كتابة الصحافيات الفلسطينيات: مها زكي وولاء صالح ودلال الحاج ياسين
لدى محاولة الكتابة حول هذه القضية، قد يخرج الكتّاب أو الكاتبات بنصوص كثيرة، لكنهم حتماً لن يتوصّلوا، مهما حاولوا، إلى الصورة التي تحتفظ بها الأمّهات الفلسطينيات في قلوبهن والقلق الذي يراودهن في كل لحظة. لن يتمكنوا من التقاط الدموع النمهمرة من عيون الأمهات، ولا تلك المحبوسة في عينَي الأم التي تحاول أن تبدو قوية وصابرة، مثلما نرى في الكثير من الصور التي تنقلها الكاميرات إلى العالم، أو في وجه الأم التي يرتجف صوتها وهي تهنّئ الوطن بولدها الشهيد فيما الألم يعتصر صدرها.
لن يتبادر إلى ذهن أي كاتب/ة ما يدور في قلب الأم التي فقدت ابنها. إنها معركة أشد قسوة ممّا يعيشه جميع الفلسطينيين/ات. لن يخطر في البال مثلاً، كيف ستبدأ بتخيّل وجبة الغداء الأولى التي تعدّها والتي تعرف أن ابنها المغدور لن يستمتع بها، أو أوّل قبلة عيدٍ لن تتلقاها على جبينها كما جرت العادة... كل ذلك وألف ذكرى وذكرى ستطاردها، ولن تبوح. ستنظر بصمتٍ من حولها، لعلّها تجد تفسيراً أو إجابة، لكنها لن تجد.
تتحدث أم الشهيد نور جرار معنا عن وجعها، بعد استشهاد نجلها قبل عام ونصف العام. وتقول تلك السيدة التي فضّلت عدم ذكر اسمها الكامل وحصر هويّتها بابنها: "مشاعري... لا توجد كلمات تصفها وتصف مصابي بفقدان قطعة من روحي. انتهاكاتُ الاحتلال المتمثلة بتنغيص كل فرحة على الأهالي بأبنائهم لا حدود لها".
بتنهيدةٍ تعكس رجفة قلبها، تتابع الأم المفجوعة حديثها لتخبر عن تفاصيل الحلم الذي تصحو عليه كل يوم، وهو الإفراج عن جثمان نجلها الذي تحتجزه قوى الاحتلال. وتقول، "حتى هذه اللحظة، قبل أن يرنّ صوت الهاتف، يظل ينتابني إحساس بأن يكون موضوع الاتصال الإفراج عن جثمان ابني. فأنا أريد أن أحتضنه وأشتم رائحته لآخر مرّة في عمري".
تصف تلك الوالدة الألمَ الذي يتسبب به الاحتلال للأهالي عند تسليم جثامين أبنائهم، فتقول، "اليوم هناك تسليم جثمان لشهيدٍ في شعفاط، والاحتلال يتردّد في تسليمه بحجة وجود ملثّمين... الكثير من الناس يمنعهم الاحتلال من استقبال الجثمان، فتبقى أي فرحة دائماً منقوصة". وتتابع، "عام ونصف العام مرّ على استشهاد ابني، وأنا أعيش الألم نفسه والغصة نفسها كل يوم. أنام على أمل أن أصحو على أخبار تبشّرني باستلام جثمانه. أيّ رقم غريب على هاتفي يجعل جسدي ينتفض، ليعتقد عقلي أن المكالمة هذه ستكون تلك التي يخبرونني فيها عن استلام جثمان ابني نور، فأهدأ وأطمئن للحظة... فإكرام الميت دفنه! وأنا أريد أن أطمئن عليه، بجوارنا، وليس في عتمة الاحتجاز القسري لجسده في غياهب عتماتهم".
يُذكَر أن نور جرار كان يعمل سائق ديليفري على دراجة نارية بالتعاقد مع شركات توصيل ومطاعم. كان يهتم بإيصال الطرود إلى الأماكن المحيطة بالمدينة، وكأي شاب فلسطيني، كان يحلم بأن يجمع رزقه رويداً رويداً حتى يتمكّن من أن يؤسّس بيتاً وعائلة ويحتضن طفلاً ويُزف عريساً... لا أن تكون جثته محتجزة في عتمة السجان.
"الله يفرج عن جثمان ابني وعن جميع الجثامين... هذا شعور أمهات الجثامين كلها، هذا الأمر يقهر ويميت"
تستكمل جرار حديثها معنا عن تفاصيل النهار الذي عايشته كأي أم فلسطينية تستيقظ على خبر استشهاد ابنها، وتخبرنا، "في ذلك اليوم، اشتقتُ إليه بشكل غير اعتيادي، حتى أنني اتصلتُ به لأخبره أنني أريد أن أراه لفرط اشتياقي له، رغم عودته دائماً إلى البيت بعد كل نهار عمل!". وتضيف، "لكن ابني استشهد في ذلك اليوم، كان عمره 19 عاماً فقط، وكنا نخاف عليه دائماً كونه كان يعمل على دراجة نارية كسائق ديليفيري، لكن لم نكن نعلم أننا سنفقده شهيداً... كان الجميع يحبه كثيراً، كان كأي شاب فلسطيني يحلم بحياة طبيعية. كان يعمل لغاية الساعة الواحدة فجراً، يخرج لمدة ساعة مع أصدقائه ثم يعود إلى المنزل ليستحم وينام ويستعد ليومٍ آخر من العمل".
