حين بان جزءٌ من ظهري وخشينا الفضيحة

ماذا لو لم نُهدّد في صغرنا بخطورة أن تبان ظهورنا أو أجزاء من صدورنا؟ ماذا لو لم نُحذّر مراراً وتكراراً من أجسادنا ومن عارٍ مفترض؟ ماذا لو لم يكترث أحد لظهر فتاة بان وهي تنزل من الميكروباص؟ هل كانت لتحدث هذه القطيعة بيننا وبين أجسادنا؟

بقلم مناهل السهوي- صحافية سورية

على غرار معظم الفتيات السوريات والعربيات، بدأ الخوف من جسدي باكراً. لم أكن من أولئك الصغيرات اللواتي كانت أمّهاتهن تلبسهن فساتين قصيرة أو مكشوفة البطن. ولم أكن طفلاً ذكراً يُنظر إليه بفخر وهو يركض عارياً خلال سنواته الأولى، أو تنبهر بعضوه الذكري العائلة والمحيط. على العكس، كانت الأمّهات من حولي يحرصن على عدم خروج الطفلات عاريات أو بثيابهن داخلية. وتلك بنظري شكّلت الخطوة الأولى في عمليّة تحذير الصغيرات من أجسادهن المكشوفة إلى أجلٍ غير معروف.

مع تقدّم الفتيات بالسنّ، تتطور أساليب التحذير والتخويف لتصبح أكثر قسوة وصرامة. فلو فتحت الطفلة قدميها أثناء الجلوس، ستُؤمر بإغلاقهما بنبرة يسود عليها التهديد واللّوم. ستُحذّر على الدوام لو تسلّقت شجرة أو ركبت درّاجة هوائية، خوفاً من "تمزّقها" وفقدانها غشاء البكارة من دون قصد، ليوازي فتحُ القدمين لدى الفتيات معنى الخسارة ومعها التهديد والخوف، مدعوماً بحكايات وإثباتات من قبيل "الحلوة المكشوفة والنمل الذي سيهجم عليها". هنا تبدأ معظم الفتيات بالالتزام بالتعليمات الصارمة على حساب راحتهن ونموهن الجنسي الطبيعي، لأن الرقيب سيأمرهن، حتى لو كُنَّ بمفردهن، بإغلاق أقدامهن. لا تُجبر الفتاة على تغطية جسدها وحسب، بل على تجاهل وجوده من أصله. لكي تُقبل في محيطها الصارم، لا بد أن تثبت أن جسدها لا يعني لها شيئاً وأنها لم تفكر فيه يوماً حتّى، إنما هي فقط حريصة على تحضيره ليصبح جسد الأم والزوجة والكنّة، لا جسدها هي.

خلال مراهقتي، كنا نستخدم في القرية ما يُدعى بالميكروباص للتنقل، وهذا الباص الصغير عبارة عن مركبة ذات سقف منخفض، ما استوجب منّا الانحناء للتمكّن من الصعود والنزول في كل مرّة اضطررنا إلى ركوبه. خلال هذه العملية الشاقة، قد ترتفع الكنزة أو القميص ويظهر جزء من ظهر الإنسان. في مكان آخر، الأرجح أن كل تلك الحكاية ما كان ليكون لها أي أهمية على الإطلاق، لكن في قريتنا الصغيرة، كان الركاب يتهامسون على الفتاة التي يظهر جزءٌ من ظهرها من دون قصد، وسريعاً ما كان ينتقل الخبر داخل القرية وكان يبدأ من حفلة انتقادات لجميع الفتيات اللواتي لم يحرصن على تغطية أجسادهن، ليُذكر لاحقاً اسم الفتاة ضمن جملة "فلانة بيّن ضهرا اليوم بالسرفيس، ما تلبس كنزة أطول شوي!".

كان الأمر معيباً بطريقة دفعتنا نحن المراهقات للإمساك بكنزاتنا من الخلف وشدّها نحو الأسفل لدرجة مطّها لحدودها القصوى. ففي كل مرة كنا نركب بها الميكروباص، كان الأمر مرعباً لنا بالفعل، إلى أن أوجدنا ذات يوم الحل السحري لهذه المعضلة "الأخلاقية"، والحل كان ارتداء لباس داخلي تحت الثياب، كان أقرب إلى ما تُلبسه الأمهات للرضّع ويُغلق بأزرار بين القدمين. كنّا ندعوه "بربتوز". هو لباس داخلي بشيالين، يُغلق بين القدمين بثلاث كبسات. وهكذا، حينما ترتفع الكنزة، سيكون "البربتوز" موجوداً ليمنع جلدنا من الظهور أثناء نزولنا وصعودنا من وإلى الميكروباص.

