هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية)
فيما تتشبّث السلطة في لبنان بنظمها الرثّة ورؤاها الضيّقة للمجتمع، يقبع أفراد الميم-عين في معركةٍ دائمة التأجيل يصارعون التمييز الممنهج ضدّهم ويقاسون الحرمان من حقّهم في الشعور بأنفسهم بحريّةٍ وأمان. يكابدون المظالم مزدوجةً، ويُحرمون من أبسط الحقوق الصحيّة والعمّاليّة، لا بل حتّى من الملاجئ الطارئة والآمنة، بخاصّة لمَن شرّدتهم سياسات التجريم والإفقار. يُحرمون أيضاً من الرعاية الصحيّة الملائمة، مثل دخول المستشفيات من دون الاضطرار إلى إخفاء ملامحهم بخاصّة إذا كانوا من العابرين/ات.
وبينما نتفرّج حائرين على ما ترتكبه أيدي جلّادينا بأعمارنا التي نهشوها، نتذكّر بين الفينة والأخرى أنْ كان لنا قضايا حقّة أوصلناها قُبيل الانهيار الأبوكاليبتي إلى برٍّ ما، ظننّاه ربّما يكون أكثر صلابةً من سابقه، مرتكزين في ذلك إلى الوعود التي حملتها لنا نظريّاتُ التسديدات التراكميّة.
من بين تلك القضايا، حقوق فئاتٍ من الناس تغيّرت تعريفاتُها بماهيّتها بقدْر ما تبدّلت تعريفاتُ أفرادها بذواتهم، بما يُقرّبهم، ولو شبراً أكثر، من حقيقة ما يشعرون به وما تكون ذواتهم عليه في لحظةٍ معيّنة من الزمن. والشعور هذا هو في الواقع أسمى تعريف، وأدقّ تعريف. هو أيضاً ما لن تسعَه حروف الأبجديّة التي نحذف أحدها تارةً ونضيف آخر تارةً أخرى علّنا نعكس بوفاءٍ أكبر تبدّلات الهويّة والعاطفة، والكينونة الحميمة ما بينهما.
اللّافت أنّ هذا الشعور النابض والمتحرّك يستمرّ ويبقى، رغماً عن أنوف الجلّادين والمآزق التي أنتجوها، بدءاً من انهيار القدرة المعيشيّة واللّيرة وصولاً إلى انهيار 4 آب والقطاعات الصحيّة والتعليميّة. وإذا ما أعدنا النظر في كل الانهيارات، يتبدّى لنا أنّ أحد أهدافها كان في الواقع إلهاءنا عن ذواتنا وطموحها لصالح حاجيّات جدّ بديهيّة باتت تقتصر على الخبز والدواء والوقود و"الفريش" بدلاً من الحريّة والنمو والسعادة.
الشعور أسمى تعريف، وأدقّ تعريف. هو أيضاً ما لن تسعَه حروف الأبجديّة التي نحذف أحدها تارةً ونضيف آخر تارةً أخرى علّنا نعكس بوفاءٍ أكبر تبدّلات الهويّة والعاطفة، والكينونة الحميمة ما بينهما
في لبنان، ما زال ميدان الشعور المرن والحرّ يُربك كثيرين، لا بل شبهُ ممنوعٍ اختبارُه أحياناً، فكيف بالحري سبر أغواره في زمنٍ تنهال فيه الويلات فوق رؤوس مَن لا تُحترم رحلةُ شعوره من الأساس؟
في ما يلي، لن نُعيد سرد المضاعفات على الفئات الأكثر تهميشاً أو تعداد مواد قانونيّة تستكثر علينا حقوقنا الجنسيّة والجسديّة، إنّما بصدد إعادة التصويب على القيادات المجرمة من أجل فهم بعض أسباب تمسّكها بتجريم المجتمعات المهمّشة، ومن بينها أصحاب العواطف والرغبات "غير الشرعيّة".
في السنوات الماضية، لم تتوقّف المداهمات والملاحقات بحقّ أفراد الميم-عين (المثليّين/ات ومزدوجي/ات التوجّه الجنسي والعابرين/ات)، على رغم الأزمات المتعاقبة التي يدفعون ثمنها حالهم حال سائر المقيمين/ات في لبنان، وبأثمانٍ مضاعفة في الكثير من الأحيان، لا لشيء، سوى أنّ هويّاتهم أو ميولهم لا تعجب كثيرين.
لكن في مقابل هذا المشهد القاتم، كانت مجموعاتٌ حقوقيّة عدّة تبرز وتنشط أكثر، وكانت نساء مثليّات وكويريّات يمتلكن المساحة أكثر، وكانت قراراتٌ واعدة تتوالى من محاكم سجّلت أحكاماً نوعيّة لقضاةٍ رفضوا محاكمة أشخاص مثليّين/ات وعابرين/ات على أساس المادّة 534 التي تجرّم "المجامعة خلافاً للطبيعة"، مبشّرين ببوادر تغييرٍ في المسارين الاجتماعي والقضائي في التعامل مع هذه المسألة. تُوّج المسار القضائي في العامين 2019 و2020 بقرارات مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية، القاضي بيتر جرمانوس، التي قضت بمنع ملاحقة عسكريّين أحيلوا أمامه بجرم المادة 534، كاسراً بذلك تقليداً ذكوريّاً رسّخ الرابط الكلاسيكي بين الرجولة المعياريّة والعسكرة المُحتفى بها.
