سنة من العيش مع الأشباح

كان عاماً من الاستقلالية والحرية والمواجهة الحقيقية مع الوحدة، في بيتٍ لا يملك مفتاحه أحد غيري، داخل غرفةٍ لا ينام على سريرها سواي، على كنبة لا تستسلم فوقها أي امرأة إلا أنا...

كنتُ خائفة من الأشباح، ومن الوحدة ومن نفسي. كل شيء كان يقلقني، وإذ شعرتُ بشيء من الضعف، مرّت في بالي فكرة أنّ هذا سببه أنني فتاة، ذلك أن لا وعينا كثيراً ما يربط الضعف بفكرة العزوبة وبفكرة المرأة. نحن لا نشفى من الأفكار التنميطية بالسهولة التي نخالها، حتى حين نظنّ ذلك، إنها معركة يومية، وتحدٍّ لا ينتهي، تخوضه كل واحدة مع نفسها، مع شبابيك غرفتها وغرف الآخرين، مع عقدة "ماذا ألبس اليوم"، و"لماذا تركني بلا سبب؟".

أفكار كثيرة اجتاحت رأسي وقتها. ماذا لو نجح أحدهم بالتسلق ووصل إلي وقتلني أو اغتصبني أو اعتدى عليّ؟ ماذا لو تعرّضت للسرقة وأنا بمفردي؟ كيف سأطلب النجدة وممّن؟ وكيف سأدافع عن نفسي وبماذا؟

حتى الآن أتأكد من قفل الباب أكثر من عشر مرات في الليلة الواحدة، وحين أتعب كثيراً وأشعر بأنه وقت البكاء، أخشى أن أغلق هاتفي أكثر من ساعة، لأنني أعرف أصابع الحزن وتعرفني، أدرك أنني في بعض الأحيان أعجز عن الصمود، وأبالغ في الانفجار فوق الوسادة التي لم ينجح الغسيل الأسبوعي في محو آثار الكحل عنها، ربما لأنه سقط عليها ممزوجاً بالدمع. أخشى العزلة التامة مع أنها أكثر ما أرغب به في أحيان كثيرة، وأخشى ألا يعرف أحد مكاني وأن يباغتني خطر أو خطب ما.

مضى عام على انتقالي إلى شقة للعيش بمفردي، ربما من حسن حظي أنني أحتفي بالمناسبة الآن تزامناً مع شهر الأعياد الدافئ، تماماً كبيتي الصغير. كان عاماً من الاستقلالية والحرية والمواجهة الحقيقية مع الوحدة، في بيت لا يملك مفتاحه أحد غيري، داخل غرفة لا ينام على سريرها سواي، على كنبة لا تستسلم فوقها أي امرأة إلا أنا، كل ليلة تقريباً.

"الاستقلالية مواجهة مع الحزن الثقيل الذي أجلسته لسنوات في طرف قلبي، فأصبح يشبه ضواحي المدن التي لا تُذكر، رغم أنها بطلة القصة"

حين اتخذت القرار يومذاك، شعرت بأنني أتجه إلى تغيير جذري، إثر صدمة نفسية هزتني من الداخل، شعرت بعدها بأن عليّ أن أنجو بنفسي وأهرب بعيداً، دون عودة. غيّرت عنواني، طريق بيتي، جيراني، المسارات التي أسلكها، المقاهي التي أرتادها، الأصدقاء الذين أقابلهم كل أسبوع، حتى ملابسي غيرتها... الأقداح، الصحون، مسحوق الغسيل، مسحوق الجلي...

في ليالٍ كثيرة أتحدّث مع نفسي بصوت عال، دون نكران ودون قفازات، أسخر منها، من هشاشتها أمام قصص الحب، ولأنها ما زالت تصدق أنه يحدث من النظرة الأولى. في ليال أخرى أواجه صورة أم كلثوم بكل ما قالته في أغانيها وأردّد بصوت جهور "أنا غيّرني عذابي بحبك لكن إنت غيرك إيه؟". لقد غيّرني عذاب الحب، إنه أمر اعترفت به حين سكنت بمفردي، غيّرني إلى حد عجزي عن فهم مزاجي ورغباتي في أحيان كثيرة.

الاستقلالية مواجهة مع كل ما قاومت النظر إليه، جروحي، الندوب التي كنت أسمّيها دروساً، الآن أسمّيها باسمها. مواجهة مع الحزن الثقيل الذي أجلسته لسنوات في طرف قلبي، فأصبح يشبه ضواحي المدن التي لا تُذكر، رغم أنها بطلة القصة.

هناك أمر آخر تعلّمته من الجلوس على الشرفة مساءً وحدي، أن أرشق العالم بلا رحمة، أن أرشقه بما رشقني به وأن أجازف في رمي الذين قهروا قلبي من الشرفة، تماماً كقشر الفستق، حتى تدهسهم الأرجل والسيارات. ليس ذلك بداعي الحقد، إنما من باب التخفف.

مضى عام كامل أيها البيت الصغير... ونحن بخير، وكل شيء على ما يرام، تنقصنا فقط ليلة حب أخرى، وكؤوس نبيذ بديلة عن التي كسرتها ذات استرسال...

Exit mobile version