هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
لا يمكن تحقيق ديمقراطية حقيقية دون توفير بيئة إعلامية تضمن للمرأة دوراً فاعلاً، ليس فقط كمُنتِجة ومُفكِّرة في مجال الأخبار، بل أيضاً من حيث تمثيلها وصورتها في المنابر الإعلامية، بما يكفل احترام حقوق النساء على اختلاف انتماءاتهن.
انطلاقاً من هذا الوعي، نظّم المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، يوم الأربعاء 25 شباط/ فبراير، بالتعاون مع منظمات "إكيبوب"، وجمعية "مراسلون بلا حدود"، و"برينون لا أون!" (لنَحْتلّ الصفحة الأولى) (1)، وتجمّع "لا فروند"، يوماً للنقاش والتفكير حول موضوع النساء والإعلام. وقد جاء الإعلان عن الحدث بهذه العبارات: "يشهد العالم حالياً هجمة محافظة واسعة النطاق، تستهدف النساء والأقليات على وجه الخصوص. في ظل هذه "الانتكاسة"، ما الدور الذي يمكن أن يلعبه الإعلام في دعم الديمقراطية؟".
تمحورت الإجابة على هذا السؤال الجوهري حول محطتين رئيسيتين: الأولى لقاء صباحي جمع محترفات في مجال الإعلام، أشرفت عليه منظمة "إكيبوب"، والثانية جلسة عامة بعد الظهر قُدّمت على شكل برنامج إذاعي من إعداد جوليا فوا (إذاعة "فرانس كولتور") وبنوَا بوسكاريل، الصحفي السابق في "راديو فرانس" ومؤسس المنصة الإعلامية المستقلة "لوند بورتوز" (الموجة الحاملة). وأعيد بث هذا البرنامج عبر موجات 68 إذاعة محلية في مختلف أنحاء فرنسا قبل 8 آذار/ مارس.
اتسم القالب الإذاعي لهذا اللقاء بفعاليته، حيث قُسّم إلى ثلاث فقرات رئيسية: "الكلمات ليست محايدة"، "أن تكوني صحفية، ما هو الثمن؟"، وأخيراً "المشهد الإعلامي في ظل الانتكاسة".(4)
أن نُقاومَ
لم تكن سالومي ساكي، الصحفية ذات الشعر البني الطويل والملامح الحازمة، قد تجاوزت الثلاثين بعد، لكنها أذهلت الحضور بوضوح رؤيتها ونبرتها القوية. بصفتها صحفية في "بلاست" ومؤلفة لعدة كتب، من بينها أن نقاوم (5)، افتتحت النقاشات المسائية بحزم قائلة: "المجتمع المدني فضاءٌ للمقاومة، يسعى إلى ترسيخ الديمقراطية وحمايتها... وكل من يحاول القضاء على أماكن تجمعنا ونقاشاتنا حول قضايا مصيرية، إنما يسعى إلى تقويض ديمقراطياتنا".
"يشهد العالم حالياً هجمة محافظة واسعة النطاق، تستهدف النساء والأقليات على وجه الخصوص. في ظل هذه "الانتكاسة"، ما الدور الذي يمكن أن يلعبه الإعلام في دعم الديمقراطية؟".
وحثّت سالومي الحاضرين والحاضرات على المقاومة، كلٌّ من موقعه، لمواجهة التراجع الديمقراطي في ظل سياق دولي مقلق. وأضافت بحزم: "حقوقنا ليست مكسباً مضموناً إلى الأبد"، مشددة على أنه: "لا يمكننا التزام الحياد أمام الخطابات التمييزية واللاإنسانية".
تكفي نظرة واحدة إلى الولايات المتحدة لإدراك مدى الضرر الذي لحق بالإعلام المستقل والموثوق. إذ يعتمد ستيف بانون، أحد أبرز مستشاري الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، على استراتيجية إعلامية خطيرة تقوم على "إغراق الساحة بالمعلومات المضللة" لتشتيت الانتباه عن القضايا الجوهرية.
ومع سيطرة إيلون ماسك على وسائل التواصل الاجتماعي، يسعى ترامب إلى فرض "لغة جديدة" تستبعد أي إشارات إلى الأقليات وحقوق النساء، التي تواجه تهديدات متزايدة، مثل الاعتراض على حق الحصول على وسائل منع الحمل والمطالبة بإلغاء الإجهاض. وقد أصبح هذا واقعاً في بعض الولايات مثل ألاباما وأركنساس وكنتاكي ولويزيانا وميسيسيبي.
