هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
"كان ظلّي. انتظرَني في أحد الأيام عند زاوية الشارع لينقضّ عليّ كالوحش ويقتلني. شدّني من شعري وجرّني على الأرض سحباً حتى تمكّن من إدخالي إلى السيارة. نجحتُ في تنبيه والدتي لما جرى، ولكن بعد فوات الأوان. ضغط على دوّاسة الوقود فانطلقت السيارة مسرعةً وكأنها تسابق نبضات قلبي. كنت أصرخ وأتوسّل إليه أن يتركني. كنت أصرخ من أجل أطفالي. ما زلتُ لا أعلم كيف حصل ما حصل، لكنّه توقف فجأة وتركني أترجّل من السيارة. ها أنا أروي الحادثة، وقد نجوت منها بحياتي". بهذه الكلمات تستذكر لورا -وهو اسم مستعار للحفاظ على سلامتها وأمن عائلتها- أحدَ الأحداث الأكثر ترويعاً التي عاشتها جرّاء العنف الذي أنزله بها شريك حياتها السابق ووالد أطفالها.
للهرب من معنّفها، اضطرّت لورا إلى السفر وراء المحيط من أمريكا الوسطى إلى إسبانيا حيث أملت الابتعاد عن محنتها التي لا تزال حتى اليوم تقضّ مضجعها. لكن الحياة كانت تحضّر لها فخاً لم يكن بالحسبان. وطأت قدمها البلد الأوروبي بعد وعد كاذب بوظيفة في العمل المنزلي تخوّلها المضي قدماً، ولكن في الواقع، وجدت لورا نفسها عالقة في شبكة للاتجار بالنساء بهدف الاستغلال الجنسي.
تخبرنا لورا وهي تمسح وجنتيها: "في المرّة الأولى التي أُجبرت فيها على بيع خدمات جنسيّة، لم أتوقف لحظةً عن البكاء، والدموع التي تحضرني الآن وأنا أتذكر ما حصل لا تقارن بتلك التي ذرفتها في ذلك اليوم. كنت أستغفر ربّي مرة بعد مرة. شعرتُ بأنني قذرة وأن مياه الحمام لا يمكنها أن تغسل عني العذاب ولا الذنب ولا العار ولا الألم".

مضى ذلك اليوم وتتالت بعده مرات عدة وتعرفت لورا على نساء أخريات حالهنّ كحالها. كنّ أمهات تفصلهن عن أولادهن آلاف الكيلومترات وخُدعن أيضاً بوعود فارغة بعمل كريم لتأمين مستقبل جيّد لأولادهن. تروي هذه الشابة البالغة من العمر 25 عاماً أن كل النساء كنّ يعشن محبوسات طوال النهار في غرفة فيها أسرّة بطابقين. عاشت لورا مع نساء غريبات سرعان ما أصبحن أكبر مصدر دعم ومواساة لها. وتخبر لورا: "كنّا نسرّح شعر بعضنا حتى أننا كنّا نتمازح ونقول إنه لا يهمنا لو قبض علينا لأننا نعيش في سجن أصلاً".
تتحدّث لورا بصيغة الماضي بما أنها لحسن الحظ استطاعت النجاة من ذلك المكان، بفضل دعم فريق منظمة "أطبّاء العالم" الذي ساعدها في طلب الحماية والدخول في نظام رعاية الدولة، من خلال المنظّمة غير الحكومية Rescate المتخصصة بالمسائل الجندرية والتي توفّر الدعم النفسي الاجتماعي والقانوني وتدير سبع مراكز لإيواء طالبي وطالبات اللجوء الذين هربوا من بلدانهم لأسباب متعلقة بالإساءة المبنية على النوع الاجتماعي. توفّر المنظمة الرعاية اللازمة وسقفاً يأوي النساء ضحايا الممارسات التقليدية والثقافية و/أو الدينية الضارة، مثل تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية أو الزواج القسري أو المبكر وتقييد الحقوق الجنسية والإنجابية (مثل الإجهاض القسري، والتعقيم القسري، والحمل القسري، وفحص العذرية، وأعمال العنف الجنسي)، وضحايا الاغتصاب والعنف في سياق مسلّح، وقتل الإناث، والإساءة من جانب شريك حالي أو سابق، واستقطاب شبكات الإتجار بالبشر والقوانين التمييزية ضد النساء وأفراد مجتمع الميم. وعلى رغم أننا نتكلم عن نساء عانين بشكل مباشر من شتى أشكال الإساءة، يبقين ناجيات في المقام الأول؛ ناجيات من الممارسات اللاإنسانية عبر الحدود والعنف الممنهج ضد النساء.
