أوكرانيا والحرب التي تصل إلى قلب أوروبا

تقع النسوية في الموقع المعاكس تماماً للمصفوفة الذكورية البوتينية التي تحاربها النسوية، أي أنها ضد العنف الذي يُمارس في جميع الحروب التي نجمت عن النظام الأبوي المهيمن والذي ينتصب ممثلوه الهامون في كل مكان من العالم تقريباً: ترامب، بولسونارو، اردوغان، سالفيني، أوربان، وغيرهم...

هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)

أبنية نُبشت أحشاؤها، مدارس ومستشفيات قُصفها، مواقع نووية دُمّرت، موجات من الأشخاص المرعوبين الذين يهربون نحو الغرب بأعداد متزايدة، يقتحمون المحطّات أو يتجمهرون لساعات طويلة على الطرقات وفي المراكز الحدودية.... بحسب المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليب غراندي، هناك مليون ونصف من الأوكرانيين والأوكرانيات الذين تركوا البلاد نحو بولونيا التي استقبلت العدد الأكبر منهم (ما يقارب 500.000) وكذلك نحو هنغاريا ومولدافيا ورومانيا وسلوفاكيا، وحتى روسيا.

كييف، اوكرانيا، الخامس والعشرين من فبراير 2022: مبنى سكني متضرر استهدفته طائرة روسية: المصدر dreamstime.com

"لن يعود أي شيء إلى ما كان عليه من قبل"، تلك هي الجملة التي تتردد في معظم الأحيان على ألسنة الأوكرانيين والأوكرانيات. وهم ليسوا على خطأ. فإن كان من الصعب معرفة نتيجة هذا الصراع، فإن التحليلات تنبئ بحرب طويلة الأمد، وبدون شك بواحدة من أهم الأزمات الإنسانية في القرن الحادي والعشرين.

بالتأكيد لن يعود أي شيء إلى ما كان عليه من قبل، كما تؤكد ناشطات نسويات روسيات في النداء الذي أطلقنه من أجل وضع حدّ فوري للعدوان على أوكرانيا: "الحرب تعني العنف والفقر والنزوح القسري، تعني انكسار حياة الناس وانعدام الأمن وغياب المستقبل. وهو أمر يتعارض مع القيم والأهداف الأساسية للحركة النسوية. الحرب تؤدي إلى تفاقم عدم المساواة بين الجنسين وتعيد إلى الوراء سنوات طويلة من المكتسبات في مجال حقوق الإنسان. الحرب تحمل معها ليس فقط العنف والقنابل والرصاص، وإنما أيضاً العنف الجنسي: وكما بيّن لنا التاريخ، يتضاعف خطر الاغتصاب خلال الحرب بالنسبة لجميع النساء".

ومع ذلك، دخلت الحرب في أسبوعها الثاني والثالث، ولا يبدو أن هناك أي شيء قادر على إيقاف الاستعراضات العسكرية التي يقوم بها فلاديمير بوتين، والتي تخدم تطلعاته التوسعية التي أعلن عنها بشكل واضح في الخطاب الذي ألقاه في الرابع والعشرين من شباط/فبراير الماضي، بعد وقت قصير من إعلان غزو  أوكرانيا: "الاتحاد السوفييتي ضعف في نهاية سنوات الثمانينيات ثم انهار تماماً. إن تسلسل الأحداث التي جرت بعد ذلك كلها تشكّل بالنسبة لنا درساً جيداً اليوم. فقد أظهرت بشكل مُقنع أن شلل السلطة والإرادة هو الخطوة الأولى نحو التدهور الكامل والاختفاء التام...".

أوكرانيا-روسيا، أو التهديد "بالحرب الشاملة" ماريان كامينسكي (النمسا) Caglecartoons.com

في هذا التغني بالقوة واستعراض السلطة يكشف بوتين أيضاً عن رؤيته عن الغرب – وبشكل غير مباشر عن الكائنات البشرية كلها - وهي رؤية أقل ما يقال عنها إنها تجمّد الدماء في العروق. فهو عندما يشير إلى بلدان الولايات المتحدة وأوروبا، يتهمها بالرغبة في "هدم قيمنا التقليدية وفرض قيمها الزائفة علينا..."،  وهو ما، برأيه، "يؤدي بشكل مباشر إلى التدهور والانحطاط، لأنها تتعارض مع الطبيعة البشرية نفسها".

