أين ذهبت الإنسانية؟

يشرّع الإفلات من العقاب ما لا يوصف ويجعله مقبولاً برغم ما يسببه من ذهول حين نفكر في الضحايا وهم أناس مثلنا. فإذا كان يجوز إنهاء حياة كل هؤلاء الأشخاص من دون حسيب ولا رقيب، فما القيمة الفعلية لحياة الإنسان يا ترى؟

هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: English (الإنجليزية) VO

"لا تسمِّ نفسك حراً إذا لم يكن بوسعك تغيير أي شيء أو وضع حد للإبادة الجماعية المستمرة حتى الآن". هذا السهم الذي رمى به المصور الغزّاوي معتز عزايزة في مقابلة مع قناة MSNBC وكرره لمتابعيه  البالغ عددهم مليوناً على منصة X، لاقى صدى في ضمائر كثيرين منا: الجرح ما زال ينزف بعد ثلاثة أشهر من العجز أمام الإبادة التي ترتكبها إسرائيل. إذا كنا في القرن الحادي والعشرين لا نملك كمواطنين في الدول الديمقراطية المتحالفة مع المعتدي أي وسيلة لمنعه من ارتكاب إبادة جماعية، فعن أي مواطَنة وديمقراطية نتحدث؟

سبق أن عرفنا الرعب على نطاق كبير ولا يزال ينادينا من خنادق يقبع فيها عشرات الآلاف من  الذين اختفوا في عهد فرانكو، ومن الشواطئ الفرنسية التي كانت بمثابة معسكرات اعتقال للناجين، ومن صور الرجال الذين يتضورون جوعاً وإلى جانبهم أكوام من العظام المكدسة في "أوشفيتز"... وعلى مدى ثلاثة عقود، رأينا الرعب آتياً من البحر الذي نبحث عبره عن آفاق جديدة ونرى في انعكاسه عشرات الآلاف من الأرواح التي غرقت جراء إغلاق الحدود الأوروبية. إذا لم نكن نملك الوسائل اللازمة لمنع حكوماتنا من جرّ الذين يبحثون عن الفرص والحقوق والأمان إلى الموت، فهل يمكن أن نعتبر أنفسنا مواطنين ومواطنات؟ هل يمكننا أن نطلق على النظام الذي يشجع على اللاإنسانية تسمية الديمقراطية؟

المراسل الفلسطيني أنس النجار، أعلن أنه توقف عن تغطية الإبادة الجماعية في غزة وقال: "سلامة عائلتي أهم بألف مرة من البحث عن الأخبار ونقلها لعالم يفتقر إلى الإنسانية". وذلك بعدما قتلت إسرائيل أكثر من 110 صحفيين في قطاع غزة وأفراد من عائلاتهم.

بعد ورود شكوى من أحد المشاهدين بشأن تغطية قناة CBC الإخبارية للإبادة الجماعية، ردت مديرة معايير الصحافة في القناة الكندية على الشكوى، معتبرة أن عمليات القصف الإسرائيلية ليست "وحشية" أو "قاسية" أو "قاتلة" (وهي المصطلحات التي استعملتها القناة لوصف هجوم حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023) لأن الجنود الذين يطلقون النار موجودون على بُعد أميال من القطاع، وبالتالي فهم لا يرون ضحاياهم وهؤلاء لا يرون قاتليهم. بالنسبة إلى البعض، أي عذر ولو كان سيئاً سيفي بالغرض.

"إذا كنا في القرن الحادي والعشرين لا نملك كمواطنين في الدول الديمقراطية المتحالفة مع المعتدي أي وسيلة لمنعه حتى من ارتكاب إبادة جماعية، فعن أي مواطنة وديمقراطية نتحدث؟"

نجرّد مجموعة من إنسانيتها حين نضع في خانة المقبول ما يتعرض له أفرادها، إنما نعتبر أن الأمر نفسه لا يُحتمل لو تعرّض له أشخاص عزيزون علينا. لن ترى أبداً أنه من الطبيعي أن يخاطر ابن أخيك بحياته للعمل في ألمانيا، أو أن تُسجن صديقتك عندما تنهي عملها في قطف الفراولة أو أن يُطرد شعب من أرضه ليتم استبداله بشعب آخر، ناهيك بتعرضّه للإبادة انتقاماً لمقتل آخرين.

