هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
وصلتني دعوة للذهاب إلى أعماق الريف في منطقة "رغيب" في وسط تونس وفي ثنايا ريفها من نسرين عامري، وهي ممثلّة لوكالة الطاقة الشمسية في رغيب، تبلغ من العمر 26 عاماً. التقيت بنسرين في 11 كانون الأول/ديسمبر 2021 في مؤتمر "الحركات الاجتماعية والمواطنة" الذي نظّمه المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية(1). كانت برفقة صديقتها انتصار عكروتي، 25 عاماً، عاطلة من العمل، على رغم حيازتها على شهادتين جامعيّتين. حضرت الصبيتان معاً إلى المؤتمر من أجل تقديم شهادة عن ظروف العمل في رغيب، ووسائل نقل النساء الريفيات العاملات هناك، وهو موضوع لمحترف أدارته جمعية "أصوات نساء" الشريكة في المؤتمر.
في ذلك اليوم، أثارت نسرين مشاعر الحضور عندما ذكرت بالتفاصيل الدقيقة قصّة كلبها "كلاش" الذي كان الرفيق الأمين والمواظب لأمّها نبيهة التي كانت، عند كل صباح، تغذّ السير في الأراضي المحيطة وتذرع كيلومتراتٍ عدّة من أجل قطف الأعشاب وبراعم النباتات وسيقانها. كان ذلك طعاماً ثميناً تقدّمه لماشيتها النحيلة بدلاً من التبن الذي كان باهظ الثمن بالنسبة لميزانية العائلة المتواضعة. لكن في يوم من الأيام، وأثناء قيام نبيهة بتحميل العربة (البطاح) بثقل الأغصان الذي كان يرهق كاهلها، انقلبت العربة المتهالكة عليها وشلّت حركتها.
"سمع الكلب "كلاش" شكواها وأنينها فجاء ليعلمنا بالحادث الذي تعرّضت له أمي وبالمكان الذي وقعت فيه. وحده الكلب كان قادراً على التعاطف مع أمّي ومع عبء عملها الثقيل. لكن "كلاش" مات منذ فترة وجيزة وصارت أمّي تذهب في الصباح الباكر إلى الحقول من دون ملاكها الحارس!". بهذه الجملة، أنهت نسرين روايتها التي نقلتها لنا بصوتٍ خنقته الدموع.
نسرين عمري تروي في قصر المؤتمرات في تونس العمل الشاق الذي قامت به والدتها ، نبيهة: "فقط كلبي كلاش شعر بالتعاطف مع والدتي". فيديو ألفة بالحصين
الرحلة إلى نبيهة
اللقاء في المؤتمر، والذي تم بمحض الصدفة، فتح لي الطريق نحو أرضية غنية ومؤثرة، في وقتٍ كنت أتحضر لأن أسلك طريقاً آخر للبدء بسلسلة التقارير الصحافيّة حول النساء الريفيات في بلادي. حذفت نسرين بظاهر كفّها الواثق آخر آثار تردّدي حين أكّدت لي: "في رغيب، كل النساء عاملات ريفيات، أو على الأقل مارسن هذا النشاط في فترة ما من حياتهن. كل الفتيات يكرّسن أنفسهنّ لأعمال الأرض منذ نعومة أظافرهنّ. منهنّ من يعملن من أجل تأمين مستلزماتهن المدرسية، وأخريات يعملن لمساعدة أمهاتهنّ في قطاف الزيتون، أو لكسب مصروفهنّ اليومي، إذ غالباً ما يجدن أنفسهنّ مجبرات على العودة إلى العمل الزراعي حتّى بعد إنهاء دراساتهنّ الثانوية والجامعية لأن عروض العمل للمتخرّجين/ات تظل محدودة للغاية في المنطقة".
تدعوني نسرين: "تعالي إلى رغيب، سترين ذلك بنفسك. أضيفي إلى ذلك أننا الآن في منتصف الموسم الذي تحصل فيه العاملات المياومات الزراعيات على أفضل الأجور إذ يكنّ مطلوبات للغاية من أجل قطاف الزيتون. يصل الأجر الذي تتقاضاه العاملة إلى عشرين ديناراً (6,13 يورو) في اليوم، بدلاً من عشرة دنانير ( 3,06 يورو) أو ثلاثة عشر ديناراً ( 3,98 يورو) في الأوقات العادية. تعالي إلى رغيب، وسنقدّم لك المنامة والطعام."
بالكاد مرّ يومان على هذه المحادثة حتى أخذتني نفسي إلى منطقة نبيهة.
يد عاملة تتألف بغالبيتها من النساء
تقع بلدة رغيب الصغيرة على بعد 280 كلم من تونس و 37 كلم جنوب شرق سيدي بوزيد التي كانت مهد الثورة التونسية ما بين كانون الأول/ديسمبر 2010 – وكانون الثاني/يناير 2011. كانت ثورة الناس المهمّشين/ات، المزارعين/ات، والمعذبين/ات في الأرض الذين فتك بهم شعورهم بالازدراء ومصدره السلطة السياسية التي دائماً ما فضّلت ضمن مشاريعها التنموية المناطق الساحلية على تونس الداخلية، المطبوعة بطابع العمل الزراعي والفلاحي، حيث تبرز النساء كأهم قوة عمل إذ يشكّلن ما يقارب 80٪ من اليد العاملة الزراعية حسب الأرقام التي أعلنتها وزارة المرأة التونسية.
