بيني وبين ما يجري في الخارج.
سألتُ المحامية ما إن كان صحيحاً أنّ توقيفي ووضعي تحت النظر لم يثر اهتمام زملائي في الخارج مثلما أخبروني به هنا، أجابتني حائرة: على العكس، زملاؤك متضامنون معك.
أمّي التي زارتني في ثاني يومٍ على وصولي إلى هذا المكان، حضنتني وكأنّها تحضنني لأوّل مرّة، ثمّ أخبرتني أنّ العالم بأسره يتكلّم عنّي: "كنزة، العالم يتحدّث عمّا حدث لكِ، جميع القنوات تخبر عنكِ، ومنزلنا يعجّ بأشخاصٍ لا أعرفهم جاؤوا لمواساتي".
أخي الذي زارني في اليوم الموالي عانقني محاولاً إخفاء دموعه، وجّه عيناه الحمراوتان نحوي وقال: "أختي، بحجم الحرقة التي بداخلي بحجم الفرحة، أنا فخور بك وبمسيرتك، تضامنٌ واسعٌ تحظين به في الخارج". بالفعل، كان التضامن سندي طيلة تلك الأيام والساعات والدقائق والثواني التي قضيتها أنتظر مصيري.
هل سأُسجَن؟

خلال فترة اعتقالي، تمّت إعادة اقتيادي إلى مركز الأمن مرّةً واحدةً فقط، مُكبّلة اليدين، وطُلب منّي الرقم السري لهاتفي الذي تمّ حجزه. وطبعاً رفضت لأنّ القانون الجزائري يمنحني الحقّ في ذلك حفاظاً على مصادري كصحافية.
بتاريخ 18 أيار/مايو 2021، أخبروني في ساعةٍ مبكرة أنّه سيتمّ تقديمي أمام القضاء. عمّت فرحة داخل الزنزانة وهرولت إلى الدرج الخاص بي لأغيّر ملابسي وتوديع هذا المكان الخالي من الحياة.
كم كان الوقت يمرّ ببطء على الرغم من قرب المحكمة. وصلتُ وانتظرتُ داخل زنزانة أخرى أسفل مقرّ محكمة سيدي محمد في الجزائر العاصمة. كان ذلك أصعب يوم في حياتي. فهل سأُسجن، أم سأعود لأعانق الحرية؟
إغماء أمام القاضية
مثلتُ في البداية أمام قاضي التحقيق. وجّه إليّ أسئلة وأجبتُ عنها متشجّعة بالمحامين الذين رافقوني. خرجتُ وتمت إعادتي إلى أسفل المحكمة، وبعد مدّة من الزمن، أعاد أحد أعوان الأمن مرافقتي إلى الأعلى، حيث أعلمني المحامون بأنني سأمثل أمام القاضي في محاكمة فورية بقرار من قاضي التحقيق.
قضيتُ ساعاتٍ من الانتظار والدموع لم تفارق عينَي. حرارة جسمي انخفضت، دوران وغثيان، وأسئلةٌ حول الصحافة والإعلام ومصيري إن وُضعتُ خلف القضبان.
حانَ دوري لأن أمثل أمام القاضي. صعدتُ أدراجاً ملتوية، فُتح الباب أمامي، وها هم زملائي، أصدقائي، عائلتي وجمعٌ كبير جدّاً من المحامين والمحاميات. نادت عليّ القاضية لكنّ صوتها كان بعيداً، وازداد بعداً، إلى أن أغمي عليّ من شدّة التعب والخوف وأحاسيس أخرى لن أجيد وصفها.
بعد أن استعدتُ وعيي، سألتني القاضية ما إذا كنتُ أريد أن أحاكم اليوم، أجبتُ: إن قبلتُ المحاكمة، هل أعود إلى منزلي برفقة عائلتي؟ أجابت أنّني مُلزمة على الإجابة بنعم أو لا، فقرّرت تأجيل المحاكمة وأخلت سبيلي مع تأجيل المحاكمة أسبوعاً واحداً.
"مدير الإذاعة (راديو أم) إحسان القاضي، لم يقبل الاستقالة وأخبرني أنّني صحافية، ولا شيء ولا أحد سيمنعني من ممارسة هذه المهنة"
استنشقتُ طعم الحرية مُجدّدا، لكنّ الكابوس لم ينته
غادرتُ المحكمة وعُدت إلى بيتنا، استنشقتُ طعم الحرية مُجدّداً، لكنّ الكابوس لم ينتهٍ إذ وُجّهت إليّ تهم عديدة: المساس بالوحدة الوطنية، والتحريض على التجمهر غير المسلّح، والتجمهر غير المسلّح، ونشر منشورات من شأنها الإضرار بالمصلحة الوطنية وإهانة هيئة نظامية. تُهمٌ وُجّهت إليّ لأنني مارستُ مهنةً عشقتها وكانت حلم طفولة. أحبّ وطني ولن ولم أفكّر يوماً في تهديد وحدته أو الإضرار بمصلحته.
خلال المحاكمة الابتدائية، تمت تبرئتي من تهمة المساس بالوحدة الوطنية وتهم التجمهر، وتمّت إدانتي بثلاث أشهر حبس غير نافذة وغرامة مالية. في الاستئناف، برّأتني المحكمة من جميع التهم التي وُجّهت إليّ.
لا أحد سيمنعني من ممارسة هذه المهنة
بعد خروجي من الزنزانة، استغرقتُ وقتاً طويلاً قبل أن أعود إلى عملي. قدّمت استقالتي من إذاعة "راديو أم" لأنّ نفسيتي كانت مُرهقة جدّاً. مدير الإذاعة، إحسان القاضي، لم يقبل الاستقالة وأخبرني أنّني صحافية ولا شيء ولا أحد سيمنعني من ممارسة هذه المهنة.
بفضل التضامن الكبير الذي حظيتُ به من طرف الرأي العام والسند الكبير من زملائي في مهنة المتاعب ومن عائلتي، عُدت إلى تقديم الأخبار والحصص الإذاعية، وعُدتُ إلى كتابة والتغطيات الإعلامية. واصلتُ ممارسة هذه المهنة التي شكّلت حلمَ طفولةٍ يتحقق اليوم. فقضية اعتقالي ووضعي تحت النظر زادتني إصراراً على الاستمرار في إعلام الرأي العام.
الأفكار والكلمة الحرّة لا يُمكن أن تُسجن
اليوم، وفيما نُحيي اليوم العالمي لحرية الصحافة لسنة 2023، لا يزال مدير "راديو أم" يقبعُ وراء القضبان منذ 24 كانون الأول/ديسمبر 2022، وقد أُدين بخمس سنوات حبس، منها مدّة عامان "موقوفة". فقدتُ عملي، بعد أن تمّ تشميع مقرّ الإذاعة، إلّا أنني بتُّ مقتنعة جدّاً أنّ الجسد قد يُسجن والحيطان تُشمّع، نعم، لكنّ الأفكار والكلمة الحرة لن يُمكن أن تُسجن، مهما كثرت المحاولات واشتدّ القمع.