فاطمة البسام
"أم كامل"، للوهلة الأولى ظننت أنها إحدى جارات الحي عندما بشّرتنا خالتي "حبيبة" بقدومها: "اجت أم كامل". مضى على القصة حوالي 18 عاماً، وما زلت أذكر تفاصيل هذا اللقاء الذي عرّفني عليها.
كنت في الحادية عشرة من عمري، ومثل أي طفلة من جنوب لبنان وجدتُ نفسي داخل الملجأ من دون سابق إنذار، لا أذكر أنني اقترفت خطأً ذلك اليوم لأستحق عقاب المكوث في غرفة اسمنتية تأكلها الرطوبة، لمدة 17 يوماً.
كان أحد أيام الأربعاء الحارة في شهر تموز من عام 2006، يوماً لا يُنسى، لأنه قدّم لي أول لقاء مع الحرب في حياتي، جعلني أختبر للمرة الأولى معنى الخوف الحقيقي، ذلك الذي يشعرك وكأنَّ معدتك تتآكل من الداخل وحتى اليوم يتكرر هذا الإحساس كلما شعرت بالتوتر وعدم الأمان.
بدأ القصف العنيف الذي لم أسمع مثله من قبل، وكنت أنتفض مع كلّ ضربة بينما احتضن حقيبة الضهر الخاصة بي، والتي كنت أضع بداخلها عبوات طلاء الأظافر والأقلام الملوّنة وربما فرشاة شعر، صرخت خالتي مستنكرة: "ليش عابطة هالشنطة؟"، لم أجب في حينها، ولكني سأجيب اليوم: كنت أحاول التمسك بأي شيء يعيد لي الإحساس بأيام السلم، بأشيائي التي تشعرني بالاستقرار وسط الفوضى.
"هيدا الي ما بيسمع كلمة ستّو"
كنت طفلة في بداية رحلتي إلى المراهقة. سريعاً، انتقلتُ من اللعب في الحي إلى الوقوف أمام المرآة لاختيار الثوب الأجمل والحقيبة التي تناسبه. منتظرة متى تسمح لي والدتي بانتعال الأحذية ذات الكعب العالي لأتوّج بلقب "الصبية"، في تلك الفترة، زادت الرقابة والمحاذير والممنوعات، تحت حجة "العيب" التي كانت جدتي "سعاد"، رحمها الله، تفرضها بحزم.
أردت البقاء في الضيعة ذلك الصيف، لقضاء العطلة قبل بدء العام الدراسي الجديد. حاولت أمي إقناع جدتي بالقبول، لكنها رفضت بحجّة: "ما بيعرف الواحد شو بصير عليه"، كانت على حقّ، ومع ذلك، بقيت، ولم أرافق أهلي إلى بيروت.
وبعد يومين فقط من بقائي في ضيعتي الحدودية، اندلعت الحرب التي لم تكن في الحسبان. اضطررنا على إثرها للانتقال إلى غرفة كان يستعملها جارنا لحفظ المبيدات والأسمدة الزراعية، تقع أسفل بيته المكوّن من طابقين. أصبحت تلك الغرفة، الموبوءة بروائح كريهة وغير صالحة للاستعمال البشري "الملجأ" الذي احتمينا فيه من القذائف والصواريخ.
"اجت أم كامل"
كان الخوف ينهشني ونظرات جدتي المعاتبة تقول: "ليش ما سمعت الكلمة؟"، ظننت أنني لن أرى نور الشمس مرة أخرى، وأنني سأقضي بقية أيامي في هذا "الملجأ" البائس. تحوّل اللعب في الهواء الطلق أو مجرد التسكّع تحت سماء مكشوفة إلى حلم بعيد المنال كلّما اشتد القصف.
باتت "أم كامل" جزئا أساسياً من حياتنا اليومية، صوتها العالي حاضر في كلّ التفاصيل. نسمع طوال النهار التحذيرات المألوفة: "ما تقربوا على الشباك، أم كامل بتشوفكن"، "طفّوا الضو من أم كامل"، "يلا ننزل قبل ما تجي أم كامل".
كنّا نحو عشرين شخصاً محشورين في غرفة تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة. وعلى مدى 17 صباحاً، لم يكن لدينا سوى سؤال واحد يتكرر بلا انقطاع: "خلصت الحرب؟"، وكانت الإجابة دائماً: "لا".
كلما استيقظت من قيلولة، ظننت أن الحرب ستنتهي، كالحلم الذي كنت أهرب إليه وسط الضجيج. لكن الأصوات المخيفة كانت تعيدني للواقع، تخطف لوني وتجعل العودة إلى السكينة أمراً مستحيلاً.
صرخت خالتي: "اجت أم كامل!". لم أكن أعرف حينها إن كان لديهم قصّة خاصة معها، لكن ما أدركته أن هذا الاسم، الذي أطلقه الجنوبيون على طائرة الاستطلاع الإسرائيلية "MK"، يحمل في طياته خوفاً عميقاً. كانت تلك أول مرة أسمع باسمها.
لم تحمل "أم كامل" يوماً نوايا طيبة. تحوّلت من مجرد جاسوسة إلكترونية إلى مقاتلة حربية بدون طيار، قادرة على القضاء على أي هدف بدقة متناهية، سواء كان مدنياً أو عسكرياً. تخبئ تحت جناحيها أربعة صواريخ دقيقة، تُصيب دائماً أهدافها، وكانت تُستخدم بشكل خاص في تنفيذ عمليات اغتيال، نُفذ منها العشرات.
باتت "أم كامل" جزئا أساسياً من حياتنا اليومية، صوتها العالي حاضر في كلّ التفاصيل. نسمع طوال النهار التحذيرات المألوفة: "ما تقربوا على الشباك، أم كامل بتشوفكن"، "طفّوا الضو من أم كامل"، "يلا ننزل قبل ما تجي أم كامل". فرضت نفسها علينا كجارة ثقيلة الظل، غير مرحب بها على الإطلاق. ومع ذلك، لم يكن أمامنا سوى التعايش معها، ومع صوتها المزعج الذي يشبه "النعيق".
وبعد 18 عاماً،on September 2024 عادت "أم كامل" إلى عادتها القديمة، تتسلل إلى يومياتنا، تحتسي معنا فنجان القهوة الصباحية، وترافقنا بعد يوم طويل إلى فراشنا في الغرف التي نزحنا إليها، لا تتعب، لا تكل، ولا تصمت.
تذكرنا بأن حياتنا العادية أصبحت تحت المجهر، تثرثر بكلام غير مفهوم، ربما ترد على أحاديثنا اليومية، حتى أصبح صوتها محفوراً في ذاكرتنا، نسمعه حتى في غيابها.
هل لدى "أم كامل" مشكلة شخصية معي، فقط لأنني أنكرت معرفتي بها منذ أعوام؟
*حرب عام 2006: التي تُعرف أيضاً بحرب تموز، حسب التسمية الشائعة في لبنان. بدأت في 12 تموز/ يوليو 2006، بين قوات من حزب الله اللبناني وقوات الجيش الإسرائيلي، واستمرت 34 يوماً في مناطق مختلفة من لبنان، خاصة في المناطق الجنوبية والشرقية وفي العاصمة بيروت، كما امتدت إلى شمالي "إسرائيل"، في مناطق الجليل، الكرمل ومرج ابن عامر.