رحلات أدبية عبر الميثولوجيا النسوية الجديدة... اللوحة الأولى: كاساندرا

غالباً ما كانت النساء المذكورات في الأعمال الكلاسيكية الكبرى، اللاتينية منها والإغريقية، شخصيات ثانوية تتحرك بصمت كلوحة خلفية لقصص تبرز فيها الأعمال البطولية لمقاتلين شجعان وأرباب متسلطين تتحكم بهم نزواتهم. تبدو النساء في تلك اللوحة هامشيات وخنوعات. مع ذلك، كان يمكن لجمالهنّ أن يتسبّب باندلاع حروب دموية. وكنّ أيضاً، بشكل شبه دائم، ضحايا الخطف والعنف الذكوري. لكن بعض المؤلفات المعاصرات أعادْن كتابة هذه القصص وروايتها من وجهة نظر نسائها، أي ديدون وسيرسيه وبينيلوب وكاليبسو وميديا وكاساندرا، ورفعن هؤلاء أخيراً إلى مصاف الشخصيات الرئيسية في الأحداث. وهكذا، صارت الروايات الحديثة التي تتناول قصصهن مليئة بالشجاعة والجرأة، تقلب رأساً على عقب الأفق الأبوية المتسلطة لدى تقديمها "العصر القديم" بشكل جديد.

هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)

البصّارة الطروادية

أول مَن اختبرت تجربة إعادة تخيّل القصص من منظور نسوي أدبي كانت الكاتبة الألمانية كريستا وولف التي نشرت عام 1983 "كاساندرا". هذه الرواية الشجاعة التي تُرجمت إلى لغات عدّة والتي تأخذ شكل مونولوغ، تعطي الكلام للبصّارة الطروادية الشهيرة، ابنة المّلِكَين هيكوب وبريام، وكاهنة أبولو التي رفضت الزواج به، فنالت موهبة أن تستطيع التنبؤ بالمستقبل، لكن حُكم عليها في الوقت ذاته ألا يصدّقها أحد.

بعد أن صارت كاساندرا جارية لأغاممنون بعد سقوط مدينتها، وجدت نفسها في مدينة ميسينا تنتظر بصمت أمام باب السباع الضخم مع ابنها ومربيتها العجوز، في حين أحاط بها حشد من المتطفلين. عندما يلقى الملك الآخي الموت تحت ضربات زوجته كليتمنسترا التي رغبت بالانتقام منه لأنه ضحّى بابنتها، تسرد الكاهنة الجميلة والتعيسة رواية طويلة تتخللها من وقت لآخر ملامح الندم والجزع والعذاب.

تعود كاساندرا إلى الوراء بحكم التداعي لتروي سنوات الحصار الستّ وقصة حبها الرومنسية والمستحيلة مع إينياس ولقاءاتها العشقية مع الكاهن بانتوو، وحتى شبابها الخالي من الهموم في قصر أبيها. روايتها هذه تكشف عن شخصية غنية وشديدة الإنسانية تعيد النظر بوضع النساء في مجتمع أبوي يكره النساء.

هكذا، أصبحت الطروادية الشابة استعارةً عما يحصل للكثير من النساء في العالم: فهي واعية وتستشف المستقبل، لكن لا يستمع إليها أحد. وغالباً ما تقع ضحية الهزء والسخرية، لتصبح في نهاية الأمر مهمّشة. مع ذلك، فهي تبقى مخلصة لنفسها حين تقف بكل شجاعة في وجه دسائس القصر الملكي، ما يسبّب لها السجن.

بعد تحريرها، تصبح كاساندرا متمردة وتنضم إلى نساء "مجتمع سكاماندرا" اللواتي يعشن في المغاور المحفورة على طول النهر، واللواتي يحتفين سرّاً بعبادة الإلهة القديمة والغامضة "سيبيل" التي يعتبرنها بمثابة الأم العظيمة. الرجل الوحيد الذي يُقبل في "مكان الحريم الثوري" هذا هو الحكيم آنكيز، جد اينياس؛ حيث تقوم المتعبدات بالنقاش معه والوقوف في وجهه، ويعبرّن عن حلمهنّ بمجتمع مسالم تتحقق فيه المساواة وتتمتع فيه النساء والرجال على حد سواء بالحرية أخيراً.  

 

من كتاب كريستا وولف، كاساندرا، ستوك، باريس، 2003.
Exit mobile version