عبلة العلمي
"لم يكن لدي خيار"، بهذه الكلمات بدأت أم أحمد حديثها، وهي تجلس على بطانية مهترئة قرب مدخل خيمتها في أحد مراكز النزوح شمال قطاع غزة.
تقول أم أحمد: "حين استُشهد زوجي في قصف على حي الزيتون قبل عامين، وجدت نفسي فجأة أمام مسؤوليات لم أتخيلها يوماً. كنت ربة منزل، لم أعرف من أين أبدأ، لكن نظرات أطفالي الجائعة دفعتني للبحث عن أي وسيلة للبقاء."
منذ ذلك الحين، وجدت أم أحمد في خياطة ملابس الأطفال وبيعها للجيران وسيلة للبقاء. ورغم بساطة ما تنتجه، إلا أن العمل وفّر لها مصدر دخل متواضع يساعدها على توفير ما يسدّ رمق أطفالها الثلاثة وسط قسوة النزوح وشحّ الموارد.
أرقام الفقد وواقع المعاناة
لا يتوقف الفقد عند خسارة الشريك فقط، بل يبدأ بعده شكل آخر من الألم. كثير من النساء يجدن أنفسهن فجأة في مواجهة مسؤوليات لم يخطر لهن يوماً أن يحملنها وحدهن. يتحول البيت إلى عبء، والحزن إلى رفاهية لا وقت لها. تُجبر الأرملة على أن تكون الأب والأم، المربية والمعيل، في مجتمع لا يرحم هشاشتها، بل يحمّلها عبء الصمود من دون أن يمدّ لها يد العون.
تقاوم مشاعر الوحدة والخوف والخسارة، وهي تسعى جاهدة لتأمين لقمة العيش، غالباً في ظل غياب تام لأي دعم نفسي أو اقتصادي ممنهج.
بحسب تقرير الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (2024)، فقدت نحو 13901 امرأة في قطاع غزة أزواجهن بسبب القصف الإسرائيلي، ليصبحن المعيلات الوحيدات لأسرهن. ويُضاف إلى هذا الرقم مئات النساء اللواتي غاب أزواجهن نتيجة الاعتقال أو الفقدان، ما زاد من الأعباء الثقيلة التي يحملنها في ظل واقع اقتصادي خانق.
تقول أم محمد، أرملة وأمٌّ لثلاثة أطفال، التي فقدت زوجها في غارة جوية إسرائيلية: "منذ استشهاده، أصبحتُ المسؤولة الوحيدة عن تأمين الطعام والتعليم والدواء. أعدّ المعجنات وأبيعها للجيران، أستيقظ عند الفجر لأبدأ يومي بالعمل. لا وقت للحزن، أطفالي بحاجة لي."

في ظل الحرب المستمرة وتدهور البنية الاقتصادية، أصبحت قدرة أم محمد على تأمين احتياجات أسرتها محدودة بشكل متزايد. فقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية بنسبة تتجاوز 70% منذ بداية العدوان، في حين تضاعفت أسعار الوقود، إن وُجد، مما رفع تكلفة النقل والإنتاج. على سبيل المثال، أصبح سعر كيس الطحين يصل أحياناً إلى 1000 شيكل، أي ما يعادل نحو 275 دولاراً أميركياً، بعد أن كان لا يتجاوز 60 شيكل أي نحو 16 دولاراً أميركياً. كما تجاوز سعر علبة الحليب للأطفال 100 شيكل، أي نحو 27 دولاراً أميركياً، بينما لا يتجاوز متوسط دخل الأسرة في مراكز الإيواء 200 شيكل شهرياً، أي ما يعادل 55 دولاراً أميركياً، إن وُجد.
لقمة العيش معركة لا تنتهي
في هذا الواقع القاسي، تتحول لقمة العيش إلى معركة يومية لا تنتهي. تتصدر النساء المعيلات هذه المعركة بلا دروع تحميهن، يواجهن السوق المتقلب والأسعار الفاحشة، في غياب كامل للدعم المالي أو الحماية. حياتهن ليست مجرد صراع من أجل البقاء، بل هي اختيار دائم بين الضرورات الأساسية. يضطررن إلى المفاضلة بين الغذاء والدواء، بين تعليم أبنائهن وبين سد جوعهم. كلّ يوم يحمل تحدياً جديداً، حيث يجدن أنفسهن في مواجهة مباشرة مع الحياة، وهن يحملن على أكتافهن عبء لا يرحم من المسؤوليات.
فقدت نحو 13901 امرأة في قطاع غزة أزواجهن بسبب القصف الإسرائيلي، ليصبحن المعيلات الوحيدات لأسرهن. ويُضاف إلى هذا الرقم مئات النساء اللواتي غاب أزواجهن نتيجة الاعتقال أو الفقدان، ما زاد من الأعباء الثقيلة التي يحملنها في ظل واقع اقتصادي خانق.