نبيهة واعية بلا شك لقيمة وقوة عملها. وكونها لا تنال أجراً مقابله، فإنها تقوم ببعض مهامها للحفاظ على استمرارية امتيازاتها المنزلية.
تتبع مدينة رغيب لولاية سيدي بوزيد التي تُعتبر بمثابة بستان يغذي شريحة واسعة من التونسيين/ات إذ يُصدّر منها 30 ٪ من مجمل الإنتاج الزراعي التونسي. تمتد الأراضي فيها على بقع شاسعة، وتتوالى فيها أطراف طرقات حقول الزيتون واللوز وأشجار المشمش والبساتين المزروعة بالجزر والبصل والفول ونصبات الكروم. كذلك، فيها معاصر زيتون يملكها المستثمرون/ات والمشغّلون/ات الأثرياء الذين يعودون بأصولهم إلى منطقة صفاقس وإلى الساحل، وبعضهم يصدّر نتاج المعاصر إلى الخارج مما يؤكد على مكانة زراعات الزيتون في هذه المنطقة. هناك أيضاً قطعان من الخراف والماعز والعجول تتبدّى من بعيد في حقول الرعي. عرفت هذه المنطقة ذات الطقس الجاف أو شبه الجاف معدّل أمطار قليل جداً خلال السنين الأربع الماضية. فعلى امتداد كيلومترات، تبدو الأشجار المثمرة وأشجار الزيتون الصغيرة وكأنها أحرقت حيّة بسبب الجفاف والعطش.
في يوم الاثنين 13 كانون الأوّل/ديسمبر هذا، اتجهنا بعد الظهر نحو بيت العامري في منطقة سيدي عامر التي تقع على بعد11 كم عن رغيب. تستمد المنطقة اسمها من اسم الولي الذي تنحدر منه القبيلة التي استقرت اليوم فيها وعُرفت باسم العوامرية، وإليها ينتمي والد نسرين. كان يوماً من أيام السوق اليومي، ممّا يفسّر فراغ المزراع المستثمرة. لكن سرعان ما تدفّقت النساء إليها في اليوم التالي، منذ الفجر، "في الساعة التي يبيضّ فيها الريف...".
جسد أنهكته الشمس والبرد
طول البيت الصغير الواقع وسط حقول الزيتون في نهاية طريق وعر كيلومتر ونصف. هو منزل متواضع لم يُستكمل بناء بعض من أجزائه. قاعته الرئيسية مبنيّة من اللِبن وقد تمّ توسيعها تدريجياً مع ولادة الأطفال الستة للوالدين عبداللطيف ونبيهة عامري. هو في الستين وهي في الثامنة والخمسين. تمتد ملكيتهما على مساحة أربع هكتارات. الماء نادر وثمين هنا لأن الأرض لم ترتبط بعد بالشبكة الوطنية لتوزيع الماء الجاري. من أجل تلبية حاجات العائلة من الماء، هناك بئر تُستخدم ماؤه للأعمال المنزلية، وخزان يتغذى بشكل منتظم بالماء الصالح للشرب والذي تشتريه العائلة من تجمّع للتنمية الزراعية. مقابل ذلك، هناك وفرة من الكوسكوس بالدجاج الذي تتم تربيته في القنّ الصغير التابع إلى مزرعة العائلة. أما الخضار في الطبخة، فتأتي من بستان نبيهة، وزيت الزيتون الذي يعطّر طعم الأعشاب الطازجة داخل سلطة الخيار فيُستخرج من بستان الزيتون الذي يملكه آل العامري.
الضيافة جزء من لباقة الفقراء
يتشاركون طعام العشاء في جو دافئ ومسترخِ، على طاولتين منخفضتين اصطفتا بجانب مرتبتين موضوعتين على الأرض مباشرة. نرى مدفأة تخفّف من برد الأمسية. نبيهة قليلة الكلام وتخدم جميع الذين يأكلون من دون أن تفارق الابتسامة شفاهها. لم تبدأ بالحديث عن عملها اليومي إلا بعد أن انتهى العشاء وغادر أفراد عائلتها، أي زوجها وأولادها الستة، كلّ إلى مشاغله الخاصة. وما بين التلميح والبوح، يمر شريط حياتها كفلاحة صغيرة استهلك جسدها على امتداد سنوات وهرم وامتلأ بالتجاعيد بتأثير من الشمس والهواء والبرد، وكلّ ذلك في سبيل استخراج أقصى ما يمكن من الموارد الطبيعية.