"كنّا نسرّح شعر بعضنا حتى أننا كنّا نتمازح ونقول إنه لا يهمنا لو قبض علينا لأننا نعيش في سجن أصلاً"
في إسبانيا، ينص القانون رقم 12/2009، الذي ينظم اللجوء والحماية الثانوية صراحةً في تعريف اللاجئ/ة على أنّ الاضطهاد القائم على الجندر أو التوجّه الجنسي يعدّ سبباً للجوء، وبالتالي يوسّع التعريف المذكور في اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بوضع اللاجئين لعام 1951. على رغم أنّ إحصاءات اللجوء الرسمية لا تفصّل هذه المعلومات، تُعدّ لورا واحدة من بين نساء كثيرات لجأن إلى هذا البلد الواقع على البحر الأبيض المتوسط هرباً من العنف المبني على العصبية الجندرية.
تُصارحنا لورا بقناعتها قائلةً: "رغم كل شيء، أحاول كل يوم أن أذكّر نفسي أنه لا يمكن لأحد أن يقصّ جناحَي وأنا من أقرّر إلى أي مدى يمكن أن أطير. أنا على قيد الحياة، وأريد أن أشارك قصتي مهما كانت مؤلمة كي لا تعيش نساء أخريات الألم نفسه. أريد أن أشارك قصتي كي أبقى أُماً لأولادي وكي يكبروا في جوّ من الاحترام. هم مصدر قوتي التي تدفعني للأمام". يظهر على جسم لورا وشم زهرة اللوتس التي تحمل رمزية خاصة بالنسبة إليها، فهي "الزهرة الوحيدة التي يمكن أن تتفتّح وسط الهشيم."
الشعور بالوحدة وغياب شبكات الدعم: عائق أمام المهاجرات اللواتي يتعرضن للتعنيف الذكوري
في العام 2018، هاجرت برندا من موطنها الأرجنتين إلى إسبانيا بحثاً عن فرص عمل. دخلت البلد بتأشيرة سفر سياحية وعند انتهاء مدّتها، أصبحت إقامة برندا في إسبانيا غير قانونية ولم يكن أمامها سوى التأقلم مع شعورٍ دائم بالخوف والقلق من احتمال ترحيلها إلى بلد المنشأ. وفيما كان شعورها بالوحدة وبغياب شبكة الدعم يكبّلها طوال تلك الفترة، تعرّفت إلى الرجل الذي أصبح شريكها ثم مصدر عذابها الأكبر، فزعزع ثقتها بنفسها نتيجة الإساءة النفسية والعاطفية التي ألحقها بها.
بعد فترة وجيزة من تعارفهما، عرض حبيبها عليها تسجيل علاقتهما رسمياً كعلاقة "معاشرة بلا زواج" التي ينطبق هذا المصطلح على العلاقة التي تجمع بين شخصين يريدان العيش معاً بشكل مستقر، وهي شبيهة بالمساكنة، فيقرّران تسجيل العلاقة رسمياً. مكّن ذلك برندا من الحصول على بطاقة إقامة وتسوية لوضعها في إسبانيا وبالتالي تجنّب أي مشاكل مع الشرطة ووضع حد لخوفها من ترحيلها إلى الأرجنتين. لكن هذا الاقتراح ما لبث أن تحوّل إلى أهم ورقة ضغط في جعبت شريكها لابتزازها والتحكم بها واستغلالها. وتشرح برندا: "بما أنّ بطاقة الإقامة كانت تحمل اسمه ومعلوماته الشخصية، ظنّ أنني ملك له."
