أم أحمد مع طفليها المصابين بطيف التوحد – تصوير: عبلة العلمي
في قلب قطاع غزة، تختبئ خلف خيمة ممزّقة حكاية أمّ لا تطلب سوى حفاضات لطفليها اللذين يعيشان مع طيف التوحّد.
وسط خيمة لا تقي من الحرّ ولا البرد، تعيش أم أحمد مع أربعة أطفال، بينهم أحمد وعمر، كلاهما من ذوي طيف التوحّد. أحمد يعاني نوبات صرع حادّة بسبب فرط الكهرباء في الدماغ، فيما يعاني عمر ضعفاً عضلياً يمنعه من المشي. كلاهما غير ناطقَين، ويتواصلان عبر نظرات وإشارات لا يفهمها سوى قلب أمّهما.
تقول أم أحمد: "أنا لا أطبّق ما تعلّمته في التربية الخاصة، أنا أعيشه بكل تفاصيله. كل لحظة معركة، وكل يوم اختبار لصمودي كأمّ وإنسانة."
غياب مقومات الحياة وخلط الطحين بالرمل
في غزة، أزمة الحفاضات لا تعني مجرد نقص سلعة استهلاكية، فالحفاضات اليومية ليست رفاهية، بل الحد الأدنى الضروري لرعاية الطفل. لكن الأم لم تعد تجد واحدة بسهولة، فالأسعار مرتفعة بشكل جنوني، والانقطاع شبه دائم.
تقول أم أحمد: "أحياناً أضطر لاستخدام قطع قماش غير صالحة أو نايلون... الوضع مهين، ليس لي فقط، بل لأطفالي الذين لا يستطيعون حتى التعبير عن انزعاجهم".
غياب الحفاضات لا يمسُّ النظافة فحسب، بل يضاعف الألم الجسدي والنفسي للأطفال، ويحوّل رعاية أبسط احتياجاتهم إلى فعل قسري، يفتقر إلى أدنى درجات الإنسانية والكرامة.
في لحظة قهر ويأس، ومع إغلاق المعابر وانقطاع الطحين، اضطرت أم أحمد لخلط الطحين بالرمل لتطعم أطفالها. لم يكن هذا خياراً، بل ضرورة فرضها الجوع.
كان الأطفال يبكون جوعاً، وهي عاجزة عن توفير لقمة تسد رمقهم. تقول أم أحمد وعيونها مليئة بالدموع: "لم يكن هناك شيء يؤكل… خلطت الطحين بالرمل وقدمته لهم. بكيت معهم، لكنهم كانوا جائعين."

أطفال/ات التوحد فقدوا/ن نظامهم في الحرب
رغم محاولات الأم لتوفير العلاج، لم تعد المهدئات التي يحتاجها أحمد بسبب نوبات الكهرباء متوفرة، جراء استمرار الحرب المدمرة على قطاع غزة.
أما عمر، فالعلاج الذي كان من المفترض أن يساعده على تجاوز أعراض التوحد والضعف العضلي الطرفي قد توقف تماماً، لا دواء، ولا جلسات تأهيل، ولا حتى استشارة طبية.
تؤكد أم أحمد أن انقطاع العلاج لا يقتصر على توقف الإجراءات الطبية فحسب، بل يعني حرمان طفل من مستقبل كان يمكن أن يحرز فيه تقدّماً ويكتسب مهارات لو توفّرت له الرعاية المناسبة.
"أنا لا أطبّق ما تعلّمته في التربية الخاصة، أنا أعيشه بكل تفاصيله. كل لحظة معركة، وكل يوم اختبار لصمودي كأمّ وإنسانة."
اليوم، يمشي عمر بصعوبة بالغة، صامتاً، عاجزاً عن التعبير عن احتياجاته أو آلامه، ويواجه الحياة بلا أي دعم طبي أو إنساني. كلّ خطوة بالنسبة إليه معركة، وكلّ يوم يمضي يثقل شعوره بالعجز والحرمان، فيما يبقى حلمه بالتطوّر والتواصل مع العالم محجوباً خلف جدران الحرب والجوع والفقر.
نوال عسقول، دكتورة وأخصائية نفسية، تعلق على الحالة قائلة: "أطفال وطفلات التوحد لا يتكيفون/ن بسهولة مع أي وضع بيئي مقارنة بالأطفال/ات الآخرين/ات. هم يحبون/ن النظام ويكرهون/ن الفوضى، وأشياؤهم/ن دائماً لها ترتيب محدد في أدمغتهم/ن. عندما حلّت الخيمة محل المنزل، اضطروا/ن لتغيير الخرائط الذهنية بالكامل ليتمكنوا/ن من التكيف مجدداً."
وتضيف: "انقطاع العلاج أدى إلى انتكاسة في الجهاز العصبي المركزي لديهم/ن، فتحدث حالات من الاضطراب والتشتت التي يعجزون ويعجزن عن التعبير عنها، فيستمرون/ن بالصراخ والسلوك العدواني. عدم توفر الحفاضات تسبب بأمراض جلدية متنوعة، وأدى إلى شعور بالاكتئاب والدونية، إذ يصبح الطفل أو الطفلة عاجزاً/ةً عن تلبية احتياجات جسده/ا الخاصة."
وتختم عسقول حديثها: "نحتاج إلى طاقم متخصص في التربية الخاصة للوصول إلى كلّ أطفال وطفلات التوحد، لمساعدتهم/ن على فهم مشاعرهم/ن والتعبير عنها، وتحسين سلوكياتهم/ن التي أخلّت الحرب بتوازنهم."
فقدان الابنة...جرحٌ لا يندمل
وسط هذه المعاناة، فقدت أم أحمد ابنتها البالغة من العمر سبع سنوات خلال العدوان المستمر على قطاع غزة. كانت الطفلة سنداً لأمها في رعاية إخوتها، ورفيقةً في لحظات الانهيار، ورحيلها فجّر وجعاً جديداً لا يحتمل.
تقول أم أحمد: "كانت ابنتي كل شيء… رحلت وتركتني وحيدة في هذا الجحيم".
رغم كل شيء، لا تزال أم أحمد متمسكة بالأمل، وختمت قائلة: "كلنا أمل بالله، ثم بالإعلام والناس الطيبين، أن نؤمن لأطفالنا أبسط احتياجاتهم".
قصة أم أحمد ليست حالة فردية، بل هي صوت آلاف الأمهات اللواتي يكافحن بصمت، لا تلتقطه الكاميرات ولا يسمعه سوى من اختار الإصغاء، إذ تخوض صراعاً يومياً لتأمين الكرامة لأطفالها، في واقعٍ تختبئ خلفه معاناة أطفال صامتين، وأمهات لا يعرفن النوم، وخيم لا توفّر أي شعور بالأمان.




























