هرب الأسد من السلطة في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، مما أحدث فراغاً كاملاً في البلاد. في اليوم التالي، وصل أحمد الشرع (زعيم هيئة تحرير الشام - جبهة النصرة سابقاً) قائد العلميات الجديدة إلى القصر الجمهوري وعيّن حكومة مشكلة من أتباعه بشكل أساسي وكلفها بتسيير الوزارات السيادية، مع إغفال الوزارات الأخرى، بما في ذلك وزارة الثقافة.
بالتزامن مع هذا، انتشرت مظاهر دعوية إسلامية في عدة مناطق، حيث لم تقتصر الدعوات على سيارات مزودة بمكبرات صوت، بل شملت أيضاً حملة واسعة عبر نشر ملصقات مجهولة المصدر على جدران دمشق، تحثُّ النساء على الامتثال للباس "الشرعي". كانت الحملة تتخذ طابعاً دينياً واجتماعياً ضاغطاً، حيث تضمنت الملصقات شروط الحجاب "الشرعي" مثل: "أن يكون ساتراً لجميع البدن"، "ألا يشبه لباس الرجال أو الكافرات"، "ألا يكون معطراً". أثار هذا موجة من الغضب على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث اعتُبرت هذه الدعوات نوعاً من الضغط الاجتماعي والديني، وتجاهلاً للطوائف الأخرى واتهام نسائهن بالكفر.
يُذكر أيضاً أنه ظهرت محاولات من جهات مجهولة للترويج لفصل الرجال عن النساء في وسائل النقل العامة، مما أثار قلقاً واسعاً وتساؤلات حول هوية هذه الجهات ومدى شرعيتها.
وفي ظل هذه الضبابية، نقلت منصة "تأكد" عن وزارة الأوقاف في حكومة تسيير الأعمال تصريحاً يؤكد أن هذه المجموعات تعمل بإشراف الوزارة، وأن الوزير على دراية تامة بتحركاتها. عزز هذا الإعلان المخاوف من توجهات منظمة تهدف إلى تقييد حرية النساء وفرض أنماط لباس وسلوك محددة عليهن.
رفض هذه الدعوات الأحادية
لكن نساء دمشق لم يبقين مكتوفات الأيدي. فقد شهدت المدينة موجة مقاومة نسوية غير عنيفة، تمثّلت في إعادة نشر ملصقات مشابهة لتلك الدعوية، ولكن برسائل معاكسة تماماً، تؤكد على حق المرأة في اختيار لباسها بحرية، وتشدد على أن الحجاب أو النقاب يجب أن يكون خياراً فردياً، لا فرضاً مجتمعياً.
وجاء في هذه الملصقات: "لقد حصلنا على الحرية من أجل الجميع، فاختاري ما تشائين من اللباس في سوريا الحرة." كما تضمنت رسوماً لنساء يرتدين أنماطاً مختلفة من الملابس، من الحجاب والنقاب إلى اللباس غير التقليدي (السبور). ومن بين الشروط التي أكدت عليها هذه الدعوات للباس الحر: "ألا يكون مفروضاً عليكِ"، "أن يعجبكِ ويتناسب مع ذوقك"، "أن يكون باختيارك ورغبتك الكاملة".
تعكس هذه التحركات وعي النساء السوريات بحقوقهن وإصرارهن على رفض أي شكل من أشكال الوصاية الذكورية. كما تؤكد أن مقاومة هذه التوجهات لا تتطلب العنف، بل تستند إلى وعي جماعي يعزز ثقافة التنوع والاختيار الحر في المجتمع.
تستمر معركة السوريات بين التحديات الجديدة التي يفرضها الواقع السياسي والاجتماعي، وإصرارهن على الدفاع عن حقوقهن المكتسبة، وترسيخ وجودهن في فضاء عام عادل ومتساوٍ يحترم خياراتهن الشخصية بعيداً عن أي شكل من الإكراه أو الفرض.
وفي حين جاء الرد عملياً من الشارع الرافض لهذه الإجراءات، لم يصدر أي بيان نسوي موحد يناقشها بوضوح، واقتصر الأمر على أصوات فردية أعلنت رفضها بشكل صريح.
يتحول التركيز على لباس المرأة إلى آلة تستخدمها السلطات الجديدة لتحقيق عدة أهداف. فمن جهة، يُفرض على النساء نمط لباس معين كوسيلة لترسيخ هوية الدولة الجديدة وإبراز رؤيتها المجتمعية، حيث يُنظر إليهن كرموز ثقافية ودينية.
أداة إضافية للسيطرة على الفضاء العام
مع التغيرات السياسية، يتحول التركيز على لباس المرأة إلى آلة تستخدمها السلطات الجديدة لتحقيق عدة أهداف. فمن جهة، يُفرض على النساء نمط لباس معين كوسيلة لترسيخ هوية الدولة الجديدة وإبراز رؤيتها المجتمعية، حيث يُنظر إليهن كرموز ثقافية ودينية تعكس التوجه السياسي السائد. ومن جهة أخرى، يُستغل هذا الجدل لصرف الأنظار عن الأزمات الأكثر إلحاحاً، مثل التحديات الاقتصادية والأمنية، في محاولة لتقديم ما يُسمى بـ"الانتصارات الأخلاقية" على حساب الحريات الفردية.
ويبدو أن فرض قواعد لباس معينة يمنح السلطات فرصة للسيطرة على الفضاء العام، ما يتيح لها إحكام قبضتها السياسية وإعادة تشكيل المجتمع وفقاً لمبادئها الأيديولوجية. وفي هذا السياق، يتجلى الصراع بين الحداثة والتقاليد، حيث تسعى التيارات المحافظة إلى إعادة إنتاج منظومة "القيم التقليدية"، بينما تعمل الحركات المدنية على ترسيخ حق النساء في اختيار لباسهن بحرية، باعتباره جزءاً لا يتجزأ من الحقوق الفردية والاستقلالية الشخصية.
وفي ظل غياب سياسات واضحة لمعالجة التحديات الجوهرية، تصبح قضايا النساء ورقة سياسية تُستغل لتحقيق مكاسب أيديولوجية أو شعبوية.