ومع ذلك، فبإمكاننا التعايش مع هذا الواقع، لأنّ الضحايا هم الآخرون لا أكثر. ولتجريد مجموعة بأسرها من إنسانيتها، يكفي إخضاعها للظلم، بشكل ممنهج ومتكرر على مر الزمن، حتى يتحوّل العار إلى قاعدة. فبعد 35 عاماً من وصول أول قارب إلى الساحل الأندلسي، لم يثر حطام السفن الأفريقية الاهتمام أو التعاطف المطلوبين، إلا عندما وصلت تلك السفن بالعشرات أو عندما وصل الضحايا إلى أعداد كبيرة. لقد نجحت سياسة الأمر الواقع في أن تكرّس في مخيلتنا الجماعية فكرة أنه إذا كنت فقيرًا وتنتمي إلى عرق معيّن، فمصيرك الطبيعي هو المخاطرة بحياتك إذا كنت تسعى إلى حياة كريمة؛ تماماً كما أقنعت دولة إسرائيل القسم الأكبر من شعبها، عبر عقود من الاحتلال والمجازر والتطهير العرقي والفصل العنصري، بأن المصير الطبيعي للفلسطينيين في غزة، هؤلاء "الحيوانات البشرية" كما يسمونهم، هو الموت على يد جيشها.

"نجرّد مجموعة من إنسانيتها حين نضع في خانة المقبول ما يتعرض له هؤلاء إنما نعتبر أن الأمر نفسه لا يُحتمل لو تعرّض له أشخاص عزيزون علينا".

ولكن أين هي إنسانيتنا عندما نتحوّل إلى مجرد متفرجين غاضبين أمام هذه الهمجية؟ بات المزيد من الناس يتجنّبون صور أطفال غزة العالقين تحت الأنقاض، والمقابر الجماعية، وصور الأطباء الذين يكتشفون أقاربهم القتلى بين المرضى. فهم لا يشيحون ببصرهم لقلة تعاطفهم، بل لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون بكل هذا الألم الذي تسببه هذه المشاهد، فالشعور بالعجز يخنقهم، كما أن معرفة المعلومات بدون قنوات لتحويل تلك المعرفة إلى عمل سياسي، لا تكفي لنكون مواطنين ومواطنات أفضل، بل يزيدنا ذلك وعياً بقدرتنا المحدودة على المشاركة. وعندما نشعر بالإحباط من تواطؤ ممثلينا الرسميين مع جرائم ضد الإنسانية، فإن الشعور بالذنب يسوقنا إلى تآكل ثقتنا بالديمقراطية نفسها. وبخاصة عندما نعلم أن هذا القدر الكبير من السادية لم يكن من الممكن تصوره لولا عقود سابقة من الإفلات من العقاب.

يشرّع الإفلات من العقاب ما لا يوصف ويجعله مقبولاً برغم ما يسببه من ذهول حين نفكر في الضحايا وهم أناس مثلنا. فإذا كان يجوز إنهاء حياة كل هؤلاء الأشخاص من دون حسيب ولا رقيب، فما القيمة الفعلية لحياة الإنسان يا ترى؟

لذلك فإنّ محاربة الإفلات من العقاب هي وسيلة للحفاظ على الإنسانية. ولهذا السبب، تمكن الإشادة بما تقوم به مجموعات مثل Coordinadora de Barrios التي تواصل النضال من أجل تحقيق العدالة لـ15 شخصاً غرقوا تحت وابل من الكرات المطاطية التي ألقاها الحرس المدني الإسباني، عندما كانوا يحاولون السباحة إلى شاطئ تاراخال في مدينة سبتة؛ إضافة إلى ما يقوم به الصحفيون الذين لا يزالون يتقصون الحقيقة في المجزرة التي وقعت عام 2002 في مليلية حين لاقى 23 شخصاً حتفهم وهم يحاول عبور الحدود من المغرب. ونذكر في هذا الإطار أيضاً، الدعوى التي رفعتها حكومة جنوب أفريقيا ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية والتي لم تحظَ حتى الآن بدعم سوى عدد قليل من دول عالم الجنوب. لأن العقاب هو اعتراف بأن كل جرائم القتل تلك قد ارتُكبت بالفعل، ولم يكن ينبغي أن تحصل أبدًا، وهو أمر أساسي للضحايا وأحبائهم، ولكن أيضًا حتى يتمكن سائر الناس من الاستمرار في إعطاء معنى للحياة المجتمعية.