"ما يُسمى بالموضوعية غالبًا ما يكون وجهة نظر ذاتية للمتحكمين في المشهد الإعلامي "
يُعد الإعلام المستقل، الذي يلتزم بميثاق ميونيخ لأخلاقيات المهنة، من أبرز الحصون في مواجهة النزعات الاستبدادية. ومن هنا، نلاحظ أن التيارات المحافظة واليمينية المتطرفة تستهدفه، متهمةً إياه بالتحيز وباتباع نهج نضالي، في محاولة لتجريده من الشرعية.
قالت سالومي ساكي: "حتى وسائل الإعلام التي لا تُعدّ ثورية، مثل صحيفة لوموند، تواجه الاتهامات ذاتها". واستشهدت في هذا السياق بكلام الصحفية النسوية أليس كوفان: "ما يُوصف بالموضوعية ليس سوى وجهة النظر الذاتية للمتنفذين في المشهد الإعلامي". وأوضحت أن الحديث عن موضوعية الصحافة يعد خادعاً، وأن التوازن الإعلامي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال وجهات نظر تستند إلى مصادر موثوقة.
غير أن الفضاء الإعلامي في فرنسا يشهد تآكلاً متزايداً بسبب التركيز الشديد لوسائل الإعلام في أيدي عدد قليل من المليارديرات، مثل فنسنت بولوري، الذي تُلحق سياساته المتشددة ضرراً جسيماً بتعددية الآراء. هذه الاحتكارات، إلى جانب تصاعد نفوذ اليمين المتطرف في الإعلام، تساهم في تقويض التعددية الديمقراطية، حيث يُروَّج لخطاب يركز على الهوية والأمن. وحذّرت سالومي ساكي بقولها: "في غضون ثمانية عشر شهراً فقط، يمكن تفكيك مراكز السلطة المضادة في فرنسا".
تواجه الصحفيات تحديات مضاعفة، إذ يتعرضن للمضايقات بمعدل يفوق زملاءهن الرجال بـ27 مرة. كما أفادت 73% منهن بأنهن واجهن مضايقات، وفقاً لما ذكرته مؤلفة كتاب أن نقاوم
الصحفيات في مواجهة المضايقات
في هذا المشهد الإعلامي المشحون، تواجه الصحفيات تحديات مضاعفة، إذ يتعرضن للمضايقات بمعدل يفوق زملاءهن الرجال بـ27 مرة. كما أفادت 73% منهن بأنهن واجهن مضايقات، وفقاً لما ذكرته مؤلفة كتاب أن نقاوم. ولم تكن سالومي ساكي بمنأى عن ذلك، إذ كانت شخصياً هدفاً لحملة كراهية إلكترونية شرسة، تلقت خلالها "آلاف الرسائل الحاقدة خلال أيام معدودة" عقب صدور كتابها.
وأشارت ساكي إلى أن الهجمات لم تقتصر على المضايقات المعتادة، بل تجاوزتها إلى أساليب أكثر شراسة، حيث استُهدفت بتقنية "التزييف العميق الإباحي" (ديب فايك)، إذ جرى التلاعب بصورها باستخدام الذكاء الاصطناعي لإنتاج صور مزيفة لها وهي عارية.
"لقد كانت تجربة مروعة. كدت أستسلم وأغادر المجال تماماً"، علّقت ساكي، قبل أن تقاطعها موجة تصفيق في القاعة، تعبيراً عن التضامن والدعم. وفي ختام مداخلتها، تطرّقت إلى موضوع عزيز على قلبها، وهو أهمية التكاتف في مواجهة هذه التحديات، مضيفة: "ما يساعدني على الصمود في وجه هذه الصعاب هي لحظات الفرح التي يمنحها التكاتف والعمل الجماعي. إنه فرح ضروري للحفاظ على الصحة النفسية...".
إعادة النظر في المصطلحات الإعلامية
بهذه الروح النضالية، استمرت المداخلات والنقاشات حتى نهاية اليوم، حيث قدّمت الصحفيات المشاركات تحليلاتهن وشهاداتهن حول التحديات التي يواجهنها، واقترحن أدوات نقدية وحلولاً ملموسة لإحداث تغيير حقيقي في المشهد الإعلامي.
ومن بين أبرز التوصيات التي طُرحت، ضرورة إعادة النظر في المصطلحات الإعلامية المستخدمة عند تناول قضايا العنف ضد النساء، وهو ما شدّدت عليه الصحفيتان جوانا لوسين وسعاد بلحدّاد، حيث أكدتا أهمية تسمية الأمور بمسمياتها. فبدلاً من استخدام تعابير مبهمة مثل "تحرش" أو "ملامسات جنسية"، يجب اعتماد مصطلحات أكثر دقة مثل "اعتداء جنسي"، لضمان وضوح الخطاب الإعلامي وتعزيز تأثيره، ليس فقط من الناحية الاجتماعية، بل أيضاً على المستوى القانوني. كما شدّدتا على ضرورة كسر الصمت حول مصطلح "الإبادة النسوية"، الذي لم يُدرج حتى الآن في القانون الجنائي الفرنسي.