لكن عن أي قيم وعن أي طبيعة بشرية يتحدث؟

"إن أي شخص لديه فكر نقدي يدرك جيداً أن هذه "القيم التقليدية" تشمل عدم المساواة بين الجنسين واستغلال النساء والقمع الذي تمارسه الدولة على الذين واللواتي تتعارض هوياتهم وأسلوب حياتهم وأفعالهم مع الايديولوجية الأبوية المهيمنة"، حسب الرد الذي صدر عن حركة المقاومة النسوية الروسية ضد الحرب.

النسوية والموقف السلمي

تقع النسوية في الموقع المعاكس تماماً للمصفوفة الذكورية البوتينية التي تحاربها النسوية، أي العنف الذي يُمارس في جميع الحروب التي نجمت عن النظام الأبوي المهيمن الذي ينتصب ممثلوه الهامون في كل مكان من العالم تقريباً: ترامب، بولسونارو، اردوغان، سالفيني، أوربان... هذا على سبيل المثال لا الحصر.

"العنف، سواء كان يرتبط بالحروب بين الدول أو الحروب الأهلية الناجمة عن التعصب الديني أو المشاكل الاجتماعية، أو يرتبط باضطهاد الأقليات، هذا العنف قد تمّت ممارسته من قبل الجنس الذكوري وبمساعدة أو تواطؤ من النساء أحياناً حسب ما جاء في نص ليا ميلاندري، وهي مفكّرة وناشطة نسوية إيطالية: "كيف ما يزال من الممكن اليوم وبعد كل ذلك الحديث عن الهيمنة الأبوية وعن الذكورية المتبجحة أن نكون عاجزات اليوم عن إسقاط قناع الحيادية الذي يمنعنا من الاعتراف بأن المسؤولين عن كل هذه الفظاعات ينتمون إلى جنس واحد؟ ما الذي يمنع الرجال المقتنعين بصدق بضرورة العمل من أجل السلام في العالم أن يطرحوا تساؤلات عن مصفوفة العنف "الذكورية هذه"؟

ولأن الحركة النسوية سلمية في عمقها، فإنها يجب أن تدين كل الحروب وكل الامبرياليات التي تنشأ عن تلك المصفوفة الذكورية. بالنتيجة، ما نلوم بوتين عليه -غزوه لأوكرانيا- يجب ألا يجعلنا ننسى الحملة الصليبية "اليانكي" في العراق والتي تم إطلاقها بناء على ادعاء وجود دلائل عن السلاح الكيماوي، أو الكارثة الليبية التي تم ترتيبها من قبل فرنسا... وكل الأفعال العدوانية التي تحمل المياه إلى الطاحونة الدعائية للكرملين وتبررها.

كيف لا نتذكر رخاوة ردود أفعال حكوماتنا ورأينا العام عندما كانت روسيا تقصف دون رحمة المستشفيات والمدارس ومعسكرات اللاجئين والقوافل الإنسانية في الأراضي السورية؟

الكيل بمكيالين 

إلى ذلك، كيف يمكن ألا نلاحظ المعايير المزدوجة والكيل بمكيالين في استياء أوروبا من القصف الحالي الروسي في أوكرانيا، وموقفها من القصف الذي كان يتم البارحة في سوريا. نعم، كيف لا نتذكر رخاوة ردود أفعال حكوماتنا ورأينا العام عندما كانت روسيا تقصف دون رحمة المستشفيات والمدارس ومعسكرات اللاجئين والقوافل الإنسانية في  الأراضي السورية، وتخبئ الباقة الأخيرة من كل هذا الاجتياح للسكان الحلبيين الذين تم استهدافهم في أعماق الملاجئ بالقنابل الانشطارية التي تم استعمالها هي نفسها في الحرب الجديدة. وحسب ما ذكره شاس وينتر في وسيلة الإعلام الألمانية dw.com، تسبّب القصف الروسي على سوريا بما يزيد عن 18.000  قتيل/ة.

