عندما تصل شاحنات الموت (2/2)

تُعرّض وجوههنّ المكشوفة لمبيدات الحشرات. يتقاضين أجوراً زهيدة. تُدفع لهنّ نصف الرواتب المخصصة للرجال. لا يُحتسب عملهنّ ضمن الإحصائيات الرسمية. إنهن نساء بالآلاف يسلكن كل يوم طرقات السفر نحو الحقول وقد تكدّسْن فوق بعضهنّ، في انتظار وصول آمن غير مضمون.

La voiture ISUZU croule sous le poids des femmes. Photo Olfa Belhassine

هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)

كانت الليلة قصيرة، وقد اتسمت بفيض من الكلمات، وبقصة العاملة الزراعية "نبيهة" وصمودها وذكرياتها وعذاباتها والمحن التي مرت بها والآمال التي عاشتها.

سيارة ايسوزو تنهار تحت وطأة وزن النساء. صورة ألفة بلحسن

أستيقظُ قبل الفجر لأتمكّن من تغطية الطريقة التي يلمّ بها سائقو الشاحنات العاملات الزراعيات. إنها مرحلة ذات خطورة عالية مرت بها الفتيات الأكبر سناً من بين بنات نبيهة وعشن تجربتها عندما كنَّ تلميذات، حيث كنّ يذهبن خلال العطل المدرسية لقطاف الزيتون أو الفواكه في المساحات الشاسعة التي يمتلكها المستثمرون/ات والمشغّلون/ات.

خلال السنوات الخمس الماضية، وحسب الأرقام التي نشرها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، تسبّبت حوادث المرور المتعلقة بالنقل العشوائي لمجموعات العاملات والعاملين الموسمييّن في المناطق الزراعية بمقتل 47 شخصاً وإصابة 667 آخرين بجروح. وفي شهر نيسان/أبريل 2019 ، حصلت مأساة هزت الرأي العام تمثّلت بمقتل ثلاثة عشر عامل/ة من بينهم ثمانية نساء في حادث سير في مدينة السبالة القريبة من رغيب، في محافظة سيدي بوزيد نفسها. بسبب هذا الحادث، أزهقت أرواح عائلة بأكملها تتألف من أم مع ابنتيها. تلك هي حالة آلاف النساء اللواتي يسلكن كل يوم  طرقات العمل مكدّسات فوق بعضهن، مما يعرض حياتهن للخطر. فهنّ جميعاً بلا تأمين ولا نقابة تحميهنّ. وجوهههن المكشوفة فريسة للمبيدات الحشرية، وأجورهن أقل من المعتاد إذ تُحسب لهنّ نصف المبالغ المخصّصة للرجال. لا يُحتسب عملهنّ ضمن الإحصائيات الرسمية على رغم أن أعداد النساء هذه تضمن الأمن الغذائي للتونسيين والتونسيات، حيث أن الرجال يتخلون بشكل متزايد عن قطاع بات يُنظر إليه على أنه وصمة اجتماعيّة ويتسم بقدر كبير من الهشاشة.  أمّا القانون 51 بشأن النقل الريفي الذي اعتمده البرلمان في عام 2019 بهدف حماية العاملات المياومات من مثل هذه الكوارث فلا يتناسب مع السياق الذي يسود في تلك المناطق.

عمل يومي ، مثل العبودية والتحرر. صورة ألفة بلحسن

عندما وصلتُ برفقة نسرين عامري وانتصار عكروتي اللتين كانتا بمثابة دليل لي، كان الليل لا يزال حالكاً. كانت الساعة الخامسة صباحاً في ساعة المحطة (غير الرسمية) في رغيب التي يتوقف فيها سائقو سيارات النقل. هؤلاء الذين يقومون بالنقل بشكل غير رسمي يقودون مركبات من نوع  404 مغطاة بقطعة بلاستيك، أو سيارات Isuzu وصلت إلى نهاية عمرها. كان الطقس شديد البرودة في ذلك الصباح من يوم 14 ديسمبر/كانون الأول، وكانت النشرة الجوية تشير إلى تناقص تدريجي في درجات الحرارة.