وأعربت سعاد بلحدّاد عن استنكارها قائلة: "في فرنسا، كانت الصحافة تعتبر هذا المصطلح ذو خلفية أيديولوجية للغاية، إلى أن أجبرتها الأرقام على اعتماده، فلم يعد بعد ذلك من المحرّمات". وأضافت مؤكدة: "علينا الحذر من الكلمات التي يتم إسكاتها".
التسمية الصحيحة خطوة نحو التغيير
وأشارت جوهانا لوسين أن الهيئات التحريرية في وسائل الإعلام بدأت تُدرك أن الاعتداءات الجنسية والجندرية لم تعد قضايا هامشية، بل أصبحت مسائل جوهرية تستدعي التغطية الإعلامية الجادة. ويشكّل هذا التحول خطوة مهمة، لا سيما عند استحضار حادثة هيلين ريتمن، زوجة الفيلسوف الفرنسي الشهير ألتوسير، التي كاد ذكرها يختفي تماماً من الصحافة بعد مقتلها خنقاً على يد زوجها عام 1980.
إن القدرة على تسمية الأمور بمسمياتها تتطلب أيضاً استخدام صيغ لغوية دقيقة، مثل تفضيل المبني للمعلوم على المبني للمجهول، حيث يؤدي الأخير إلى التركيز على النساء بوصفهن ضحايا، بينما يطمس مسؤولية الرجال عن أفعال العنف. وفي مداخلة عبر البث المباشر، شددت الصحفية والناشطة النسوية الإسبانية بيلار لوبيث دياث، الحاصلة على دكتوراه في علوم الإعلام، على أهمية هذا التمييز قائلة: "يجب أن نتحدث عن العنف الذكوري بوضوح. الرجل هو الفاعل في العنف؛ فهو الذي يغتصب، وهو من يهاجم... ومع ذلك، نادراً ما نسمع حديثاً كافياً عن الرجال كمُرتكبين للعنف".

النضال مستمر
ورغم التقدم الملحوظ خلال الخمسة عشر عاماً الماضية، مع بروز الموجة النسوية الرابعة، وكشف فضائح كبرى مثل قضية دومينيك ستروس-كان وباتريك بوافر دارفور، اللذين وُجّهت إليهما تهم التحرش والاغتصاب، وظهور مجلات نسوية مثل "كوزيت"، ومبادرات مثل "لنحتلّ الصفحة الأولى"، وبالطبع حركة #MeToo الفرنسية، لا تزال الصحفيات اللواتي يتناولن قضايا العنف الجندري مهمّشات داخل المؤسسات الإعلامية التي يعملن بها.
في هذه الأوساط الإعلامية ذاتها، لا يزال التمييز على أساس النوع والتحرش الجنسي متفشياً، حيث تواجه الصحفيات تعليقات مهينة وغير مهنية، مثل: "لديك مؤخرة جميلة" أو "يا لها من نهود جذّابة" وهي شهادات صادمة نقلتها كل من إيمانويل دانكور، رئيسة منظمة "مي تو ميديا"، والصحفية نورا حمادي.
بالنسبة لنورا، وهي منتجة في الإذاعة الثقافية الفرنسية "فرانس كولتور"، فإن التمييز الجنسي الممنهج ليس سوى انعكاس لبيئة إعلامية ما زالت تجد صعوبة في تقبّل التنوع. وتوضح قائلة: "في المؤسسة التي أعمل بها، أنا المرأة الوحيدة غير البيضاء، كما أنني الوحيدة التي لم تتخرج من معهد الدراسات السياسية أو مدرسة الصحافة".
تنحدر نورا حمادي من ضواحي باريس، وسبق لها أن درّست في مجال علم الاجتماع. من خلال برنامجها الأسبوعي "فرنسا الحنون"، تسعى إلى تسليط الضوء على المناطق والفئات الاجتماعية المهمّشة. وتؤكد أن التهميش الإعلامي، سواء للنساء أو للفئات الأخرى، ليس مجرد مسألة تخصُّ قطاع الصحافة فحسب، بل هو "مشكلة تتعلق بالتمثيلية، وبالتالي مشكلة تمسّ جوهر الديمقراطية".