يوضح كارلوس مارتن بيريستين، وهو عالم نفس خبير في رعاية ضحايا النزاعات وفي لجان الحقيقة، فإن الإبادة الجماعية والمجازر والعنف الجنسي كسلاح من أسلحة الحرب، ليست ظواهر متأصلة في الحالة الإنسانية، بل هي نتيجة لأنظمة عمدت في الماضي على تعزيز الفصل والانقسام بين جماعة وأخرى، ما حوّل الآخرين إلى أشخاص دون البشر. هي أنظمة لا يمكن إلّا طاعتها والخضوع لسلطتها... نحن بحاجة إلى أن نتذكر ذلك باستمرار لتجنب الوقوع في العدمية، ولكن أيضًا للخروج من حالة الذهول الذي غمرنا خلال هذه الأشهر الثلاثة الماضية حين نستعيد يومًا بعد يوم الدناءة والانحراف والألم الذي نحن قادرون على إلحاقه.

"أين هي إنسانيتنا عندما نتحول إلى مجرد متفرجين غاضبين أمام هذه الهمجية؟"

اليوم بعدما بات وجودنا مهدداً بسبب أزمة المناخ وعودة الصراعات الكبرى، يجب أن تهدف جميع المساعي الفكرية والاقتصادية والسياسية والفنية إلى كبح دوامة التدمير الذاتي هذه. ولهذا لا بد من العودة إلى نموذج الإنسانية، الذي بدونه، كما حذرَنا معتز عزايزة في بداية هذا المقال، لا يمكن أن ننعم بالحرية. إنه الاستنتاج نفسه الذي توصلت إليه الفيلسوفة ماريا زامبرانو بعد الحروب الكبرى في القرن الماضي: "أنت حر حقاً فقط عندما لا تثقل كاهل أي شخص، وعندما لا تذل أحداً، بما في ذلك نفسك. يكفي إذلال إنسان أو تجاهله أو جعله يعاني - سواء أنت أم أخيك - حتى تعاني البشرية كلها. هذه هي الحالة الإنسانية، ففي كل إنسان تكمن الإنسانية جمعاء".

في حوار ضمن برنامج A vivir على إذاعة Cadena SER، قال الكاهن خافيير بايزا: "هناك لا إنسانية بعنوان عريض مثل الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل، ولا إنسانية بعنوان أصغر مثل تلك التي تحيط بنا وبإمكاننا التأثير فيها". لذا نجد أنّه من هنا، من بيئتنا، بإمكاننا المساهمة في إعادة بناء الإنسانية، عبر تجمع لتسوية أوضاع الأشخاص غير المسجلين، أو دفاعاً عن الحق في السكن، أو من أجل مقاطعة المنتجات الإسرائيلية أو التحقيق في الوفيات في المنازل. لأننا عندما نجتمع معًا، لا ننجح في إحداث تغيير فحسب، بل نحمي أنفسنا أيضاً أمام هذا الكم من الظلم عندما ندرك أن عددنا كبير وأننا بشر.

لكي يكون للحياة معنى يجب أن نتفهم بعضنا. لقد دمرت الإبادة الجماعية المتلفزة كامل النهج الفلسفي والقانوني والثقافي الذي أسسناه بعد الحرب العالمية الثانية. فإذا أذعنّا وأوقفنا محاولاتنا لإنهاء الهمجية، سنكون قد قبلنا بأن نعيش أسرى اللاإنسانية. وهذا أسوأ بكثير من الشعور بالعجز أو الألم أو الغضب. إنه الاستسلام النهائي.

تم نشر هذا المقال لأول مرة على موقع lamarea.com

Exit mobile version