عندما رُزقت بابني الأول أعلنتُ لزوجي بإصرار: "أريد لابني وكل الذين سيأتون بعده أن ينهوا دراستهم". عندما كنت صغيرة، كنت تلميذة لامعة لكني أجبرت على التخلي عن الدراسة في عمر العشر سنوات تنفيذاً لرغبة شقيقي الأكبر الذي كان رسب في صفّه مرّات عدّة، وبالتالي لم يعد يستطيع أن يشاركني طريق المدرسة الطويل. انتابني آنذاك شعور رهيب بالاحباط. عندها أجابني عبد اللطيف (اسم الزوج): أنا موافق. لكن بالمقابل لا تطلبي مني أن اقدم لك أي كماليات، ولا حتى ثوب للعيد". لم أتوقف عن العمل منذ ذلك اليوم على أمل أن أجعل أطفالي يربحون ما فقدته أنا".
نبيهة المناضلة
وُلدت نبيهة في "درعا"، وهي قرية قريبة من سيدي بوزيد حيث كان والدها يعمل في تقليم شجر الزيتون. في سن الخامسة والعشرين وحتى الثلاثين، أي عندما كان أطفالها لا يزالون في المدرسة الابتدائية، كانت نبيهة تنهض في الرابعة صباحاً لكي تهتم بعنزاتها وتقلم أشجار الزيتون وتنظّف حديقة خضارها من الأعشاب الضارة.
بعد هذا النشاط، أي حوالي الساعة الخامسة صباحاً، كانت تذهب إلى الفرن مقابل بيتها لكي تحضّر على الحطب خبز الكِسرة المستدير المحلي المصنوع من السميد الناعم، وتقدّمه فطوراً لأولادها. ثمّ تتجه نحو الحقول لتبحث عن الأعشاب والأوراق والبراعم لكي تجدّد مخزون الطعام لحيواناتها.
"ليس هناك حقل واحد من شجر الزيتون في المناطق المجاورة لم أذرعه. كنت أسير أكثر من خمسة كيلومترات وكانت هذه المهمة تستغرق كل يوم ثلاث أو أربع ساعات تقريباً. في إحدى المرّات، التقى بزوجي رجل ينحدر من صفاقس كان يملك مزرعة واسعة مجاورة للاستثمار، وقال له: "عليك أن تحافظ على زوجتك وكأنها نور عينيك، وتغلق عليها جفونك لكي تحميها وتثبت لها عرفانك!". كم مرة أُصبت بحوادث! كم مرة وقعت مع الحمل الثقيل الذي كان على أكتافي! كم مرة قام الحمار الذي يجر العربة بركلي! لا شيء كان يمنعني من أن أستمر في الاستيقاظ في الثالثة صباحاً في الصيف، وبعدها بقليل في الشتاء. الأطفال المسجلون في المدرسة ثم في الثانوية والذين يقيمون في مدرسة داخلية يكلفون ثروة طائلة"، تتذكر نبيهة وهي تضحك وتبكي في الوقت نفسه.
عندما كانت معدلات الأمطار قليلة، كانت نبيهة تشارك في شهري أيار/مايو وحزيران/يونيو في حصاد القمح في أراضي عائلة زوجها على الجانب الآخر من طريق السفر الواسع. بعد ذلك، تحوّلت هذه المساحات الواسعة التي تُركت مهملة إلى أدغال. كلفة الري صارت لا تُحتمل بالنسبة لصغار الفلاحين/ات في المنطقة. فوقعوا بالتالي فريسة الفقر وتحت تأثير ارتفاع أسعار الإنتاج الزراعي وتقلبات الطقس.
يحفر عبد اللطيف اليوم مع ابنه البكر الآبار بحثاً عن الماء من أجل المزارعين/ات من الجيران. أما الأم، فلم تكن تسمح لنفسها بدقيقة واحدة من الراحة عندما تعود إلى بيتها. فبعد أن تنتهي من المهام المنزلية، كانت تركب النول وتظل تعمل عليه حتى الليل من أجل أن تنتج سجادة المرغوم بألوانها الصارخة، وكذلك الأغطية والبرانس، وكلها أشياء معدة بشكل أساسي للاستهلاك الداخلي عندما لا تفيد في توفير بعض المال. ونبيهة واعية بلا شك لقيمة وقوة عملها. وكونها لا تنال أجراً مقابله، فإنها تقوم ببعض مهامها للحفاظ على استمرارية امتيازاتها المنزلية.
لا أهمية لآلام ظهرها المزمنة وللروماتيزم الذي يؤلمها ولضغطها المتقلب. فقد استطاعت نبيهة أن تحقق أمنيتها القديمة ولم يبقَ عندها سوى أن تساعد ابنتها الصغيرة حتى تصل إلى مرفأ السلامة في دراساتها العليا للميكانيك في صفاقس. ربحت الرهان تقريباً، حتى ولو أن أي من أولادها حصل على وظيفة ثابتة تتناسب مع تضحياتها كأم شجاعة. تعبّر عما يملؤها فخراً بابتسامة تضيء وجهها الجميل الملوّح بالشمس. "أولاد الناس في منطقتنا بالكاد يصلون إلى المدرسة الثانوية. الناس هنا يحترمون جهودنا أنا وزوجي لأننا استطعنا أن ننجح في تعليم أبنائنا".