تبدو المرأة هادئة أو مستعجلة أو قلقة، تلبس فستاناً أو حجاباً أو سروال جينز، كندرة أو حذاءً رياضياً... تبدو منغمسة جداً في نفسها أو تتفرج على العالم من حولها، تختنق بهمومها أو تلتقط أنفاسها أو تبتسم ليوم مشمس آخر... كل هذه التفاصيل غير مهمة وتبدو هامشية في المشهد الأعمق. فيما تسير دون أن تزعج أحداً أو تلتفت إلى أي شيء، سوف تسمع طفلاً بعمر ابنها أو أخيها الصغير "يلطّشها" بطلاقة... "شو هالجمال" أو "شو هالـ..." أو يتمادى أكثر ليقول "بدي أعمل فيكي هيك وهيك".
الشعور مختلف كلياً حين يكون التحرش اللفظي من صوتٍ صغير يحاول أن يرتدي بدلة الرجولة وبذاءة الذكورية. هل ترد عليه كما قد ترد على رجل ناضج يفعل الأمر ذاته؟ هل تتجاهل وتمضي في طريقها؟ هل تقول لنفسها "إنه مجرد طفل"؟ هل تشفق عليه أم على نفسها؟
ذهول وقهر وأسئلة كثيرة تراودنا في لحظة الانتهاك هذه لمساحتنا الخاصة فيما نراقب الرصاصة التي تُطلق باتجاهنا كلما خرجنا إلى الفضاء العام، باعتبار أننا في العام 2023، ولا يمكن استيعاب استمرار هذه الممارسات فيما إيلون ماسك يخطط لتأسيس إمارته في كوكب المريخ.
كيف نتقبل الأمر؟ وإلى من نشكو؟ ومن المذنب وكيف نحاكمه؟
الحقيقة أن المشهد المتكرر ينبئ بأنّ أجيالاً جديدة من المتحرشين والأوصياء على حياة النساء، في طور النمو، فكيف نتقبل الأمر؟ وإلى من نشكو؟ ومن المذنب وكيف نحاكمه؟
لا تمكن محاكمة الطفولة كما نحاكم متحرشاً ناضجاً يعرف تماماً ماذا يفعل، لكن يحق لنا أن نحاكم المؤسسات التي تبني للمزيد من عهود الظلم وأشكال إقصاء النساء، بدءاً من العائلة، ومروراً بالمدرسة، ووصولاً إلى انحياز بعض الأفكار الدينية ضد النساء والتبرير الاجتماعي الجاهز لانتهاك حرياتهنّ، ونتحدث هنا عن أبسط أنواع الحرية، أن تمشي امرأة في الشارع دون أن تتعرّض للتحرش أو الاعتداء مثلاً.
وفيما الأطفال في أماكن كثيرة هم ضحايا التحرش اللفظي والجنسي، فإننا نجد أنفسنا حائرات... هم ضحايا الآخرين أو جلادون آخرون لنا، علينا أن نحذر منهم ونفكّر بخطورتهم، لا سيما أنهم سيكبرون بالأفكار ذاتها والسلوكيات ذاتها، في ظل مجتمعات وقوانين تقليدية وأحياناً متخلفة؟
عام 2013، كشفت حملة "امسك متحرّش" أن 39 في المئة من المتحرّشين في مصر هم من الأطفال. كما أن أغلب بلاغات التحرش وردت من أطفال، تخطت نسبة 52 في المئة، والأمر يعود بطبيعة الحال إلى الأنظمة التعليمية والأفكار الاجتماعية السائدة، ليس في مصر وحدها، بل في الكثير من الدول العربية والمجتمعات المحافظة، التي ما زالت تتناحر مع حقوق النساء، خصوصاً لحظة خروجهن إلى الفضاءات العامة.
يمكن تبيّن ذلك من سلوك بعض الأهالي الذين يتباهون بذكورية أولادهم، معتبرين أن التحرش دليل على النضج الذكوري والفحولة الجنسية. من هنا نجد بعض الآباء والأمهات يستعرضون أعضاء الصبيان التناسلية أمام الجيران وأفراد العائلة، كإنجاز مهم، ويعمدون إلى تدريب الصغار على الكلمات النابية والسلوك الذكوري، من أجل إعداد أجيال تشبههم وتمنحهم نشوة "التربية الصالحة".