على الرغم من الإذلال والمضايقات الدائمة التي تقول برندا إنها تعرّضت لها، لا تنفي أنها حاولت الفرار مرّات عدة. لكنها تقول باستياء إنه "لم يكن هناك مكان تلجأ إليه أو أحد تتصل به"، لأن شبكة الدعم في إسبانيا كانت شبه معدومة ولم تكن تريد أن يصل الخبر إلى عائلتها في الأرجنتين.
هو مسار لشفاء الجروح، الظاهرة والضمنية، تعتمده برندا أيضاً بدعم من منظمة Rescate، من خلال مشروع سابينا، الذي يغطّي مالاغا ومدريد
استمر الوضع على هذه الحال لشهور، وخلال الحجر الصحي الصارم للحد من انتشار فيروس كوفيد-19 الذي فرضته إسبانيا من شهر آذار/مارس إلى أيار/مايو عام 2020، قرّرت برندا في أحد الأيام الاتصال بالرقم 016، الرقم المخصص من وزارة المساواة عن طريق الوفد الحكومي بشأن العنف القائم على النوع الاجتماعي، والذي يوفّر معلومات ومشورة قانونية ومساعدة نفسية-اجتماعية فورية عبر فريق عمل متخصص بشأن جميع أشكال العنف ضد النساء. والملفت أن الاتصالات التي تلقتها خدمة المساعدة الهاتفية هذه ازدادت بنسبة 60% خلال فترة الحجر المنزلي.
تروي برندا بأسف: "نصحوني بأن أجمع أغراضي وأتوجه إلى أقرب مركز شرطة لأبلغ عنه، لكنني كنت أخاف أن أقدم على ذلك وحدي. سألوني عمّا إذا تعرضت لعنف جسدي، فنفيت الأمر، وأوضحت أنني أتعرض لعنف نفسي واقتصادي وعاطفي وأنني لم أعد قادرة على التحمّل. لكن لم يستطيعوا مساعدتي".
في أحد الأيام، خرجت برندا فجأة من المنزل ومعها حقيبتها ولجأت إلى عدد من صديقاتها اللواتي بدأن مجموعة دعم متبادل أسمَينها "شبكة أمريكا اللاتينية النسوية".
هو مسار لشفاء الجروح، الظاهرة والضمنية، تعتمده برندا أيضاً بدعم من منظمة Rescate، من خلال مشروع سابينا، الذي يغطي كلا من مالاغا ومدريد. تخبرنا المعالجة النفسية بربرا عن المشروع وتقول: "هو برنامج يهدف إلى دعم النساء المهاجرات اللواتي عانين أو يعانين من العنف القائم على النوع الاجتماعي. وذلك من خلال السعي إلى منع تعرض النساء لحالات العنف ومساعدتهن، لاسيما اللواتي ليس لديهن شبكة دعم ويعشن في وحدة جرّاء الهجرة ويتعرّضن للتمييز والإساءة وعدم الاستقرار والاستغلال في العمالة". وتسلّط بربرا الضوء في عملها على "الأدوات الحيوية التي بحوزة هؤلاء النساء للمضي قدماً رغم كل المعاناة المتراكمة التي عشنها".
اليوم، ترغب برندا التي تعرّف عن نفسها كناشطة نسوية، بكسر حاجز الصمت لأنها تدرك أنّ ما مرت به "يمكن أن يتكرر مع أي امرأة أخرى". ولهذا السبب، ترفع برندا صوتها وتشارك هذه الذكريات الأليمة واصفةً ذلك بالعمل "الشافي"، إذ ترى به سبيلاً لمساعدة غيرها من النساء المهاجرات اللواتي يعشن ظروفاً مشابهة حيث يشكّل عدم الاستقرار وغياب شبكة الدعم عاملَين إضافيين إلى جانب الكثير من العوامل الأخرى التي تقف حجر عثرة أمام قدرة النساء على الحد من العنف الذي يتعرّضن له.