كل شيء في مظهر مئات النساء اللواتي كنّ جالسات في حاويات الشاحنات كان يشي بجهودهنّ المبذولة لحماية أنفسهنّ من البرد، ومن شهوات الرجال أيضاً. كنّ يرتدين  جبالاً من الملابس تمحي أي "شك" بأنوثتهن. كان لباسهن أشبه بثياب تمويه تُلبس لدى من الذهاب إلى ساحة المعركة.

سخط العاملات الزراعيات

تحاول النساء حماية أنفسهنّ من سوء الأحوال الجوية ومن ضرر المبيدات الحشرية بوضع قبّوعة على الرأس تعلوها طاقية من الصوف مُسبلة على الجمجمة كدرع يحميها، يضاف إليها شال يستخدم كحجاب. تصبح أجسادهن غير مرئية حين تتغطى بمعطف واسع قديم. تحته، ملابس رياضة يرتدينها فوق فستان واسع. الجوارب من الصوف، والجزمات من البلاستيك -أو أنها أحذية مهترئة كانت لأزواجهن أو لأبنائهن وصارت من مكملات ملابسهنّ.

الغضب. نتشبث ببعضنا البعض ، نسقط مع كل هزة. صورة ألفة بلحسن

أنهت سلوى الثلاثين من عمرها. كانت على متن سيارة تكدّست فيها أكثر من عشرين امرأة. عندما رأتنها، ثارت سائلةً: "منذ خمس سنوات وأنتم تخضعونا إلى دراسات وتحقيقات صحافية وتتكلمون عنّا في وسائل الإعلام. ما الذي ربحناه من كل هذا؟  لا شيء. ما زلنا نتلقى رواتب بائسة. يوم كامل من العمل مقابل 10 دنانير (3.06 يورو) باستثناء موسم قطاف الزيتون بين تشرين الأول/أكتوبر وكانون الثاني/يناير (إذ ترتفع الأسعار فيه قليلًا) لكن ما الذي يمكننا أن نفعله بمثل هذا المبلغ، بخاصة إذا ما طرحنا منه تكلفة النقل؟ ما الذي يمكننا أن نفعله بمثل هذا المبلغ عندما يصل سعر زجاجة البوتاغاز 8 دنانير (2.45 يورو)، وكيلو السكر إلى دينار و 400 (0.45 يورو)، وعلبة الحليب إلى دينار و400؟".

تقول صالحة التي تبلغ الثانية والأربعين من عمرها متأوّهة: "زوجي وابني عاطلان من العمل. في "رغيب"، باستثناء الزراعة، لا توجد سوى فرص عمل صعبة وقليلة، وابني يرفض الانخراط فيها لأنه يعتبر أن قيمة المبلغ الذي يدفعه أصحاب الأرض لا يتناسب مع الجهد المقدم. وما أكسبه في العمل يكفي فقط لشراء علبة سجائر له. إنني أخشى أن ينتحر، مثل كثير من الشبان في سوق الجديد بالقرب من بيتنا".

أما خميسة فهي امرأة وُلدت قصيرة القامة، عمرها ستون سنة، تلفّ نفسها ببطانية ولا تملك القوة للتحرك من مكانها في سيارة نصف ممتلئة: "أطرافي تجمّدت، أنفي يسيل، أنا مرهقة ومنهكة من التعب بعد رحلة كيلومترات أتحملها وأنا واقفة بسبب نقص المساحة. هكذ نصل إلى المزارع. على طول الطريق، نتشبث ببعضنا البعض ويبلغ عددنا ثلاثين امرأة أحياناً في السيارة الواحدة. نسقط مع كل هزّة. وفي كل مرة نلتقي فيها بعناصر الحرس الوطني، نرتعد من الخوف إذ ربما سيتم توقيف السائق أو تكون الرحلة بمثابة مرحلة نحو حادث جديد ينجم عن سباق ملاحقة يتم بين الشرطة والكرهبجي (السائق). ليكن لديكم بعض التعاطف معنا! هل يمكن أن يتم احترام حقوقنا في يوم من الأيام؟".

بأيديهما العارية ، تقوم أمل وسناء بقطع الجزر عند الفجر. صورة ألفة بلحسن.

الموت من كورونا ولا الموت جوعاَ!