مع ندرة فرص العمل وارتفاع معدل البطالة الذي وصل إلى 80% في قطاع غزة، وأكثر من 85% بين النساء وفقاً للجهاز المركزي للإحصاء، تجد العديد من النساء أنفسهن مضطرات للبحث عن مصادر دخل بديلة. أم تامر، التي فقدت زوجها أيضاً، تقول: "كنت أعمل مع زوجي في الأرض، وبعد استشهاده تعلمت فنَّ التطريز لصنع شالات أبيعها في السوق. لكن الزبائن قلّوا، والدخل لا يكفي."
تضيف أم حسن: "حاولت بدء مشروع صغير، لكن لا يوجد تمويل كافٍ. لو كانت هناك فرص ثابتة، لتغيرت حياتنا."
ورغم جهود بعض المنظمات المحلية مثل "مركز شؤون المرأة في غزة"، التي تقدم برامج تهدف إلى تمكين النساء نفسياً ومهنياً، يبقى الدعم محدوداً جداً مقارنة بحجم الحاجة.
تقول آمال صيام، مديرة المركز، لـ "ميدفيمنسوية": "نواجه ضغطاً كبيراً في ظل تزايد أعداد النساء المحتاجات للدعم بعد الحرب. الأولوية الآن لتوفير برامج الاستجابة الطارئة، سواء عبر الدعم النفسي أو المساعدات النقدية البسيطة. لكننا نحتاج إلى تدخلات أوسع وتمويل مستدام لنتمكن من تحقيق أثر حقيقي في حياة النساء المعيلات."
تختتم آمال: "نواجه صعوبات حقيقية في الاستجابة لاحتياجات النساء، لكننا نواصل تقديم برامج الدعم النفسي والمشاريع الصغيرة لتعزيز صمودهن ومساعدتهن في التغلب على التحديات اليومية."
القيود الاجتماعية تضاعف التحديات
لا تقتصر التحديات التي تواجه النساء المعيلات على الفقر والبطالة فقط، بل تشمل أيضاً قيوداً مجتمعية صارمة ومتجذرة في ثقافة تُصرُّ على تكبيل حرية المرأة.
كثير من النساء يجدن أنفسهن في مواجهة نظرات انتقادية وأحكامٍ قاسية من المجتمع، فقط لأنهن خرجن للعمل أو سعين للاستقلال المالي بعد فقدان أزواجهن. في بيئات تقليدية، تُحمّل المرأة مسؤولية الحفاظ على "الستر" و"الصمت" بعد فقدان زوجها، وكأنَّ الألم الذي يعتصر قلبها يجب أن يُخفى عن الأنظار. هذه القيود تفرض على النساء حملاً ثقيلاً، يثقل كاهلهن بأعباء إضافية من العار الاجتماعي، وتحدُّ من قدرتهن على التعبير عن احتياجاتهن أو طموحاتهن.
وبينما تسعى العديد من هؤلاء النساء لإعادة بناء حياتهن والبحث عن سبل للبقاء، لا يزال المجتمع يفرض عليهن قيوداً لا رحمة فيها، مما يزيد من معاناتهن ويعقّد محاولاتهن في إيجاد مكان لهن في هذا العالم القاسي.
تتحول لقمة العيش إلى معركة يومية لا تنتهي. تتصدر النساء المعيلات هذه المعركة بلا دروع تحميهن، يواجهن السوق المتقلب والأسعار الفاحشة، في غياب كامل للدعم المالي أو الحماية.
تقول الناشطة النسوية الفلسطينية آمال الغليظ إن النساء في مراكز الإيواء يعانين من أوضاع صحية ونفسية صعبة، مشددة على أن التمكين الاقتصادي لا ينفصل عن الدعم النفسي والاجتماعي. وتضيف: "المرأة التي تفقد زوجها فجأة لا تواجه فقط عبء الإعالة، بل أيضاً نظرة مجتمعية تشكّك في نواياها، تراقب سلوكها، وتفرض عليها الصمت والخضوع."
تشير شهادات نساء عاملات إلى أن بعضهن يتعرضن للتنمر أو المضايقات اللفظية عند الخروج للسوق أو التقدم لبدء مشاريع صغيرة. تُتهم المرأة التي تسعى لبناء مشروعها الخاص بأنها "تتجاوز حدودها" أو "تتصرف كرجل"، مما يخلق بيئة مليئة بالضغط النفسي والاجتماعي. هذه الأحكام المسبقة تعيق خطواتهن الأولى نحو التعافي والاستقلال، وتزيد من صعوبة تحدي الواقع الاجتماعي الذي يقيّد حريتهن ويشوه طموحاتهن.