"طاقتي خلصت"، تقول فايزة، وهي نازحة سورية من اللاذقية إلى منطقة عكار شمالي لبنان. فايزة فرت مع عائلتها قبل أكثر من شهر، بعدما باتت الحياة في منطقتها صعبة وخطيرة إثر المجازر التي استهدفت أبناء وبنات الأقلية العلوية في الساحل السوري. وتضيف: "نحن لا علاقة لنا بأي شيء، كل ما نريده هو أن نعيش بسلام ونحمي أطفالنا."
بدأت المجازر في 6 آذار/ مارس، حين دخلت جماعات مسلّحة ومتطرفة إلى قرى الساحل، فقتلت رجالاً ونساءً وأطفالاً، ونهبت وأحرقت البيوت. ومن بين هذه الجماعات أجانب وفصائل تابعة للحكومة السورية الجديدة. ووفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان، تجاوز عدد ضحايا المجازر 1600 قتيل وقتيلة.(1)
تتابع فايزة في حديثها إلى "ميدفيمنسوية": "وصلنا إلى هنا، وفي البداية سكنّا عند أقربائنا، لكن لا يمكن أن نبقى في بيوت الناس إلى الأبد. حاولت استئجار منزل لي ولأطفالي الخمسة، لكن الأمر شبه مستحيل، فالإيجارات مرتفعة جداً، ونحن لا نملك هذه المبالغ. بالكاد نتمكن من تأمين قوت يومنا."
حال فايزة يشبه حال الكثير من النساء السوريات النازحات من مناطق الساحل السوري، من بينها حوادث خطف طالت فتيات وسيدات، لا يزال معظمهن في عداد المفقودات. والمقلق أن بعض هذه العمليات وقعت في وضح النهار وفي أماكن عامة ومزدحمة، ما يعكس حجم الخطر الذي يهدد النساء في سوريا اليوم، حتى في المساحات التي يُفترض أن تكون آمنة.(2)

بعد مرور أكثر من شهرين على المجازر، لا تزال أعداد النازحين/ ات من الساحل السوري المنكوب إلى شمال لبنان في تزايد مستمر. ومع هذا النزوح، تتكشف فصول جديدة من المعاناة الإنسانية، تتصدرها نساء وجدن أنفسهن يصارعن ليس فقط شبح الجوع، بل أيضاً فقدان الخصوصية وتجاهل احتياجاتهن الأساسية.
كلّ ذلك في ظل غياب مراكز الإيواء وغياب الاهتمام الكافي بحاجات الوافدين/ ات عموماً، والنساء خصوصاً، لا سيما أن بينهنّ أمهات ومرضعات، ما يضاعف الأعباء اليومية عليهن.
وبحسب مفوضية اللاجئين،(3) فرّ أكثر من 27 ألف شخص من سوريا (7189 عائلة سورية و453 عائلة لبنانية) على خلفية أعمال العنف الأخيرة، غالبيتهم من النساء والأطفال. ويحاول هؤلاء النازحون/ ات الاستقرار في نحو 35 بلدة وقرية ضمن محافظتي عكار والشمال في لبنان.
وجدت هذه العائلات نفسها أمام واقع مرير، إذ باتت الإقامة في قاعات المساجد، والساحات العامة، والأبنية المهجورة مصيراً محتوماً لمعظمهم، نتيجة العجز عن تأمين مساكن لائقة، بحسب ما يؤكد ناشطون محليون.
ووفق بعض سكان المنطقة، فإن نحو 90% من العائلات لا تملك مأوى، ما يعني غياب أي شكل من أشكال الخصوصية وتجاهل الحاجات الأساسية، الأمر الذي يعرّض النساء بشكل خاص لشتى أنواع المعاناة والمخاطر.
"لا حمّامات، لا فوط صحية، لا وجبات غذائية، ولا راحة"، تقول إحدى النازحات لموقع "ميدفيمنسوية"، قبل أن تسأل بمرارة: "أين نذهب بأنفسنا؟ في سوريا حرب، وهنا نعيش في تشرد وقهر. هل القهر قدرنا؟"
"الحاجات الأساسية مثل الفوط الصحية لم نحصل عليها سوى مرة واحدة فقط، في باقي المرات، اضطررت أنا والنساء الأخريات في المنزل إلى استخدام أقمشة مهترئة بدلاً منها، بسبب ارتفاع أسعار الفوط وعدم قدرتنا على شرائها."
