هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية)
مقتل فاطمة ألمني لدرجة الغصب لأيام متواصلة، فهي شابة في بداية عمرها، ولها ابتسامة مليئة بالتفاؤل. رغم كل ما أحاط بها من ألم، حاولت فاطمة أن تحافظ على رباطة جأشها، وأن تستمر هي وعدسة كاميرتها بتصوير وتوثيق ما يحدث في غزة في ظل الحرب الدامية التي قتلت أكثر من 52 الفا معظمهم من الأطفال والنساء، وخلفت قصصا مأساوية لن يكون الوقت قادرًا على مداواة جراحاتها.... رحلت فاطمة وبقيت عدستها شاهدة على صحفية شجاعة أرادت أن تتلكم وتوصل صوت الغزيين من خلال صورها... رحلت فاطمة وبقي صوتها وصورها، لتظل كلماتها الأخيرة كوصية تُرجف القلب:
"إذا متُّ، أريد موتًا صاخبًا لا أريد أن يكون موتي مجرد خبر عاجل، أو مجرد رقم في مجموعة، أريد موتًا يسمعه العالم، وأثرًا يبقى عبر الزمن، وصورة خالدة لا يمحى أثرها بمرور الزمان أو المكان".
ليس من السهل تخيل الواقع الذي يعيشه الصحفيون في غزة، هم وحدهم الآن في معركة لا منتهية من القتل والدمار والحصار، حاورنا الصحفية الفلسطينية في غزة دعاء شاهين، حيث وصفت لنا دعاء الوضع بقولها: "أكتب وأوثّق وأنا أعلم تمامًا أنني أضع حياتي على المحك. شعور مزدوج بين الخوف والمسؤولية. الخوف من أن تكون هذه هي القصة الأخيرة التي أرويها، والمسؤولية تجاه قضيتي الفلسطينية والأحداث الجارية بغزة في ظل الإبادة، بأن أنقل الحقيقة التي يحاول الاحتلال دفنها تحت الركام. نحن لا نمارس فقط عملاً صحفيًا، بل نحارب من أجل صوت غزة ألا يُغتال كما تُغتال أرواحنا."
الصحفيون في غزة حالهم حال الجميع في هذه القطاع المحاصر، فهم يواجهون خطر الموت في كل لحظة قصفا أو تجويعا أو حزنًا. تحكي دعاء عن تأثير قتل زملائها في الميدان: "شعرت بإحباط شديد، لا أمان لأحد في غزة. الاحتلال يستهدف الجميع، حرقًا وقصفًا وجوعًا، لم يبقَ شيء إلا وجربه في غزة. وقبل استهداف زملائي الصحافيين، نفذ جريمة بشعة بإعدام فريق مسعفين كامل في مدينة رفح. هذا يدل على أن الاحتلال يريد قتل الغزيين بصمت دون أن يسعفهم أحد أو حتى ينقل خبرهم، للتظليل على حقيقته البشعة وإبادته المستمرة لغزة."
وتضيف دعاء "تأثير مشهد حرق زملائنا أثر بشكل سلبي على الجموع الصحفية، كل واحد منا شعر أنه ربما سيلقى نفس المصير في أي لحظة، وأصابنا بحالة حزن كبيرة. كل لحظة تمر، أعيش ذات الرعب. ليس فقط أثناء عملي، بل حتى وأنا في منزلي، فمجرد كوني فلسطينية أعيش في قطاع غزة، هذا يجعلني أفكر أن اللحظة التي أعيشها ربما تكون الأخيرة."
"إذا متُّ، أريد موتًا صاخبًا لا أريد أن أكون مجرد خبر عاجل، أو مجرد رقم في مجموعة، أريد موتًا يسمعه العالم، وأثرًا يبقى عبر الزمن، وصورة خالدة لا يمحى أثرها بمرور الزمان أو المكان".
وتكمل: "رسالة إسرائيل واضحة: هم لا يريدون شهودًا على الجريمة.' الاحتلال لا يطيق أن يُفضح أمام العالم. يريد إبادة غزة بصمت، بلا عدسات، بلا أقلام. استهداف الصحفيين هو استهداف للحقيقة نفسها، وهو محاولة فاشلة لكسر الرواية. لقد تُركنا وحدنا، المؤسسات التي يُفترض أن تحمي الصحفيين اختبأت خلف بيانات باردة لا تُسمن ولا تُغني من جوع. كم صحفيًا يجب أن يُقتل حتى تتحرك هذه المنظمات؟ نشعر بالخذلان التام. لكن في المقابل، دعم الناس حول العالم وصوت الشعوب الحرة يعيد لنا شيئًا من الأمل."
سألنا دعاء عن صلابة بأسها ومصدر قوتها فأجابت: "كلما شعرت بالانهيار، أنظر حولي: طفل يبحث عن أهله تحت الركام، أم تحتضن جثمان ابنها، أو زميل سقط شهيدًا وهو يحمل كاميرته. أستمد القوة من أهل غزة، من صمودهم، من دموعهم، من بقايا دفاتر الأطفال تحت الأنقاض. أكتب لأجلهم، وأعيش لأنقل صوتهم."
