"الأدب النسائي"... ماذا تعني هذه التسمية؟

لماذا يُوصف الأدب، بخلاف غيره من الفنون، بالنسائي، حين تمارسه نساء؟ وما خلفيات هذا الوصف التاريخية؟

بقلم كاهنة عباس -  محامية وكاتبة تونسيّة

غالباً ما يُوصف الأدب الذي تنتجه النساء بـ"الأدب النسائي"، وهو وصفٌ يكاد ينفرد به الأدب دون غيره من الفنون كالسينما والنحت والفن التشكيلي والغناء وغيرها من الإنتاجات الإبداعية، إذ لم تعتدْ وسائل الإعلام أو  المجلات العلمية أو المتخصصة بشأنٍ ما، على إسناده إلى السينما مثلاً، أو إلى الفن التشكيلي الذي لا نراه ينُعت بكونه "نسائياً" إذا ما أنجزته نساء. ربّما أُلصقت صفة "النسائي" بالمسرح في غير مناسبة، لكنّ هذا الإلصاق بقي قليل التداول والانتشار، على عكس ثنائي "الأدب" و"النساء". 

من هنا، أطرح السؤال: لماذا يُوصف الأدب، بشكلٍ شبه حصري، ومن قبل مجموعة كبيرة من النقّاد والأدباء والأديبات والإعلاميين/ات، بالنسائي، حين تمارسه نساء؟ وما خلفيات هذا الوصف وآثاره؟

متخصّصون/ات كثر تناولوا هذه المسألة عن طريق الرجوع إلى خصائص هذا الأدب والمواضيع التي يطرحها مقارنةً بالأدب عموماً، إلا أن هذه المقاربة  سرعان ما أفضت إلى نوع من الالتباس والضبابية لمعنى المصطلح، وذلك لأسباب عدّة من بينها أن المرأة حتّى ولو تناولت بعض المواضيع من زاوية مختلفة عن الرجل، فهي تبقى تتشارك وإياه الإرث الثقافي واللغوي والمشهدي نفسه تقريباً، وباتت تتشارك وإياه اهتمامات علمية وحياتية كثيرة. ولهذا السبب، اخترنا إسقاط هذه الحجة والبحث عن زاوية أخرى لا تعتمد مواضيع المؤلَّفات النسائية كمنطلق لوصف أدبٍ ما بالنسائي.

الحقيقة برأيي تكمن في أن المرأة الكاتبة والأديبة تستخدم اللّغة أداةً للإبداع، أي لغايات تعبيرية وفنيّة، لتتمكّن بالدرجة الأولى من تجاوز منطقة الصمت التي استقرت فيها مدّة قرون، لا بل فضّل المجتمع والسلطة أن يبقيها عالقةً فيها، وبالتالي، من الإفصاح عن رؤيتها للعالم والآخر والذات وعدم الاكتفاء بدور الناقلة للقيم الثقافية من خلال الأدوار المتوقّعة منها كأمّ أو مربيّة، فتضطلع عبر اللغة والإبداع بدورها كفاعلة ومبدعة ومتملكة لناصية اللغة، أي أداة النقل والتعبير، ما قد يفسّر لنا جزءاً من الأسباب التي جعلت الأدب واللغة من ورائه (والمسرح بدرجة أقل تداولاً) يختصان بهذه التسمية دون السينما والفن التشكيلي والنحت وغيرها من الفنون. فالصورة، وإن كانت مُحمّلة بالرموز القويّة، تنقل حدثاً أو مشهداً، ويبقى أثرها على النفس وتشكّلها وامتدادها ذات آثار محدودة بالمقارنة مع اللغة التي تمتلك قدرة هائلة على نقل القيم والمعاني داخل ثقافة ما وإحداث قطيعة مع سياسة الصمت المفروضة على شرائح معيّنة من المجتمع.

