على عجلٍ، تناولتُ معطفي الشتوي ذو الطاقيّة الزيتية اللون وارتديته، متجاهلةً الطقس البارد وزحمة الطرقات، فور سماعي عن اجتماع نظمته مجموعة من النساء العضوات والصديقات في تجمع "سوريّات"*، يوم الأحد 22 كانون الأول/ ديسمبر.
كان الاجتماع بهدف التشاور حول ما يجب أن نقوم به كناشطات بعد سقوط نظام الأسد سواء من خلال المظاهرات أو المسيرات أو التعاون مع جهات مدنية ونسوية أخرى، وبخاصة وسط رفض تسليط الضوء على قضايا تتعلق بالنساء بحجة أن "هذا ليس وقته"، بكل تأكيد! إنه الجواب المسبق لكلّ ما سنقوم به فور مطالباتنا بوجودنا كنساء في الساحة السياسيّة وفي الدستور والقانون.
لكن، كعادتنا منذ عقود، نحن نطالب بحقوقنا، وأصرّ النظام البائد على القول إن "هذا ليس وقته"، بحججٍ واهية مثل أن القضية الفلسطينية والأمن العام أهم من قضايا النساء. ومع ذلك، لم نعِر لكل ذلك أذناً صاغية. كانت مسيراتنا الصامتة تخرج في يوم مناهضة العنف ضد النساء، نشعل شمعاتنا في ساحة عرنوس، ونعلن تأييدنا للإعلان العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة.
نطالب بحق المرأة في منح جنسيتها لأبنائها، بمنع قتل النساء بحجة "الشرف" وفورة الغضب، بالمساواة في الإرث والحقوق الشرعية، وبقانون يحمي النساء من العنف داخل الأسرة وفي المجتمع ومؤسسات الدولة. كما نطالب بتطبيق الاتفاقيات الدوليّة التي صادقت عليها سوريا منذ أكثر من عقدين، مثل اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.
لم نكتفِ بالمطالبات، بل قدمنا تقارير الظل الموازية لتقارير الحكومة، وواصلنا النضال رغم الملاحقات الأمنية ومحاربة الدولة والمجتمع لحقوق النساء.

قضايا النساء أولويّة
واليوم، لم يتغيّر شيء. سنسمع الحجج نفسها، وندرك جيداً أن قضايا النساء ليست أولوية عند المجتمعات الذكورية. لكنها في الواقع أولوية، فهي المعتقلة والسياسية والضحية، وأم من قتلهم النظام، والشريكة، والمعيلة، ومَن يقع على عاتقها بناء السلام.
بعد اجتماعنا قررنا النزول إلى السّاحة. هذه المرة، اخترنا ساحة الحجاز وسط دمشق، مكاناً لم يكن يسمح لنا نظام الأسد السابق بالخروج إليه من قبل.
في يوم الأحد 22 كانون الأول/ ديسمبر نزلنا: نساءً معتقلاتٍ سابقاً، سياسياتٍ، محامياتٍ، طبيباتٍ، صحفياتٍ، وناشطات في المجتمع المدني وفي مختلف مناحي الحياة. رفعنا لافتات كتبناها بأيدينا تحمل عبارات مثل: "نعم لحماية النساء المعتقلات وأطفالهن". "نحن مواطنات ومواطنون كاملو الحقوق". "نعم لفصل الدين عن الدولة". "حقوق النساء ضرورة وليس ترفاً". "فصل السلطات طريق إلى العدالة".
في يوم شديد البرودة، خرجنا حاملاتٍ هذه اللافتات، لكن دفء فرحة تحرير سوريا والحماس جعلنا نشعر وكأننا في منتصف الصيف في سوريا الحرّة. رفعنا علمنا الذي اخترناه، علماً بعيداً عن تمجيد أي فرد وأي لون، إلّا لون سوريا.
واليوم، لم يتغيّر شيء. سنسمع الحجج نفسها، وندرك جيداً أن قضايا النساء ليست أولوية عند المجتمعات الذكورية. لكنها في الواقع أولوية، فهي المعتقلة والسياسية والضحية، وأم من قتلهم النظام، والشريكة، والمعيلة، ومَن يقع على عاتقها بناء السلام.
