عن النضال في سبيل المعلومة... حتّى الموت: تجربة الصحافيّتين غوري لانكيش ودافنيه كاروانا غاليتسيا

هما صحافيتان تعيشان في طرفين متقابلين من العالم، لكنهما تتشاركان أشياء كثيرة. ففي عام 2017، تم اغتيال كل من غوري لانكيش في لانغور، الهند، ودافنيه كاروانا غاليتسيا في مالطا، على خلفية تحقيقات صحافية عزمتا على إجرائها رغم أثمانها الباهظة، متحدّيات بذلك حملات التشهير التي طالتهما. ولكي لا تموت القصص، بادر تجمّع الصحافيين/ات "فوربيدن ستوريز" إلى متابعة التحقيقات التي كانت الصحافيتان تعملان على إنجازها.

هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)

في الخامس من أيلول/سبتمبر، وبعد أن أنهت غوري لانكيش البالغة من العمر 55 عاماً مقالها الافتتاحي الذي يحمل عنوان "في عصر المعلومات المضلّلة"، عادت إلى بيتها في لانغور، لكنها سقطت صريعة أمام العتبة بعد أن اخترقت رصاصات أربع جسدها فقتلتها على الفور. بعد شهر من تلك الجريمة، وتحديداً في السادس عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2017، ماتت الصحافية "الأكثر إزعاجاً" في مالطا، دافنيه كاروانا غاليتسيا، البالغة من العمر ثلاثة وخمسين عاماً بعد أن تم إحراقها حية في انفجار استهدف سيارتها على مرأى من ابنها.

كانت هاتان الصحافيتان المحنّكتان عنيدتين وملتزمتين، من النوع الذي يصرّ على الذهاب نحو النهاية في بحثهما عن الحقيقة. وكانتا توصّلتا أخيراً إلى تأسيس الوسائل الإعلامية الخاصة بهما من أجل توثيق الحقائق الخفية، كلّ ضمن المنطقة التي تعيش فيها. عام 2005 ، أسّست غوري لانكيش صحيفتها الأسبوعية "غوري لانكيش باتريكه"، وثّقت فيها خلال ما يزيد على عقد من الزمن صفقات الفساد وصعود القوميين والصراعات بين الأديان في مقاطعة كارناتاكا. وقبل موتها بقليل، كانت أدانت بشكل خاص الأعمال المشبوهة لليمين المتطرّف الهندي الذي يمثله بهاراتيا جاناتا (BPJ) من خلال تقصي ممارسات التضليل الإعلامي التي يقودها حزب اليمين القومي الهندوسي، كما أنها كتبت عن رئيس الوزراء السابق لحزب بهاراتيا جاناتا المدعو آتال بيناري فاجباي "إنه يؤمن بالتأثير الذي تحدثه الكذبة التي تبدو وكأنها حقيقة لكثرة تكرارها". كما أنها فكرت مع زملاء لها في تأسيس مشروع تشاركي يهدف إلى التحقق من الأخبار، وذلك بهدف التصدّي للإشاعات التي تنتشر بسرعة وتفسد المعلومة.

مظاهرة #NotInMyName. تأبين حياة #GauriLankesh. المصدر: جو أثيالي، فليكر.

في الفترة نفسها، كانت دافنيه كاروانا غاليتسيا تدير المدوّنة التي أطلقتها عام2008  بعنوان "بث مباشر" Running Commentary ، التي كان يتابعها ملايين من المالطيين/ات. كانت تلاحق فيها دون هوادة الفساد الذي ينخر الجزيرة التي تعيش فيها، وتعتبره وباء محلياً ترغب بالفعل بتفكيك آلياته وفضحها. ركّزت جهودها بشكل خاص على مسألة أوراق باناما التي تورّط فيها جوزيف موسكات، رئيس الوزراء الذي ظل على رأس الحكومة من عام 2013  وحتى 2020.