هناك أسباب أخرى قد تفسّر لنا خلفيّة تسمية بعض الأدب بالنسائي، يمكن القول إنها تاريخية في جوهرها، تعود إلى ما عرفته المجتمعات الغربية من تحوّلات أثناء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مع بروز كتابات نسائية كانت تسعى إلى تعزيز حضور المرأة في الساحة الأدبية نظراً إلى تهميشها الممنهج والواضح آنذاك وعدم الاعتراف بها كمبدعة اعتقاداً من الرجال والمجتمع عموماً أن دورها الأساسي كان يجب أن يبقى مقتصراً على الاعتناء بأسرتها. والأدب كفنّ خاص، علاوةً على قيمته الإبداعية، يسعى بشكل كبير إلى الكشف عن عوالم الإنسان الداخليّة من أهواء وأحاسيس وصراعات وتناقضات وانكسارات، أي الجوانب التي عادةً ما لا تجيز القيم الاجتماعية ظهورها إلا بطرائق وسياقات معينة، حفاظاً على استقرار وتماسك يتبيّن أن ما تطرحه سرديّات النساء الأدبية -بصرف النظر عن مستواها الجمالي- من إشكاليات وتساؤلات وملاحظات، ستزعزعهما لا محالة، كون المرأة الكاتبة هي غالباً الطرف الآخر إمّا المُغيّب أو المختلف أو الخاضع أو الصامت سابقاً، فيأتي الإنتاج الأدبي المستند إلى الخزّان اللغوي الفسيح لمدّ هذه المرأة بإمكانية تبوّء موقعٍ جديد، وصورةٍ جديدة، لا بل هوية جديدة مختلفة ومكانة اجتماعية بديلة. لكن في تلك الفكرة فخّاً أيضاً، إذ يمكن أن يكون أحد دواعي التفرقة بين الإبداع الأدبي النسائي والآخر الخاص بالرجال، طريقةً لترسيخ هيمنة القاعدة القديمة الجديدة، أي استمرارية احتلال الرجال للموقع الأدبي الأول والنساء للموقع الثانوي أو الاستثنائي.

الكاتبة والأديبة تستخدم اللّغة لتتمكّن بالدرجة الأولى من تجاوز منطقة الصمت التي استقرت فيها مدّة قرون

على صعيد آخر، من المهم الإشارة إلى الوظيفة التأريخية للأدب وإسهاماته الوفيرة في توثيق مراحل زمنيّة وفي تشكيل المجتمعات صورتها عن نفسها. والكثير من الثقافات والأحداث التاريخية والقديمة وصلتنا بالفعل عن طريق الشعر والمقامة والنص المسرحي والرواية وغيرها من الأجناس الأدبية التي لا تقل أهمية عمّا تركه لنا المؤرخون/ات من معلومات وموروثات، لا بل بإمكان الأدب أن يجعل تلك الأخيرة أكثر وضوحاً ودقّة وعمقاً. وللأسف، لم تشارك النساء كما ينبغي في صناعة هذا النوع من الأدب الذي يخدم التأريخ، لما فُرض عليهن من أعباء ومسؤوليات رعائية مهولة أدّت إلى تهميشهن ليكون هذا التهميش أداةً سياسية يبقيهنّ  في الموقع الثانوي في الحياة كما في الأدب ويبعدهنّ عن توثيق التاريخ الجاري من حولهنّ.

أما القول إنّ الكاتبات ينتمين إلى ما يُسمّى بـ"الأدب النسائي" لأن أسلوبهن يتّسم بشيء من الذاتية أو الانفعال والاندفاع، فلقولٌ خاطئ لأن في إظهار الاندفاع أو العواطف خصائص لا تقتصر على الأدب الذي تدوّنه نساء، بل يعجّ بها أدب الرجال أيضاً الذين يرتوون من الإرث الثقافي والعاطفي والإنساني اللغوي نفسه، من حيث المبدأ. من هنا، لتسمية "الأدب النسائي" جذور يمكن وصفها بالإيديولوجية إذاً، لأنها لا تضع هذا الأدب في مرتبة ثانوية فحسب، بل تؤدّي في مكانٍ ما إلى فصله عن الأدب عموماً، وإخفاء الجوانب الأنثوية منه في خانة "الأدب الآخر"، هي التي لطالما وُصفت بالهشة والضعيفة والخانعة.

اليوم وقد دخلت النساء مجال اللغة والأدب من بابهما العريض كما لم نعهد من قبل، من المثير للاهتمام  ترقّب كيف سينمو الأدب عموماً، وكيف ستتبدّل تسمياته، وما سيكشف لنا، خلال العقود المقبلة، من جوانب جديدة في حيواتنا لم يُكتب عنها أو يُفكّر بها سابقاً بالقدر الذي تستحق.

Exit mobile version