بوستر فيلم "صوت هند رجب"
في قاعة مكتظة بالمشاهدين/ات وبعد انتهاء عرض فيلم "صوت هند رجب" خلال فعاليات مهرجان فينيسيا السينمائي، ساد صمت ثقيل لثوانٍ بعد إسدال الستار، قبل أن ينفجر المكان بتصفيق حار وطويل. كان التصفيق هذه المرة أبعد من تكريم فيلم سينمائي، بل أشبه بتحية لطفلة غزّية ناشدت العالم وهي تواجه الموت وحيدة، قبل أن يخبو صوتها إلى الأبد.
لا يستعيد فيلم "صوت هند رجب" للمخرجة التونسية كوثر بن هنية مجرد مشهد من الحرب، بل يوثّق اللحظات الأخيرة للطفلة الفلسطينية هند رجب، ابنة الأعوام الخمسة، التي حوصرت داخل سيارة عائلتها تحت القصف الإسرائيلي لساعات طويلة. ظلّت على تواصل مع طواقم الإسعاف والدفاع المدني، تصف ما يحيط بها وتستغيث لإنقاذها، قبل أن ينقطع الاتصال فجأة. وبعد اثني عشر يوماً من الانتظار، عُثر على جثمانها الصغير ممزقاً برصاص الاحتلال، إلى جانب أفراد أسرتها، وهم والدها وزوجة والدها وأخوَاها، محمد ورغد وابنة خالها، كما قُتل المسعفين الذين حاولوا انقاذها وهم يوسف زينو وأحمد المدهون.
منذ اللحظة الأولى لعرض فيلم صوت هند رجب، بدا أن صرخة الطفلة تخطّت حدود غزة لتلامس ضمير العالم. فالتصفيق الحار، في قاعة العرض بمهرجان فينيسيا السينمائي، لم يكن مجرد تحية لعمل سينمائي، بل اعترافاً بنداء طفلة أجبر الجميع على مواجهة قسوة الحرب.
انعكس هذا الأثر أيضاً على الغزيين والغزّيات الذين استقبلوا الفيلم بمزيج من الفخر والوجع، معتبرين أنه أعاد صوتاً حاولت الحرب طمسه، ومنح هند حياة ثانية تمثل كل أطفال غزة، مؤكداً أن خلف كلّ رقم اسم وحكاية ووجهاً نابضاً بالحياة.
ويذكر، أن فيلم "صوت هند رجب" فاز بجائزة الأسد الفضي في الدورة الـ82 من مهرجان البندقية السينمائي الدولي.
ليس مجرد سينما
المسعفة في الهلال الأحمر رنا الفقيه، التي كانت على تواصل مع هند أثناء محاصرتها، وظهر صوتها في التسجيل الصوتي الذي وثّق تلك اللحظات، عاشت مجدداً تفاصيل ذلك المشهد بكل ألمه حين شاهدت الفيلم، حيث جسدت الممثلة سجى الكيلاني دورها. ارتجف جسدها وهي تسمع صوت هند يتردّد على الشاشة، وقالت في حديثها لـ "ميدفيمنسوية": "حين دوّى التصفيق الحار في قاعة العرض، غلبتني دموعي، كان المشهد أكبر من مجرد استقبال لفيلم، كان لحظة شعرت فيها أن الجمهور يصفّق لهند رجب، للطفلة التي ناشدت العالم وهي تصارع الموت، ولطاقم الهلال الأحمر الذي خاطر بحياته للوصول إليها، حينها فقط أدركت أن معاناة هند لم تبقَ حبيسة غزة، بل وصلت إلى العالم كله."
قبل العرض الرسمي، اجتمع فريق الهلال الأحمر لمشاهدة الفيلم في قاعة الاجتماعات داخل المركز الذي يعملون فيه. لم تكن رنا تتابع المشاهد بقدر ما كانت تعيش النداء الذي ظل يرنّ في عقلها وقلبها منذ تلك الليلة. تقول: "شعرت أنني أعود إلى اللحظة ذاتها بكل ألمها. صوتها لم يغادرني يوماً، لكنه في الفيلم أعادني إلى الجرح وكأنه يُفتح من جديد."
ويُعتبر دور رنا في الفيلم جزءاً لا يتجزأ من القصة التي عاشتها هند. هذا ما دفع المخرجة كوثر بن هنية إلى الاجتماع معها ومع فريق الهلال الأحمر الفلسطيني لسرد تفاصيل ما جرى خلال حصار الطفلة وقتلها لاحقاً، لتعيدهم إلى تلك اللحظة التي حاولوا فيها إنقاذ الطفلة. وكان زملاؤها أحمد ويوسف جزءاً من الحكاية أيضاً، فقد اندفعوا لإنقاذ هند لحظة الحادثة، فيما كانت رصاصات جنود الاحتلال أقرب إليهم من أي شيء آخر.
وفي السياق نفسه
تؤكد رنا قائلة: "هند ليست رقماً، تماماً كما أن أي طفل أو امرأة أو رجل هنا ليسوا أرقاماً. خلف كل رقم اسم وحكاية وحياة، وهذه هي الحقيقة التي نحاول أن نصرخ بها."
في الميدان، تدرك رنا وزملاؤها أن عملهم محفوف بالخطر، ومع ذلك تبقى تجربة هند استثنائية. تقول رنا: "اعتدنا تلقي مناشدات عبر الهاتف، لكن للمرة الأولى سمعنا طفلة تصرخ وهي تشعر بالموت يقترب. كانت طواقمنا على بُعد خطوات منها، لكنها استُهدفت قبل أن تصل.. وكان ذلك أقسى ما يمكن أن نعيشه."