لم يكن ارتداء ذاك اللباس الطفولي مريحاً البتة. كأنني كنتُ أرتدي درعاً حديدياً. في تلك المرحلة، لم أشعر براحة يوماً، لا جسدياً ولا نفسياً، لذا حين كبرت، بدأت أتخلص منه شيئاً فشيئاً. أولاً، استبدلته بلباس داخلي بشيال عادي، أي الصنف الذي لا تتمة له تُغلق بين القدمين، ثم تخلصت من اللباس الداخلي كله إلى الأبد، لكن بقيت أشد كنزتي في كل مرة كنت أنزل من المكيروباص، نحو الأسفل. أما اليوم، فيبدو لي ذلك اللباس، بخاصة الذي يُغلق بين الفخذين، مثيراً للتقزز. فبالنسبة إلي، بات أقرب إلى لباس هدفه تغطية العضو الأنثوي والإغلاق عليه للتأكد من أنه محمي من بعبع الانتهاك.

الحجاب هو أي قطعة قماش تستخدم لإخفاء جسد الفتاة نتيجة تهديدات مباشرة أو غير مباشرة،
فتعتاده الفتيات في عقولهن قبل اعتياده على رؤوسهن

تنتشر ممارسات تغطية أجساد النساء في الكثير من مجتمعاتنا، مع بعض الاختلافات بين مجتمع وآخر، وديانة وأخرى، وطائفة وأخرى. في مدينتي وحدها، كانت بعض المناطق تجد في ارتداء كنزات بلا أكمام شيئاً منافياً للأخلاق، على عكس الكنزات نصف الكم المقبولة اجتماعياً. حتى اللباس الضيق كان يحصد الكثير من الانتقادات في معظم أنحاء المدينة. أما بناطيل الجلد، فكانت بمثابة العار نفسه، وكانت في أذهان الناس أقرب إلى لباس مَن تُطلق عليهم تسمية "بنات الليل". تنوّعت مجتمعاتنا إذاً بين مجتمعات تحرص على تغطية ظهور بناتها وبطونهن وأخرى على تغطية أيديهن وأقدامهن، ما يعني أن الحجاب لم يكن أبداً مخصّصاً للرأس فقط، لأنه أخذ، في الواقع، ألف شكل وشكل. الحجاب هو أي قطعة قماش تستخدم لإخفاء جسد الفتاة نتيجة تهديدات مباشرة أو غير مباشرة، فتعتاده الفتيات في عقولهن قبل اعتياده على رؤوسهن.

أما الآن فأفكّر، ماذا لو لم نُهدّد في صغرنا بخطورة أن تبان ظهورنا أو أجزاء من صدورنا؟ ماذا لو لم نُحذّر مراراً وتكراراً من أجسادنا ومن عارٍ مفترض؟ ماذا لو لم يكترث أحد لظهر فتاة بان وهي تنزل من الميكروباص؟  هل كانت لتحدث هذه القطيعة بيننا وبين أجسادنا وبين الآخر وأجسادنا؟

أفكر في قطع الملابس التي اخترناها تبعاً لما يلائم المجتمع لا ذائقتنا، فتجاهلنا فستاناً سحرنا لأنه ليس طويلاً بما يكفي، أو كنزة جميلة لأن صدرها مكشوف أو قماشها شفاف تبان حمالة الصدر من خلفه، وتنازلنا عن تنورة لأنها قصيرة وعن الشورتات بشكل شبه كامل... فتحولت ذائقتنا لممارسة انتقائية تخدم فكرة تخبئة الجسد.

اليوم وأنا أجرّب الكثير من الثياب بقياسات وأشكال مختلفة مُحاولةً اكتشاف ذائقتي الخاصة بعد ثلاثين عاماً، بدت لي التجربة ممتعة ومريحة في الوقت ذاته. فاليوم، لا يمنعني شيء عن شراء قطعة ملابس سوى سعرها العالي أو لأنها ببساطة لم تعجبني. لا أبتاعها لهذه الأسباب. لا أعود أفكّر بكيف ومتى سأتمكن من ارتدائها. أتخيّل نفسي في مدينة أمشي في طرقاتها من دون أن ينظر المشاة إلى ساقَي أو ظهري، ومن دون أن أثقل روحي بفكرة تخبئة جسدي. وبذلك، أتخفف من النظرات المستهجنة قبل التخفف من ثياب أُرغمت على ارتدائها.

Exit mobile version