أجرت تحقيقاً استطلاعياً أيضاً حول الآليات التي جعلت من مالطا جنّةً ضرائبية حقيقية من خلال منحها للأغنياء الأجانب إقامات مجاملة. وقبل موتها بقليل، ركّزت غاليتسيا اهتمامها على محطة الغاز والكهرباء الجديدة اليكتروغاز Electrogas. فتلك الصفقة التي تعدّ الأكبر في الجزيرة كانت تبدو لها مشبوهة. أصرّت جاهدة على محاولة فهم آلياتها من خلال مراجعة الستمئة ألف رسالة الكترونية التي كانت تسرّبت من التحالف وحصلت هي عليها. لكن للأسف لم يُتح لها الوقت الكافي لقراءتها وتحليلها كلها. وصفت وقتها مجلة "بوليتيكو"  تلك الصحافية بأنها "وحدها بمثابة ويكيليكس كامل لكونها تشن الحرب على الفساد وانعدام الشفافية في مالطا".

"كانت تحقيقات أمّي هامة جداً بحيث لا يمكن أن تختفي معها. ولو أننا نسيناها، لكان ذلك بمثابة قتلها للمرة الثانية"

من Projet Daphne إلى Story Killer: رسالة قوية ضدّ أعداء المعلومات

"قصص ممنوعة" Forbidden stories هو تجمّع للصحافة الاستقصائية وتحالف يضم وسائل إعلام محلية وعالمية يعمل على إنهاء العمل الذي تركته الصحافيتان على شكل مخطط؛ كما أنه يوضح بالوقت ذاته الدوافع التي أدت لاغتيالهما. "من خلال حماية وإتمام عمل الصحافيين/ات الذين لا يعود بمقدورهم متابعة التحقيقات، نتمنى أن نرسل رسالة قوية إلى أعداء حرية المعلومات وهي: "لن تتوصلوا إلى إيقاف الرسالة حتى ولو استطعتم إيقاف حاملها"، كما هو مكتوب على موقع التجمّع.

أماProjet Daphne ، فهناك خمس وأربعون صحافياً/ة فيه، من ثماني عشر وسيلة إعلام دولية، من بينها جريدة لوموند وراديو فرانس ووكالة رويترز وتايم أوف مالطا. ساهمت تحقيقات هؤلاء الصحافيين/ات الاستقصائية في تسريع تحقيق قضائي كان يراوح مكانه. والسبب في هذا البطء كان تدخل السلطة السياسية في الإجراءات القضائية مستفيدة من أنواع الدعم التي تجدها داخل جهاز الشرطة وسلك العدالة. ولذلك، استعر غضب المجتمع المدني المالطي، فدفع رئيس الوزراء جوزيف موسكات إلى الاستقالة في الثالث عشر من كانون الثاني / يناير2020.

بيّن التحقيق المتناغم وجود علاقة بين ثلاثة أشخاص وقتلة هم الوسيط ميلفين تويما ورجل الأعمال المالطي القوي يورغن فينيش "الذي يُعرّف بكونه الشخص المركزي في منظومة مالية غير شفافة تصل إلى أعلى مستويات الحكومة المالطية" (1). بالفعل، نجد فينيش على رأس تحالف الكتروغاز وكذلك في شركة 17 black  وهي شركة مسجّلة في دبي دفعت مبالغ مالية ضمن حسابات سرية في باناما لكونراد ميزي، الذي كان وزير الطاقة في تلك الفترة، وكذلك لكيث سكيمبري، رئيس مكتب رئيس الوزراء جوزيف موسكات.

نصب تذكاري للصحفية دافني كاروانا غاليتسيا عند قاعدة النصب التذكاري الكبير في مدينة فاليتا بمالطا. المصدر: Wikimedia Commons

في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2019، تم اعتراض طريق يورغن فينيش الذي كان يحاول الهروب على متن يخته، وذلك في مكان غير بعيد عن مرفأ لا فاليتا؛ وتم اتهامه بأنه هو الذي أعطى الأوامر بمقتل المدوّنة المالطية. ذكر مالفين تويما، وهو سائق يورغن فينيش ومساعده الأيمن في جميع المهام، أن فينيش قال له عند خروجه من أحد النوادي "أريد أن أقتل دافني كاروانا غاليتسيا". طالب الادعاء المالطي بالسجن المؤبد ليورغن فينيش.