طرق الهجرة الرئيسية نحو الاتحاد الأوروبي

عدد المهاجرين بطرائق غير شرعية من كانون الثاني/يناير حتى تشرين الأول/أكتوبر 2021

على الحدود الشرقية لبولونيا 6571 مهاجر/ة
في غرب البلقان 48508 مهاجر/ة
في غرب البحر الأبيض المتوسط 16337 مهاجر/ة
في شرق البحر الأبيض المتوسط15769 مهاجر/ة
في وسط منطقة البحر الأبيض المتوسط 54694 مهاجر/ة
في غرب افريقيا16710 مهاجر/ة

المصدر : FRONTEX

 27/10/2021 LP/INFOGRAPHIE 

هل هناك حاجة لأن نذكّر أيضاً بالمصير المأساوي لعدد كبير من اللاجئين واللاجئات القادمين من سوريا ومن العراق ومن أفغانستان، أو من جنوب الصحراء الأفريقية، والذي أبعدتهم أوروبا وتم اعتقالهم في معسكرات تم تشييدها خارج حدودها، هذا إن لم يلق هؤلاء الموت بكل بساطة في المقبرة الكبيرة البحرية التي صارها البحر الأبيض المتوسط؟

إن استقبال الأوكرانيين والأوكرانيات من قبل الحكومات البولونية والهنغارية يستحق المديح بلا شك، لكنه أيضاً انتقائي للغاية طالما أن حدود هذه البلاد مغلقة في وجه اللاجئين واللاجئات الآخرين الذين "لا يشبهونهم" بألوانهم ودياناتهم وأصولهم. فلكي يتم التحكم بشكل أفضل بهذا التدفق للمهاجرين والمهاجرات، تم بناء جدران في هنغاريا، وهي في طريقها للبناء في بولونيا.

في فرنسا، مجانية وسائل النقل التي تمّ إقرارها بالنسبة للأوكرانيين والأوكرانيات الذين حلّوا من فترة قريبة في فرنسا تتأتى أيضاً من سياسة الكيل بمكيالين لأن تلك المجّانية لا تُطبق على بقية اللاجئين واللاجئات. شعرت نقابات مراقبي التذاكر في وسائل النقل بعدم الارتياح وذكروا  خشيتهم من أن يضطروا للمراقبة  حسب سيماء الوجوه، وأن يقوموا بالتمييز العنصري الذي يتعاكس تماماً مع التقاليد العالمية لحقوق الإنسان.

تناصر الحركة النسوية السلام، لكن مناصرة السلام هذه تندرج في زمن طويل من التغيّرات العميقة والجذرية التي تتحكّم بالعلاقات بين الجنسين، وتمرّ بالضرورة عبر النقل والتربية (استقلالية وتحرر النساء، الحقوق الجنسية والإنجابية، المساواة، العدالة الاجتماعية والاقتصادية، تفكيك المنظومة الأبوية المهيمنة، إلخ). ولذلك، لا يمكن الحركة النسوية أن تتأقلم مع الاختصارات التبسيطية والتعاويذ غير المجدية. وبالتالي، فإنني أتفهم موقفين، وأتضامن على حد سواء مع صاحبيهما وهما بيفافوروف وليلا. فقد قرّر بيفافوروف أن يهرب من العسكرية لكي يبقى بالقرب من عائلته في حين تمّ تجنيد جميع الرجال الأوكرانيين بين عمري الثامنة عشرة والستين تحت طائلة السجن. أما ليلا، فقد تركت معمل النسيج حيث كانت تعمل في بولونيا لكي تعود إلى أوكرانيا وتحمل السلاح "من أجل الدفاع عن وطنها".

Exit mobile version