سبقت هذه التطوّرات القضائيّة مواقف إيجابيّة أخرى، كتلك المتعلّقة بحظر نقابة الأطبّاء ووزارة العدل إجراءَ الفحوص الشرجيّة كوسيلة لإثبات المثليّة الجنسيّة لدى الذكور، ودعوات جسم الطبّ النفسي إلى الكفّ عن التعامل مع المثليّة الجنسيّة كاضطرابٍ نفسي.
على خطّ موازٍ، حفلت البلاد بورشٍ نسويّة أفضت جهودُها إلى إدخال بعض التعديلات إلى المنظومة التشريعيّة، تحديداً على صعيد مكافحة العنف الأسري، ورفع سنّ حضانة الأمّ لأطفالها لدى بعض الطوائف، ومعاقبة التحرّش الجنسي، ومنع أصحاب العمل من التقدّم بشكاوى فرار ضد عاملات المنازل، وغيرها من التحسينات. لم تطل هذه الحركيّة التشريعيّة مجتمعات مهمّشة أخرى بالزخم نفسه، ومنها مجموعات الميم-عين، لا بل طُوّقت تلك أكثر، وهوجمت أكثر، حتّى أنّ بعض فاعليّاتها ومؤتمراتها أُقفلت عنوةً بموجبات واهية وغير قانونيّة.
يُحتسب للحركتَين، النسويّة والميم-عينيّة، بتقاطعاتهما الوثيقة واختلافاتهما الثريّة، إحداثهما فروقات فكريّة واجتماعيّة وسياساتيّة مهمّة في السنوات العشر المنصرمة، هما اللتان اتّحدتا، وإن بشكلٍ غير مُدبَّر، في مواجهة النظام الأبوي نفسه وتهديد بعض أسسه، ومن ضمنها بنية الأسرة عموماً، والأسرة اللبنانيّة خصوصاً. لكن بأي معنى؟ بمعنى أنّ العلاقات غير المعياريّة والتعبيرات غير النمطيّة من الواضح أنّها، على غرار الإصلاحات ذات التوجّه النسوي التي تطال ميدان الأسرة، لن تكون في خدمة مصلحة الحلف المتين بين النظام الحالي وشريحة كبيرة من المجتمع، واللذين يجمعهما هاجسٌ مشترك يتمثّل بإدامة القواعد الجندريّة والجنسيّة المعياريّة على أساس ثبات علاقة الجنس بالنوع، والإنجاب بالميل المغاير، والتكاثر بالقيمة الوطنيّة العليا، عن طريق الإكثار من أعضاء الجماعة الواحدة مثلاً.
بهذا المعنى، من شأن أي مخالفة للدور والشكل والتعبير والميول المُتوقّعة من الفرد أن تخلّ بتركيبة الجماعة في الوطن وبتركيبة الوطن بجماعاته، نظراً إلى أنّ مجرّد القبول باحتمال "المخالفة" سيشرّع، في نظر السلطة، الأبواب أمام كلّ المخالفات، ممّا يُفسد لها حساباتها ورهاناتها على المستقبل.
إذاً، يرتبك النظام اللبناني أمام كلّ ما من شأنه لوي أذرعه، حرفيّاً. والنظام البطريركي المرتكز إلى جماعاته التي تتخاصم حيناً وتلتحم حيناً آخر، هو بأمسّ الحاجة ودوامها إلى ضمان استمرار التركيبات التي يعدّها حليفةً له، ذلك أنّها هي نفسها ما يشكّل له الشريان الحيوي الذي سيخزّن مصالحه ويورثها من جيلٍ إلى جيل. لكنّ الخوف يبقى، دائماً وأبداً، من قدرة أي نظام استغلالي ومحتكر للثروة، على تكييف نفسه إمّا مع تركيباتٍ قديمة نَجَتْ في السابق من براثينه وما زالت تنشط تحت أعينه اليوم، أو مع تركيباتٍ طارئة ظهرت وبدا له أنّها ستقوى، فيسعى إلى تأمين ديمومته عبر الاستجابة، ولو المتأخّرة، إليها، ليكسبَها، وربّما ليبتلع بعضها، كما سبق أن ابتلع أجزاءً من حركاتٍ نسويّة ونقابيّة في الماضي غير البعيد.
مع ذلك، لا شيء يدلّ إلى أن النظام مستعد في الوقت الراهن للتخلّي عن جزء من ترسانته الأبويّة والدينيّة، وذلك من أجل الحفاظ على ديمومته، ببساطة لأنّه، وحتّى الساعة، ليس لديه في المقابل ما سيربحه لقاء هذا البتر. ولكن أيضاً لأنّ مَن يفاوضونه، وإن كانوا يضايقونه، لا يستدعون، بنظره، تنازلاتٍ كبرى... إنّما حتّى إشعارٍ آخر، وشعورٍ آخر، وحرفٍ آخر، وصدفةٍ تشريعيّة أخرى.