وتردف، "يومَ استُشهد، فجأةً قام زوجي بإيقاظي من النوم لأداء الصلاة. علمتُ بعدها أن الجيش الإسرائيلي حاصر جنين، فطلبتُ منه قبل أن أبدأ بالصلاة من أن يتأكد من أن نور في غرفته... حينها، وصلتني مكالمة هاتفية من أحد أصدقائه يخبرني فيها أن نور مصاب... سألته مباشرة: ابني نور استشهد صح؟ عند ذهابي إلى المكان، رأيتهم وهم يحملون ابني. للوهلة الأولى، شعرتُ وكأنني رأيتُ ظلّه فقط. ذهب في لحظةٍ مرّت كسرعة الضوء. كل ما شاهدته كان مجرد كابوس بالنسبة إلي، أو هكذا شعرت... رأيت ابني وهم يمسكون به بطريقة لا تعرف الإنسانية ويلقونه في الجيب العسكري ليختطفوا جثمانه ويحتجزوه بعد أن قتله قنّاصة".
بحسرة شاركتنا أيضاً أنها، لغاية اللحظة، لم تزر قبر محمد (ابنها الشهيد الأول) إلا مرّتين. "هل تعلمين أنني لا أستطيع زيارة قبر ابني محمد لأنني أتساءل "يا ترى نور وين؟!".
وتكمل، "الله يفرج عن جثمان ابني وعن جميع الجثامين... هذا شعور أمهات الجثامين كلها، هذا الأمر يقهر ويميت... حتى أبنائي لم يعودوا يرغبون بعودة أخيهم، فابني يقول لي طالما أن أخي نور بعيد، أعتبره في خيالي مسافراً لطلب العلم، أو العمل، أو الاستجمام، لا أريد أن أصطدم بالواقع بأن أخي فعلاً مات وهو شهيد، أخي ليس بشهيد، أريد أن يبقى هذا الإحساس لدي، وأن يعود بالصورة التي نرغب أن نراه فيها دائماً".
تتابع جرار، "هذا وجع الجميع، وليس وجعي لوحدي، فشاب آخر استشهد منذ مدة قصيرة، وهو صديق ابني، وشاب آخر وآخر... نتمنى أن يفرج الله عن الجميع ويخلّصنا من الأوضاع التي نعيشها، فكل يوم نحن ننام على وجع ونصحو على وجع... ابني نور استشهد هو وصديقه، وما زالت جثامينهم محتجزة".
مشهد يزداد تكراره في فلسطين، تصفه لنا تلك السيدة المُلهمة وتقول، "أصعب شعور هو عندما تقف أم شهيد لتواسي أمَّ شهيدٍ آخر، فتُفتح الجروح مرة أخرى... وأصعب شعور أيضاً هو عندما أطهو الأكلة الذي كان ابني وأصدقاؤه يحبونها، وأطهوها عن أرواحهم... أتذكر كيف كان أبنائي جميعهم ينامون في غرفة النوم نفسها... أخاف الآن من فكرة نوم ابني عز الدين، وهو الابن الأصغر لإخوته الذين حلّقت أرواحهم نحو السماء، إذ أصبحتْ ترعبني فكرة أن ينام أحد في هذه الغرفة التي افتقدت جدرانها لأرواح أبنائي... عز الدين ينام الآن في هذه الغرفة، ويفترش تحديداً الأرض بين سريرَي إخوته ليشعر برائحتهم في المكان... أصبحتُ أخاف من أن ينام هو فيها، لأنني لا أريد أن أفقد ابناً آخر".
وتقول أيضاً الأم الثكلى، "مع اقتحام الجيش الإسرائيلي لمدينة جنين ومخيمها بشكل متكرر، أصبحتُ أخشى الفقد أكثر من أي وقتٍ مضى... أراعي مشاعر أبنائي الأحياء وأجبر نفسي على الثبات رغم كل هذا الألم، حتى يستطيعوا هم أيضاً مواجهة كل التحديات التي يفرضها الاحتلال على شعبنا".
من خلال حديثنا مع أم نور وغيرها من أمهات فلسطين اللواتي خسرنَ ولداً، فهمنا أن هؤلاء لا يرغبن بأن يظهرن بحلّة المرأة القوية والصابرة فحسب. لذا، من المُحبّذ ألا تُنقل دوماً صورة الأم وهي قوية... فأوجاعها لا يتحمّلها أحد.
تخيّلوا فقط البيوت التي تخلو من أبنائها وتغدو فيها الأمهات وحيدات مع أشباح الذكريات وآلامٍ لا يقوى أحد على حملها، وانقلوا هذا المشهد. فهذه هي الصورة التي يجب أن يراها العالم أيضاً، ليرى حقيقة الفقدان والحداد اللذين يوقعهما الاحتلال على الأمهات الفلسطينيات اليوم، وكلّ يوم.