الكرهبجيون هم سائقون يعملون بشكل غير نظامي في رحلات غير مؤمنة. كما أنهم يؤدون أدواراً عدّة. فهم الذين ينتقون العاملات المياومات من أجل الشغل، وهم الوسطاء الأساسيون في كل عمليات تشغيل النساء. لكل منهم شبكته الخاصة من العاملات، فهم الذين يأخذونهنّ للعمل لدى المزارعين، ويقدمون أنفسهم كضامن لهنّ بعد أن يقوموا بالمساومة على سعر الجورناتا، (أي يوم العمل). هذه التجارة غير الشرعية تشبه في جميع نواحيها ظاهرة الاتجار بالبشر. ففي كل يوم، يقوم الكرهبجيون في الصباح الباكر  بلمّ النساء وإنزالهنّ في أماكن عملهنّ، ثم يعودون لاستعادتهنّ بعد الظهر. يقدمون لهنّ سلفة من المال من أجل شراء الطحين والسميد أو الزيت. وهم أيضاً الذين تقع على عاتقهم مهمة دفع الأجور للعاملات في كل يوم أحد، قبل يوم السوق الأسبوعي في "رغيب"، وذلك بعد أن يكونوا قد قبضوا الأجور المخصصة لهنّ من المستثمر، وبعد أن يقوموا باقتطاع ما يعود لهم، أي كلفة النقل التي يتم تحديدها وسطياً بثلاثة دنانير في اليوم.

محمد الناجي الزرعي هو كرهبجي ومزارع يهيمن على مساحة شاسعة تصل إلى 14 هكتار. يرتدي محمد الناجي البرنس الجديد وينتظر آخر العاملات المتأخرات قبل أن يقوم باجتياز 25 كم ليصل إلى أراضيه. ومحمد الناجي الزرعي هو واحد من ملاكي الأراضي النادرين الذين ينقلون العاملات بأنفسهم. يشرح محمد: "إنني أدفع لهن ديناراً واحد (ما يعادل 0,31 يورو) أكثر من البقية. لا أستطيع أن أزيد أكثر وإلا ثار كل بقية المزارعين ضدي. الرجال؟ هم طبعاً يتقاضون رواتب أكثر من النساء. فهم أقوى وأكثر مثابرة على العمل! ثم أنه ما من رجل واحد يقبل العمل بـ 10 دنانير!".

كان الظلام لا يزال سائداً عندما انطلقت شاحنات الموت، وراح ظل الليل يرخي سدول الازدواجية على سلسلة طويلة من التمييز

أما زهير جلالي، وهو كرهبجي آخر كان في المحطة، فكان يستعد لتحميل 25 امرأة في غضون دقائق قليلة، أي في الساعة السادسة والنصف صباحاً والانطلاق نحو أراضي ناصر لحمر، وهو أحد أهم المستثمرين في المنطقة. فأرضه مجهّزة بوحدات تحويل وتغليف وبثلاجات كبيرة، وهو يصدّر الثمار التي يجنيها نحو بلدان عدّة من بينها روسيا.

يرى زهير جلالي أن العاملات الزراعيات هنّ مناضلات يعشن في وضع صعب للغاية: "المازوت يكلف غالياً والمسافات بعيدة. وفي نهاية الأمر أنا أيضاً لا أربح الكثير، بالأخص إذا أخذنا بالاعتبار مع صعوبة عملي. فأنا أستيقظ في الساعة الثالثة صباحاً، وفي كل منعطف، أواجه خطر المجابهة مع الشرطة بالإضافة إلى مخاطر الطريق. لكن النساء جديرات أكثر من أي شخص آخر بمعاملة أفضل. وهن لا يتوقفن عن الكدح بما في ذلك ضمن فترات العزل الصحي. فضلّن الموت من فايروس الكورونا على  الموت جوعاً!".

جميع النساء اللواتي التقينا بهن في محيط "رغيب" يطالبن بشروط نقل "أكثر احتراماً" وبأجور "أقل إجحافاً"(1) وهي شكاوي تم التعبير عنها بينما كنا في محطة تقع في مقابل محكمة ناحية المدينة. كان الظلام لا يزال سائداً عندما انطلقت شاحنات الموت، وراح ظل الليل يرخي سدول الازدواجية على سلسلة طويلة من التمييز.

