هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
لعلّك عزيزتي/ي القارئ/ة لم تتعمّق/ي في فهم هذه المصطلحات، أو ربّما لم تتجرأ/ي حتّى على التفكير بها: المتعة الجنسيّة، الصحة الإنجابيّة، التمييز، وغيرها. فاستخدام كلمة "جنس" قد يوقعك، إذا كنتِ تقيمين في عالمنا العربي، في مأزق، أو يعرّضك للنبذ أو التنمّر، على الرغم من أنّ الكلمة نفسها مجرّد وصف لممارسة طبيعيّة، يمكن أن تقود إلى الإنجاب وتكتمل بها دائرة الحياة. المهمّ أنّ هذه المصطلحات وغيرها تصبّ في الواقع تحت مظلّة واحدة نسمّيها: الصحّة الجنسيّة والإنجابية.
لو رجعنا بالزمن قليلاً إلى الوراء لنستكشفَ السبل المعتمدة لفهم نتاج ممارسة الجنس بين طرفين، لوجدنا عوائق تربوية واجتماعية جمّة أمام هذا الفهم. فمثلاً، لماذا عند أول محاولة الطفل/ة استكشاف ما حوله، وعند بداية طريق الأسئلة الطفوليّة التي لا تنتهي، تقف غالبيّة الناس حائرة أمام سؤال الأطفال الأزلي: أمي، أبي، كيف أتيت ومن أين؟
المعنى العام لمصطلح الصحة الإنجابية
تعرّف منظّمة الصحّة العالمية الصحّة الإنجابيّة "على أنها الوصول إلى حالة من اكتمال السلامة البدنية والنفسية والعقلية والاجتماعية في الأمور ذات العلاقة بوظائف الجهاز التناسلي، وليس فقط الخلو من الأمراض، وتعتبر جزء أساسي من الصحة العامة وتعكس مستوى الصحة للمرأة والرجل في سن الإنجاب".
بكلمات أدق، تعني التمتّع بحياة جنسية مأمونة، وتأمين المعلومات اللازمة لحياة جنسيّة سليمة وآمنة، وتجنّب الحمل غير المخطّط له.
التزويج المبكر خصماً للصحة الإنجابية
الحق في الحياة والحرية، والحق في الرعاية الصحية، والحق في قرار إنجاب الأطفال واختيار الزواج أو عدمه، والحق في الحصول على خدمات الصحة الجنسية والإنجابية وغيرها الكثير من الحقوق تنص عليها قوانين عدّة وتقرها منظّمات دوليّة خاصّة بالحقوق الصحيّة وحقوق النساء، غير أنّها لا تزال بعيدة من أرض الواقع إذ تتأثّر بضعف الوعي المجتمعي حيالها وغياب الاقتناع بأهمّيتها وظلم المجتمع المتفشّي للنساء، وصولاً إلى تزويج بعضهنّ في سنّ مبكرة قبل أن يكتشفن حتّى أنفسهنّ وأجسادهنّ.
في هذا الإطار، تقول عائشة أبو فارة، وهي قابلة قانونيّة وممرّضة ومثقّفة صحية في جمعية "تنظيم وحماية الأسرة الفلسطينية"، "إنّ التزويج المبكر يشكّل خطراً على الصحة الإنجابية؛ فهو مدمّر للطفولة وللروابط الأسرية والمجتمعيّة. انتشر بشكل كبير خصوصاً في القرى والبلدات الفلسطينية". وتتابع، "أنا أفضّل زواج المرأة بعد عمر العشرين، حيث تكون قدراتها الجسدية والفكرية في أوجها".
وتضيف أبو فارة، "شهدنا خطوة إيجابيّة حديثاً، وهي منع القانون الفلسطيني الزواج تحت سن 18، وفي ذلك خطوة بنّاءة على طريق رفع سن الزواج في المجتمع الفلسطيني بما يساعد على تحسين مستوى الصحة الإنجابية لدى نساء فلسطين ويؤسّس لتجربة نسوية إنجابية ناجحة يحتذى بها دولياً".
الرجل أيضاً معني
لا تقتصر الصحة الإنجابية على النساء، مع العلم أنّهنّ بأمسّ الحاجة إلى خدماتها. غير أنّها مفهوم شامل ومسؤولية مشتركة يتحمّل الرجل قدراً كبيراً منها نظراً للدور الذي يؤدّيه ويجعل منه شريكاً ومسبّباً مباشراً للحمل. في كنف العائلة مثلاً، هناك حاجة لأن يفهم الرجال زوجاتهنّ ودوراتهنّ والمراحل التي يمررن بها، والتغييرات التي يشعرن بها، وأن يستوعبوا العوامل الهرمونيّة التي تشهدها النساء خلال فترة الحمل مثلاً، ليتمكّنوا من دعمها ومرافقتها.
في هذا السياق، تشرح الاختصاصيّة التربوية أزهار غزاوي لميدفيمينسويّة، "إنّ الوعي هو كلمة السرّ، ومساندة الرجل للأسرة وللمرأة يبدّد الكثير من العوائق التي هي في الأصل خليط نفسي واجتماعي واقتصادي وديني أيضاً. هنا يكون امتلاك الوعي الجيّد لدى الرجل من أهم الامور التي ستسهم في توفير صحّة إنجابية جسدية ونفسية سليمة، وفي تحقيق الهدف الأساسي ألا وهو بيئة أسريّة معافاة..."