"كانت تحقيقات أمّي هامة جداً بحيث لا يمكن أن تختفي معها. ولو أننا نسيناها لكان ذلك بمثابة قتلها للمرة الثانية"، كما قال ابن الصحافية المغدورة ماتيو كاروانا غاليتسيا لـ"قصص ممنوعة". وهو أيضاً صحافي استقصائي أسّس مع إخوته مؤسسة "دافني كاروانا غاليتسيا" بهدف العثور على من دبّر قتلها.

العنف السيبراني ضد النساء ليس "مجموعةً من الأفعال المعزولة، إنما وباء ممنهجاً..."

خلال السنوات الخمس التي مرت على موت الصحافية الهندية غوري لانكيش، استطاعت مؤسسة "قصص ممنوعة" أن تنجز تحقيقات هامة للغاية، كما أنها أطلقت خلال تلك الفترة ما يزيد على مئة صحافي/ة ينتمون إلى ثلاثين وسيلة إعلامية ليقوموا، على غرار غوري لانكيش، بتحقيقات حول ظاهرة الأخبار المضلّلة أو "معامل الكذب" التي كانت تتوقع لانكيش أن تنتشر على مستوى العالم. وبالفعل، استطاعت تحقيقاتهم التي دامت ستة أشهر في الهند وأمريكا اللاتينية وأوروبا وإسرائيل أن تسلم نتائجها في شباط/ فبراير المنصرم. قادتنا خلية التحقيق في راديو فرانس وهي وسيلة إعلامية شريكة لـ "ستوري كيللر" إلى إسرائيل حيث اكتشفنا تيم يورغ  Team Jorge، وهي شركة شبحية "تقدم خدماتها ضمن حملات الأخبار المضللة الضخمة عبر العالم". وما بين سيناريو نزع الشرعية وبين تزيين الانتخابات، تستطيع شركة "تيم يورغ" أن تولدّ آلاف الكائنات الهجينة والحسابات المزيفة وأن تختلق جيوشاً من الرسائل التي تدفع الناس باتجاه إسقاط حكومة أو القضاء على شخصية.

انتهى الأمر بأن تغزو صناعة الأخبار المضللة الجديدة التي تدعمها جوقة من المرتزقة والشركات الخاصة البيئة الإعلامية من أجل التأثير في الرأي العام، وفي جميع أنحاء الأرض، وصارت بذلك تهدّد حرية التعبير والديموقراطية. إن هذه التكنولوجيا فائقة القوة، والتي تلجأ إلى براعة الذكاء الاصطناعي اليوم، أصبحت قادرة على التلاعب بعنف لا مثيل له، وعلى الأخص  ضد النساء اللواتي نذكّر بأنهنّ معرّضات للمضايقات على وسائل التواصل الاجتماعي أكثر من الرجال بسبع وعشرين مرة. والأمر يصبح أصعب حين يكنّ صحافيات.

عام 2017، وهي السنة التي قُتلت فيها غوري ودافني، قدّم "لوبي النساء الأوروبيات" بحثاً يثبت بأن العنف السيبراني ضد النساء ليس "مجموعةً من الأفعال المعزولة، إنما وباء ممنهجاً..." وفي الفيلم الوثائقي "العاهرة القذرة" للمخرجتين البلجيكيتين فلورانس هينو وميريم لوروا، وهما أيضاً من ضحايا المضايقات السيبرانية، تصرخ لورين باستيد عالياً قائلة: "الكلام في الفضاء العام هو جحيم بالنسبة إلى المرأة". ففي هذا الجحيم، يمكن لنقل المعلومة أن يتسبّب بفقدان الحياة.

(1)  يمكن قراءة التحقيقات التي أنجزتهما مؤسّستا "مشروع دافني" و"ستوري كيلر" على موقع "القصص الممنوعة". من الممكن مشاهدة الفيلم الوثائقي "دافني، تلك التي كانت تعرف أكثر من اللازم"، والذي شاركت بإخراجه جول جيرودا التي نسّقت بين أعمال خمسة وأربعين صحافياً/ة ضمن "مشروع دافني".
Exit mobile version