صداقة، تضامن، أخوّة

وافق زهير جلالي على أن نتبعه في الأمكنة التي تنشط فيها "عاملاته" المياومات. كان نادى مسبقاً رئيس قطاع الاستثمار، لكن المسؤول رفض بشكل جازم أي نوع من الحوار مع الصحافة. كما رفض أي احتمال لالتقاط الصور. هذا الرفض، قوبلنا به ثلاث مرات في ثلاثة حقول أخرى. انتهى بنا الأمر بالعودة إلى سيدي عامور حيث يقوم فريد عامري ابن عم نسرين، وهو مزارع شاب عمره ٢٨ عاماً، بزراعة أرض أبيه بنصبات زيتون ومساكب من الجزر. كانت الساعة السابعة صباحاً ولم يكن فريد قد وصل بعد. قامت امرأتان هما سناء وأمل بالتقاط حفنة من الأغصان الصغيرة من أجل إشعال النار وتدفئة أجسامهن قبل الشروع بالعمل.

لسناء وجه يضحك وقسمات جميلة، وهي في الثانية والثلاثين من عمرها. تسكن على بعد كيلومتر من هنا مع زوجها، وهو أحد أفراد عائلة عامري أيضاً. في حديثها، تكررت الترنيمة نفسها عن الأعمال اليومية التي تُنفّذ منذ الفجر: حلب البقرتين، العناية ببستان الخضار، الاهتمام بالرضيع وبالطفلين قبل ذهابهما إلى المدرسة، تحضير الفطور للزوج. مع ذلك، فإن سناء لا تضطر لتحمّل عذاب النقل ولا هي مضطرة أن تقتطع من مبلغ الخمسة عشر ديناراً الذي تناله في اليوم أجرة الكرهبجي. بالإضافة لذلك، فإن نسيجاً من المشاركة والصداقة والتضامن والدعم المتبادل انعقد بينها وبين زميلاتها.

صداقة، تضامن، أخوّة لمواجهة يوم عمل جديد. صورة ألفة بلحسن

"إن المحنة التي نعيشها حين نضطر لاقتلاع الجزر وتنظيفه في هذا الطقس الجليدي الذي يجمّد أصابعنا من البرد ومن رطوبة الصباح الباكر لا تمنع من أن يكون الجو الذي يسود ضمن المجموعة فَرِحاً وصافياً. إنه جو يمكن أن يخفف من ثقل المهمة التي نضطلع بها".

تعرض سناء علينا قدراً ضخماً مغطّى بلوح من الخشب: "لقد قمنا كلنا معاً في الأسبوع الماضي بطبخ أطباق شهيّة على نار الحطب. معكرونة بالخضارة واللحوم، ويخنة من البازلاء ولحم الغنم، وكذلك كنافة، وهي يخنة أخرى تُحضّر عادة بالشمرة، لكننا استبدلناها بجزر من زرع هذا الحقل. كان ذلك طعاماً لذيذاً جداً وحاراً عطرناه بألف بهار وبهار! نحن النساء، بعد أن تذوقنا طعم الاستقلال المالي ومتعة أن نكون نساءً لوحدنا، لا يمكن لنا أن نكتفي بالحياة الأسرية وحدها".

أما زوج سناء، وهو عامل مياوم في "رغيب"، فيبدو مقتنعاً بأن مكان سناء الحقيقي هو البيت بدلاً من الأرض. "لماذا تعودين مستاءة في حين أنك تبدين في الخارج مرحة جداً ومليئة بالطاقة؟ غداً ستبقين في البيت". هكذا كان يهددني في كل مرة تندلع فيها الخلافات في ما بيننا تحت ضغط غضبه الذي يتأتى من كثرة المهمات المنزلية. لذلك فإنني أتحمل ما يحصل وأكبح نوبات غضبي، لأنني في صباح اليوم التالي لا أستطيع إلا أن أعود منذ الفجر لأعمل في الحقول!".

من مكان العبودية المفروضة عليهنّ تستمد العاملات الزراعيات في "رغيب" قوة رابطة الأخوّة التي تشكّل لُحمة داعمة ليوم العمل (جورناتا)، وتستمدّ أيضاً الاستقلاليّة. إنّه التحرر.

 

(1)  تقبض  العاملات الزراعيات أجوراً أقل حتى من الأجر الأدنى الزراعي المضمون (SMAG) والذي حددته الدولة بـ 16 دينار و512، أي ما يعادل 5 يورو في اليوم.
تم إعداد هذا التقرير بدعم من مؤسسة روزا لوكسمبورغ (مكتب شمال أفريقيا ، تونس)
Exit mobile version