نحو ممارسات إعلامية أكثر إنصافاً
ومع ذلك، بدأت بعض الممارسات الإعلامية الجيّدة تشق طريقها تدريجياً إلى قاعات التحرير. تروي لايتيسيا غريف، رئيسة تحرير صحيفة "ويست-فرانس" (غرب فرنسا)، كيف ساهم تجدّد الأجيال في تعزيز حضور الصحفيات وظهور صحفيات يتناولن قضايا النوع الاجتماعي. كما أشارت إلى إنشاء شبكة للمساواة داخل الصحيفة، إلى جانب اعتماد أدوات يومية فعّالة مثل مواثيق الكتابة المناهضة للتمييز الجنسي، وذلك لمعالجة قضايا المساواة والعنف الجنسي.
وتعكس هذه المبادرة، وغيرها من المقترحات التي طُرحت خلال اللقاء، إصراراً واضحاً على الدفع باتجاه إعلام أكثر عدالة وشمولاً، وتحويله من ساحة لإعادة إنتاج التمييز والإقصاء إلى منصة تدافع عن الحقوق الأساسية وتدعم المساواة.
الصحفيات في مواجهة القمع
في هذا السياق، تُعدّ نرجس محمّدي، الناشطة الإيرانية في مجال حقوق الإنسان والحائزة على جائزة نوبل للسلام لعام 2023، رمزاً للنضال من أجل حرية التعبير وحقوق المرأة في مواجهة القمع. وقد اختُتمت فعالية "النساء والإعلام" بافتتاح معرض "الصحافة في زمن #مي_تو"، الذي نظمته منظمة "مراسلون بلا حدود".
احتلت صور ضخمة ردهات قصر "إينا" للتذكير بأن الصحفيات والمدافعات عن حقوق الإنسان، من أمثال الإيرانية نرجس محمدي، والأفغانية مرسى سياص، والصينية هوانغ شيوتشين، والأرجنتينية ماريانو إيغليسياس، والليبيريّة بيتي جونسون إمبايو، يتعرضن للتمييز والتهديد والسجن، بل ويخاطرن بحياتهن من أجل إيصال الحقيقة وكشف الأنظمة القمعية.
وفيما تجمع الحضور خلال أمسية الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير حول هذه الشخصيات النسائية الملهمة، شعرنا جميعاً بأننا أكثر قوة، وأن معركتهن ليست معركة فردية، بل نضالٌ جماعي من أجل إعلام أكثر عدالة وتمثيلاً.
للاطلاع على النقاشات الثريّة والحيوية التي شهدها هذا الحدث الإذاعي، يمكن إعادة الاستماع إلى البث عبر هذا الرابط.
ملاحظات:
جمعية نسائية صحفية، تسعى لتحسين تمثيل النساء في وسائل الإعلام وتحقيق المساواة في قاعات التحرير.
المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي هو ثالث هيئة دستورية في الجمهورية الفرنسية، ويُعدّ ركناً أساسياً في الديمقراطية الفرنسية. يتولى هذا المجلس مهمة تقديم المشورة للحكومة والبرلمان في مجالات متنوعة تتعلق بالاقتصاد والاجتماع والبيئة، كما يعبر عن صوت المجتمع المدني ويساهم في إثراء النقاشات العامة المتعلقة بالسياسات العامة.
قدّمت المنصة الالكترونية "إيكيبوب" ومؤسسة جان جوريس دراسة معمقة حول "حقوق النساء: التصدي للانتكاسات".
"الموجة الحاملة": هي جمعية تعمل على تقاطع عالم الإعلام وقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، حيث تجمع بين الأنشطة التي تركز على الإدماج المهني والتدريب والتعليم في مجال الإعلام والمعلومات. كما تقوم بإنتاج وبث برامج عبر إذاعة "لي شانطيي". وقد نجحت الجمعية في إعادة دمج 150 صحفياً/ ة في الحياة المهنية، مما يعكس تأثيرها الكبير في دعم الصحفيين/ ات وتمكينهم/ ن من العودة إلى العمل الإعلامي.
"الكلمات ليست محايدة" (مع سعاد بلحداد، بيلار لوبيث دياص، جوهانا لويسان)، "أن تكوني صحفية، ما هو الثمن؟" (مع ليتيسيا غريفي، أوريليا سيفاستر، إيمانويل دانكور، نورا حمادي)، وأخيراً "المشهد الإعلامي في ظل الانتكاسة" (مع آن بوكاندي، دومينيك برادالياي، مارلان كولومب غوللي، ولوسي دانيال).6. سالومي ساكي، أن نقاو/، نشر دار بايو 2024.