وتردف غزاوي، "يحتاج تكوين هذا الوعي لأن يكون سن الزواج لدى طرفي العلاقة مناسب لتحمّل المسؤوليات، لذلك يجب الابتعاد عن التزويج المبكر الذي يهدم الركائز المجتمعية كافة، حيث أنّه الأساس في التفكك الأسري والتأخر المجتمعي في تكوين وعي بالصحة الإنجابية والجنسية".
ومن بين الأسباب التي تجعل وعي الرجال مهمّاً أيضاً في المجتمع الفلسطيني، فهو مساعدة هذا الوعي في تحقيق استيعاب الرجال لفكرة أنّ للنساء بحاجة إلى أخذ بعض الوقت -كل امرأة وفقاً لحاجاتها وتجاربها- لاستعادة عافيتها بعد مشقّة الحمل والولادة مثلاً، وكل التغييرات الفيزيولوجية والنفسية والمجتمعية الناتجة عنهما، وإدراك وجود احتمال حالات اكتئاب ما بعد الولادة التي تمر بها الكثير من النساء وفهم هذه المسألة ودعم الشريكة التي تعاني منها.
علاوةً على ذلك، يساعد تثقيف الرجال لأنفسهم على تعزيز قدراتهم على مواجهة الضغوط الاجتماعية وسط مجتمع ذكوري تحكمه العادات والتقاليد المبنيّة بأكثريّتها على اضطهاد النساء ومعاملتهنّ كـ "آلة تفريخ" تلبّي احتياجات من حولها إن لجهة الحمل للإتيان بجنس المولود المفضّل، أو طريقة معيشته وتربيته، أو خيار المرأة في عدم الحمل مجدّداً، من دون الأخذ في الاعتبار قدرات المرأة نفسها وحاجاتها الجسدية والنفسية.
يساعد تثقيف الرجال لأنفسهم على تعزيز قدراتهم على مواجهة الضغوط الاجتماعية وسط مجتمع ذكوري تحكمه العادات والتقاليد المبنيّة بأكثريّتها على اضطهاد النساء ومعاملتهنّ كـ "آلة تفريخ"
الصحة الإنجابية والنساء العاملات
على الرغم من التطور التكنولوجي والعلمي المستمرّ، واتساع مشاركة النساء في سوق العمل على المستوى العالمي، ما زالت المجتمعات الأبويّة تراوح مكانها في ما يخص سلّة حقوقيّة وافرة لم تقرّ بها بعد، وأحياناً تتقدّم هذه المجتمعات لكن بشكل بطيء في طريق تحصيل النساء لحقوقهنّ بشكل متاسوٍ وعادل. فالنساء في مجتمعاتنا العربية ومن بينها الفلسطينية ما برحت تحتاج لنضالات وجهود كثيرة لكي تصل لما يستحققنه، وتخطّي نسب المشاركة الضئيلة في ميادين شتّى، مثل ميدان العمل، حيث بلغت مشاركة النساء في فلسطين وفقاً للجهاز المركزي للإحصاء لعام 2020، 16% من مجمل النساء في سن العمل.
يسهم عمل النساء وإلى حدّ كبير في التأثير على صحتهنّ الإنجابيّة الشاملة. تعي معظم النساء العاملات أهميّة المُباعدة بين الولادات ويملن إلى تنظيم أسرهنّ وتلقّي الرعاية الطبية اللازمة والاستشارات النفسية، بخلاف نساء أخريات كثيرات غير مستقلّات اقتصاديّاً وماديّاً. فمن شأن العمل عموماً أن يُكسب النساء طاقات جديدة كالشعور بالقدرة على الاعتماد على الذات والمساهمة في خدمة أنفسهنّ وطموحهنّ والمجتمع من حولهنّ وتعزيز ثقتهنّ بنفسهنّ، ممّا ينعكس إيجاباً على صحتهنّ العقليّة، فالإنجابيّة، وقدرتهنّ على الخروج من عباءة المجتمع الذكوري الذي يسهم بدوره في تحسين الصحّة على كلّ المستويات.
متطلّبات توفير الصحة الإنجابية
تدفعنا الصحّة الإنجابيّة للتفكير في الوسائل الكفيلة بتحقيقها بشكل يجعلها متاحة للشرائح الاجتماعية كافة. تتّفق معظم الخبيرات على أنّ نشر الثقافة الجنسية في المجتمع يبقى الأهم والأولويّة، بدءاً من الإجابة الصريحة التي على الراشدين/ات إعطاؤها للطفل/ة حين يطرح أسئلة متعلّقة بجسمه أو الطريقة التي وصل بها إلى هذا العالم (!) مروراً بإدخال مناهج تعليمية تنشر الثقافة الجنسية في المدارس والجامعات والمجتمعات المحليّة، كعلم وسلوك إنساني ينمّي الفكر والمجتمع نوعيّاً، لا عدديّاً فقط.