الفيلم يحاكي صرخات أطفال وطفلات غزة
ترى الشابة نداء جبر، 33 عاماً، أم لطفلتين وفقدت ثلاثاً من بنات شقيقتها في الحرب وما زالت ذاكرتها مثقلة بتفاصيل الوجع، أن الفيلم حمل بعداً آخر. تقول: "الفيلم لم يكن مجرد مشاهد سينمائية. شاهدت بعض المقتطفات عبر مواقع التواصل وشعرت أنه لا يروي قصة هند وحدها، بل قصة خوف وصرخات جميع أطفال غزة، منهم من يستغيث تحت الأنقاض، ومنهم من فقد عائلته ونجا وحيداً، وآخرون تركوا منازلهم وألعابهم ونزحوا مع عائلاتهم مجبرين، ليحملوا أعباء تفوق طاقتهم وتسرق براءة طفولتهم."
"في كل مرة أسمع فيها صوت هند يستغيث، أتذكر فوراً أطفال شقيقتي ولاء حين قصف الاحتلال منزلهم فوق رؤوسهم. ربما كانوا يستغيثون ويصرخون طلباً للنجدة، لكن لم يسمعهم أحد. "
وتضيف: "في كل مرة أسمع فيها صوت هند يستغيث، أتذكر فوراً أطفال شقيقتي ولاء حين قصف الاحتلال منزلهم فوق رؤوسهم. ربما كانوا يستغيثون ويصرخون طلباً للنجدة، لكن لم يسمعهم أحد. الفاعل واحد، والإبادة تطال كلّ أهالي قطاع غزة، وهذا ما يزرع في داخلي شعوراً مرعباً تجاه مصير ابنتَيّ."
وتكمل نداء قائلة: "عندما سمعت صوت تصفيق الجمهور في قاعة العرض، تمنيت لو يصل صداه إلى كل بيت في غزة، وإلى كل بيت في العالم. ربما هذا يشعرنا بوجودنا ووجود أطفالنا وطفلاتنا. فهم/ن ليسوا/ن أرقاماً، بل امتلكوا/ن قصصاً وأحلاماً، وكانوا يتمنون/ن لو عاشوا/ن وكبروا/ن وحققوها."
منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، يُقتل نحو 27 طفلاً وطفلة يومياً على يد الاحتلال، أي ما يعادل صفاً دراسياً كاملاً من الطفلات والأطفال تُزهق أرواحهم بلا رحمة كل يوم.
ومنذ انتهاء وقف إطلاق النار في 18 آذار/مارس، ارتفع عدد الطفلات والأطفال القتلى إلى 1309، فيما أصيب 3738 آخرون/ات. وبحسب المدير الإقليمي لليونيسف في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إدوارد بيجبيدر، فإن إجمالي الأطفال والطفلات الذين قتلوا/ن أو أصيبوا/ن منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023 تجاوز 50 ألف طفلاً وطفلةً.
"أبٌ يعرف تماماً ما معنى أن يتعرض طفله لأي خطر"
محمد منذر، 40 عاماً، أب لأربعة أطفال، نجوا من قصف إسرائيلي استهدف المربع السكني الذي كانوا يقيمون فيه في مخيم جباليا قبل نزوحهم إلى مدينة دير البلح جنوب القطاع إثر تهديدات جيش الاحتلال، يقول: "تابعت الفيلم بدموع متواصلة. عشت اللحظة كأب يعرف تماماً ما معنى أن يتعرض طفله لأي خطر. يود في هذه اللحظة لو يستطيع أن يفتح قلبه ويضعه فيه ليحميه من الخطر. ولو تعثر أحد أبنائي أثناء سيره، أهرع إليه قلقاً عليه. هذا بالضبط ما شعرت به بصوت الطفلة هند، التي كانت تستغيث وتطلب النجدة، لكن صوتها قُطع حين قتله الجيش الإسرائيلي."
يتابع محمد: "كنت أسمع صوتها الطفولي كأنه صوت أولادي يصرخون. الفيلم أعاد إليّ الكابوس حين نجوت أنا وعائلتي من القصف، وفي الوقت نفسه، هو بمثابة إدانة للعالم ووصمة عار على جبين الاحتلال الإسرائيلي الذي قتل طفلة بلا ذنب."
يتابع محمد: "سيبقى التساؤل: بأي ذنب قُتلت هند؟ إنه لعنة تطارد الاحتلال في كلّ مكان. بالنسبة لنا كغزيين وغزيات، شعرنا بالفخر لأن قضيتنا العادلة تُجسَّد أمام العالم في كل المحافل، سواء عبر الإعلام أو السينما، مع التضامن العالمي
صوت أم هند
أما وسام حمادة، والدة هند، فقد كان وقع الفيلم عليها أشد وطأة. وفي اتصال مع BBC، عبّرت عن مشاعر يغلبها الحزن: "لا أستطيع مشاهدة الفيلم. عندما أسمع صوتها من جديد وهي تستغيث بالعالم لإنقاذها، تعود إليّ الذكرى المؤلمة لرحيلها، وأشعر بالانهيار."
وتكمل أم هند عن الفيلم: "إنه تخليد لذكراها. الفيلم انعكاس لواقع أطفال غزة، وصورة صادقة لقساوة ما عاشته وهي تناشد من أجل حياتها، ليبقى صوتها حيّاً للأجيال القادمة. فإذا صمت الإعلام يوماً، سيبقى الفيلم شاهداً".




