محاولات إعاقة الاعتصام
وقفنا بصمت، نحن عشرات النساء، وقد رفعنا اللافتات. بدأت المحطات الإعلامية ترصد التحركات التي قمنا بها. وبعد وقت من وقوفنا، وكما توقعنا، بدأت المشاحنات. نساء ورجال حاولوا/ ن ثنينا عن موقفنا وخلق التوتر بصيحاتهم/هن، قائلين/لات إن "هذا ليس وقته" وإنهم/هن لا يريدون/ ن دولة علمانية، رغم أننا لم نرفع أي شعار يطالب بالدولة العلمانية.
التوقعات المسبقة لما تريده النساء خلقت ضجيجاً في الشارع. أما رجال الهيئة التابعة للحكومة المؤقتة، فقد وقفوا صامتين، تنفيذاً لأمر بألا يتدخلوا في أي حراك مدني.
لم توافق حنان زهر الدين، المحامية والعضوة في "المبادرة السياسية النسوية"، على إنهاء الاعتصام قبل انتهاء الوقت المتفق عليه قائلة: "نحن تاريخ طويل. فأنا من المبادرة النسوية سابقاً، وقد بدأنا في تجمع "سوريات" منذ عام 2005. وقفنا في وجه استبداد النظام، وقطعنا طريقه في مشروع قانون أحوال شخصية ظلامي عام 2007 كان على وشك التشريع، لكننا فضحناه وأوقفناه بحملة قوية قمنا بها. عملنا على تغيير قانون الحضانة، وتعديل بنود كثيرة من قوانين الأحوال الشخصية. ألغينا العذر المخفف والمحل في جرائم الشرف، وغيرنا قانون زواج المغتصب من ضحيته. تتابع حنان: "ما زلنا نحاول وسنحاول، من خلال هذا التجمع العريق الذي يضم عدداً من الجمعيات السورية، رغم صعوبة الترخيص، مثل رابطة النساء السوريات، المبادرة النسوية السورية، مركز الدراسات الإسلامية، المنتدى الفكري، جمعية تطوير دور المرأة، مركز مواطنة متساوية، وغيرهم."
حتى الرفض للحراك هو حالة صحيّة
أما رنا شيخ علي، مدافعة عن حقوق الإنسان من مبادرة "دارة سلام" ، فلها رأي آخر. تقول: "أعتبر أن كل تجمع، وكل حركة، وكل رفض أو قبول هو حالة صحية. ومن الطبيعي أن نتعثر أحياناً، لكننا نعود بطريقة أخرى. ها نحن توقفنا، لكننا تابعنا في نفس اليوم زيارة عائلات الضحايا الذين قُتلوا تحت التعذيب. حضرنا مجالس العزاء التي كنا نحلم بوجودها، فمن كان يجرؤ سابقاً على فتح عزاء لابنه أو ابنته الذي/ التي مات/ ت تحت التعذيب؟ شاركنا النساء المعيلات لهذه الأسر تطلعاتهن وأمنياتهن، وتابعنا وسنتابع مسيرتنا. لن نكل أو نملّ حتى يصل صوتنا، الذي أصبح أقوى من أي وقت مضى."
وفي هذا الإطار، كان لمنال إسماعيل رأي هام، إذ تنوع عملها بين جمع الوثائق المبعثرة من أمام سجن صيدنايا، والبحث عن معتقلين ناجين في المشافي، والمشاركة في مجالس العزاء. وقالت: "دورنا اليوم في كل مكان. سنشارك ونساهم في كل مناحي الحياة، وسيبقى صوتنا عالياً لنصل إلى طاولة الحوار معاً، شركاء في هذا الوطن، ومشاركين في السلم الأهلي، ومطالبين بالكشف عن الحقائق. لن توقفنا الأصوات الخافتة التي تحاول حصر دورنا في الإنجاب فقط."
وبانتظار الجلوس معاً على طاولة واحدة، نطالب بدولةٍ كما نحلم. لن تتوقف تطلعاتنا عند تحقيق دولة المواطنة التي تحمي الجميع. سنعمل، نساءً ورجالاً معاً، على تحقيق السلم الأهلي، لأننا لن ننجو إلا معاً.