"لا نستطيع حتى أن نأخذ حريتنا"... فقدان الخصوصية يضاعف المعاناة
تصف وفاء، التي نزحت من قرية أرزونة وتعيش حالياً مع صديقتها صونيا وعائلتها، الوضع المأساوي للنساء قائلة: "الوضع بالنسبة لنا كنساء صعب جداً، خاصة مع اضطرار عشرة أشخاص لاستخدام مرحاض واحد، غالباً ما تنقطع عنه المياه."
وتضيف بأسى: "الوضع يبدو أكثر تعقيداً بالنسبة لي كامرأة، لأنني لا أستطيع أن أتصرف بحريتي بوجود عائلة أخرى داخل المنزل."
هذا الشعور بفقدان الخصوصية يتكرر في شهادات العديد من النساء، اللواتي يجدن صعوبة في التأقلم مع العيش في أماكن مكتظة، تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة الكريمة، مما يفاقم الضغوط النفسية عليهن.
ويُضاف إلى ذلك تحدٍّ لا يقل قسوة: تأمين لقمة العيش، فغالبية من نزح من قرى الساحل المشتعلة لا يملكون/ ن القدرة على الصمود لأشهر من دون عمل، أو مدخول، أو مساعدات منتظمة.
تتحدث وفاء أيضاً عن صعوبة تأمين الاحتياجات الأساسية للنساء، وتقول: "الحاجات الأساسية مثل الفوط الصحية لم نحصل عليها سوى مرة واحدة فقط، في باقي المرات، اضطررت أنا والنساء الأخريات في المنزل إلى استخدام أقمشة مهترئة بدلاً منها، بسبب ارتفاع أسعار الفوط وعدم قدرتنا على شرائها."
هذه الشهادة تسلط الضوء على إهمال واضح لاحتياجات النساء الخاصة من قبل المنظمات الإغاثية، ما يضعهن في مواقف صعبة ومحرجة، ويزيد من هشاشة أوضاعهن الصحية والنفسية.
"وجبة واحدة في اليوم".. شبح الجوع يلاحق العائلات
إلى جانب فقدان الخصوصية، تواجه النساء النازحات خطر الجوع بسبب النقص الحاد في المساعدات. تروي مها، التي نزحت من ريف حمص، معاناتها قائلة: "المساعدات محدودة جداً، فمنذ وصولي إلى لبنان حصلت على حصة غذائية واحدة فقط، لا تكفي لشهر، بالإضافة إلى بعض مواد التنظيف وثلاث فرشات فقط."
وتضيف أن جمعية "كاريتاس" تقدم وجبة غداء واحدة يومياً، وهو ما يؤكده الناشط علي عبدو، الذي يستقبل النازحين في منزله لتوزيع ما يتوفر من وجبات.
هذا الواقع يعني أن غالبية النساء النازحات يعتمدن على وجبة واحدة فقط في اليوم، بينما يصارعن لتأمين الطعام لأنفسهن وأطفالهن في بقية الأوقات، ما يفاقم من معاناتهن الجسدية والنفسية.
ولا تتوقف المعاناة عند هذا الحد، إذ تتفاقم بسبب محدودية الوصول إلى الخدمات الصحية الأساسية. يشير تقرير المفوضية السامية لشؤون اللاجئين إلى أن الحصول على الرعاية الطبية لا يزال محدوداً للغاية، لا سيما في القرى النائية. وتزداد حدة هذه الأزمة بالنسبة للنساء الحوامل والمرضعات، اللواتي يفتقرن إلى الرعاية اللازمة قبل وبعد الولادة، ما يعرض حياتهن وحياة أطفالهن للخطر.

نداء استغاثة
في ظل هذا الوضع الإنساني المتردي، تتصاعد المخاوف من كارثة جديدة تلوح في الأفق. فبينما نجت هؤلاء النساء من أهوال الحرب والقصف، وجدن أنفسهن في مواجهة خطر آخر: الجوع، والإهمال، وتجاهل احتياجاتهن الأساسية.
وإذا استمر هذا التقاعس من قبل المنظمات الدولية والجهات المعنية، فإن مستقبل النازحات يبدو قاتماً، حيث يصارعن من أجل البقاء في ظروف قاسية تهدد كرامتهن، وصحتهن، وحياتهن.