وفي ختام حوارها معنا، وجهت دعاء رسالة إلى الصحافيين والإعلاميين حول العالم: "لا تصمتوا. الصمت شراكة في الجريمة. لا تنتظروا الصور المثالية منّا، فنحن لا نملك سوى دمنا وحطامنا. شاركونا الحقيقة، أعيدوا التوازن للرواية الفلسطينية، لا تسمحوا بطمس أصواتنا. غزة لا تموت، لكنها تنزف، وتحتاج صوتكم أكثر من أي وقت مضى." أما زملاؤنا الصحفيون الذين قتلوا لإيصال الحقيقة فأقول لهم أنهم كانوا أعين غزة، وعدساتها، وفرسان الحقيقة، لم يرحلوا. فنحن سنكمل رسالتهم، وسنحمل الكاميرا عنهم، والقلم وسنبقى ننقل الحقيقة رغم كل التحديات واغتيال الاحتلال للأصوات الغزية."
حوارنا الثاني كان مع الصحفية ومخرجة الأفلام شروق العيلة وهي زوجة الصحفي رشدي السراج الذي قتلته إسرائيل في 22 أكتوبر 2023، في غارة جوية استهدفت منزلهم في حي تل الهوى بمدينة غزة. كان السراج، يبلغ من العمر حينها 31 عامًا. تقول شروق: "أنا إنسانة كباقي الناس لم أستطع احتمال أو استيعاب مشهد احتراق الصحفيين وهم أحياء، كان ذلك أبشع فيديو رأيته منذ بدء الحرب، منذ تلك اللحظة، لم أعد قادرة على العمل. إسرائيل تقتل الصحفيين بشكل ممنهج، ومع كل جريمة جديدة، أتذكر وجوه زملائنا الذين فقدناهم منذ بداية الحرب، لكن هذا المشهد تحديدًا، مشهد الحرق تحول إلى كابوس يلاحقني، لا يفارقني التفكير فيما شعروا به من رعب خلال لحظاتهم الأخيرة، وفي عائلاتهم الذين شاهدوا موته على شاشات التلفاز. بعد هذه الفاجعة، شعرت أن شيئًا في داخلي قد انكسر، وكأن جزءًا من إنسانيتي قد مات معهم. ومع كل استهداف جديد للصحفيين، تتزايد ضغوط عائلتي عليّ لأتوقف عن عملي الصحفي، خوفًا من أن ألقى نفس المصير، يطالبونني بأن أحمي نفسي من قصف الاحتلال الإسرائيلي، ويذكرونني بأنني كل ما تبقى لطفلتي الصغيرة بعدما قتلت إسرائيل والدها الصحفي رشدي السراج."
"أكتب وأوثّق وأنا أعلم تمامًا أنني أضع حياتي على المحك. شعور مزدوج بين الخوف والمسؤولية. الخوف من أن تكون هذه هي القصة الأخيرة التي أرويها، والمسؤولية تجاه قضيتي الفلسطينية والأحداث الجارية بغزة في ظل الإبادة، بأن أنقل الحقيقة التي يحاول الاحتلال دفنها تحت الركام. نحن لا نمارس فقط عملاً صحفيًا، بل نحارب من أجل صوت غزة ألا يُغتال كما تُغتال أرواحنا."
تتابع شروق حديثها قائلة: "الاحتلال يسعى لإسكات أصواتنا وطمس الحقيقة، فهي عدوه الأكبر. ندرك جيداً أن القانون الدولي لا يشمل غزة، ولهذا نشعر بأننا مهملون ومنسيون. نتنياهو يتنقّل بحرية حول العالم رغم صدور مذكرة توقيف بحقه هذا محبط فعلاً! لكنني سأواصل عملي حتى آخر لحظة، لأنه مصدر نجاتي؛ فهو يمنعني من السقوط في الصمت ومن التوقف عن مواجهة هول ما جرى. لا يمكن لأحد أن يتحمل ما شهدناه هنا في غزة، الوضع أكثر من كارثي ولا يمكن لأحد تصوره. كصحفيين، سنواصل مهمتنا بدافع التزامنا الأخلاقي، ولأننا نصرّ على توثيق هذه الإبادة الجماعية التي نتعرض لها، في ظل غياب الصحافة الأجنبية غير القادرة على الدخول للقطاع، سنوصل الحقيقة إلى العالم، ولو اضطررنا إلى كتابتها بدمائنا بدل الحبر." سألنا شروق أيضا عن أصعب لحظة في تغطيتها الصحفية، لتقول لنا: "نواجه صعوبات هائلة، ليس فقط خطر الموت الذي يلاحقنا في كل لحظة، بل أيضًا التحدي في إيصال ما نعيشه حقًا. كيف ننقل للعالم رائحة البارود والدماء التي تملأ أنوفنا؟ هناك أشياء تفوق قدرة الكلمات والصور على التعبير. أحيانًا لا أرغب في التصوير أو الكتابة، بل أتمنى فقط لو يستطيع الآخرون أن يشمّوا ما نشمه..."
في غزة، لا يموت الصحفي حين تتوقف أنفاسه، بل حين يصمت العالم عن جريمة قتله، ما حدث في خيمة الصحفيين قرب مجمع ناصر وقتل فاطمة حسونة وغيرها المئات من الصحفيات والصحفيين ليس مجرد انتهاك للقانون الدولي، بل رسالة واضحة من إسرائيل بأن نقل الحقيقة بات جريمة تستحق الإعدام. ومع كل صحفي يُقتل، تتسع فجوة العدالة، ويُسجل المجتمع الدولي فصلًا جديدًا من العجز والخذلان.