جزيرة صغيرة بمعتقداتٍ صارمة: كيف تناضل أقلّية لصالح الحقوق الجنسية في مالطا؟

تحظّر مالطا الإجهاض بشكل واضح وصريح، من دون أن تنسى تجريم النساء والأطباء الذين يجرونه. مع ذلك، تتغيّر الآراء في صفوف أوساط مجتمعيّة عدّة نستكشف في هذا المقال كيف تقود الرحلةَ الصعبة من أجل الوصول إلى نظامٍ حديث يهتم بالحقوق الجنسية والإنجابية.

هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)

يبدو أن التفاوت في مجال الوصول إلى الحقوق الجنسية والإنجابية تصاعد بشكل مطّرد على مستوى العالم خلال العقد الماضي. توافق ذلك مع عودة ظهور القيم المحافظة والدعم السياسي الذي يقدّمه الجناح اليميني في دول ومحافظات عدّة، آخرها في ولاية تكساس في الولايات المتّحدة الأميركيّة.

من جانب آخر، لا تزال دولة مالطا تعيش نسبياً وضعاً فريداً من نوعه حيث أنها واحدة من حفنة قليلة من دول العالم التي تحظّر بشكل شامل وصريح الإجهاض، مع تجريم واضح للنساء والأطباء الذين يقدمون على هذا الإجراء.

يمكن الحكم على النساء بعقوبة السجن لمدّة تصل إلى ثلاث سنوات كحد أقصى، في حين قد تصل عقوبة الذين يمارسون مهنة الطب إلى أربع سنوات كحد أقصى. ولا توجد أي استثناءات لحالات الاغتصاب أو سفاح القربى أو حالات إنقاذ حياة الأم؛ في حين يؤكد مَن يطلقون على أنفسهم اسم "المدافعين عن الحياة" أن ذلك يتعارض مع واجب الأطباء اتّباع مبدأ "التأثير المزدوج". ويعني ذلك أنه في الحالات الإسعافية، بإمكان الأطباء إنقاذ حياة الأم حتى ولو أدى ذلك إلى إنهاء حياة الجنين كنتيجة أو بحكم تأثير الأمر عليه.

بالعودة قليلاً إلى الوراء، حصلت مالطا على استقلالها عام 1964، بعد أن حكمتها لفترة تاريخيّة طويلة قوى إقليمية وقيم كاثوليكية قويّة وتقاليد متجذّرة في ثقافتها. وعليه، ظلّت مسألة الحقوق الجنسية والإنجابية والحق في الإجهاض تثير في هذا البلد كثيراً من الجدل والاعتراض.

الأرقام لا تكذب

عندما نشهد النقاشات العامة التي تُثار حول الإجهاض على الصعيد المحلي، سواء أكان ذلك على شاشات التلفزة أو منصات التواصل الاجتماعي، أو حتى ما بين أفراد العائلة والأصدقاء، يتبدّى لنا أن هناك غالبيّة الناس المقيمين في مالطا يقفون ضد إمكانية الحصول على إجهاض آمن أو تقديمه.

بالفعل، أظهر الاستطلاع الأخير حول هذه القضية الذي أجرته منظمة الأخبار المحلية "مالطا اليوم" في حزيران/يونيو 2021، أن 66.9٪ من الأشخاص لا يوافقون على إلغاء تجريم إنهاء الحمل، بينما يؤيد ذلك 18٪ ، في حين عّبر 15.1٪ عن أنهم غير متأكدين من موقفهم. وكان استطلاع رأي سابق أجرته المنظمة في نيسان/أبريل 2019 بيّن أن هناك أغلبية نسبية لا تتجاوز 46.9٪ تعارض إرسال النساء اللواتي أنهين حملهنّ إلى السجن.

من هنا، يمكن القول إنّ نتائج الاستطلاع وفي حين أنّها تؤكّد العدد الكبير للذين لا يؤيّدون الإجهاض، إلا أنّها تبيّن أيضاً أنّ نسبة كبيرة لا توافق على الحكم بعقوبة السجن على النساء اللواتي أنهين حملهنّ، ممّا يعني أن الموقف العام تجاه حصول النساء على الإجهاض يظل محافظاً جداً، وإن بقي جزء منه غير متمسّك بالعقوبة. وينطبق الأمر حتى على فئات مجتمعيّة يُنظر إليها على أنها تقدمية عندما يتعلق الأمر بحقوق مجتمع الميم مثلاً، أو قضايا الهجرة، وغير ذلك من القضايا"الساخنة" الأخرى.

المواقف ليست جامدة: تحرّكات تفتح الإشكاليّة على مصراعيها

على الرغم مما قد يبدو بمثابة معركة خاسرة داخل دولة شديدة التديّن وتُهيمن عليها السلطة الأبوية، غير أنّ هناك أقلية شجاعة يأتي أعضاؤها من خلفيات مختلفة، تقود الكفاح من أجل تقدّم عدد كبير من القضايا النسوية والقضايا المتعلقة بحقوق الإنسان عموماً، بما في ذلك الوصول إلى إجهاض آمن.

يمكن تجزئة أصحاب المعركة بشكل مبسّط إلى ثلاث أرضيات رئيسية: المجتمع المدني، والمجتمع الطبي، والمجتمع التشريعي. والمنظمات غير الحكومية والنسوية هي التي تعبّد الطريق للوصول إلى هذا الحق من داخل المجتمع المدني الذي يتمترس فيه معظم المدافعون/ات عن حق الاختيار.

في مقابل مبادرة الأطباء المؤيدين لحق الاختيار في المجتمع الطبي إلى تنظيم أنفسهم حديثاً ضمن مجموعة ضغط واحدة، يظلّ الجهد التشريعي هو الأقل رسوخاً والأكثر ضعفاً. ويمكن فهم الأمر أكثر لدى النظر في تركيبة المجتمع التشريعي التي تغلب عليها وجهات النظر المحافظة.

قبل عقد من الزمن، لم يكن من الممكن مجرّد التفكير في دعوة عامة لتغيير التصوّرات الضارة حيال مسألة تُعدّ من المحرّمات منذ عقود. أمّا الآن، فالأقليّة تتحرّك، والمجتمع بات مدعوّاً للتفكير

دلائل على تغييرٍ اجتماعي آتٍ...

منذ أن قدّمت لارا ديميترييفيتش، المحامية البارزة والناشطة في مجال حقوق النساء، مذكّرة قضائية لوقف منع حبوب منع الحمل التي تؤخذ في صباح اليوم التالي (أي بعد الممارسة الجنسيّة) لتخفيض نسبة الحمل، توالى دعم النساء لها إلى أن حصدت مساندة 101 امرأة زميلة لها، ممّا أدى إلى إدخال وسائل منع الحمل الطارئة في الجزيرة عام 2016، وبلور شعور بأنّ عدد التقدّميين/ات المؤيّدين/ات للإجهاض بات أكبر، ويساهم في إيصال أصوات كثيرة لم تكن تُسمع.

بعد عامين فقط من هذا الحدث، وتحديداً في اليوم العالمي للنساء عام 2018، أصبحت "مؤسسة حقوق المرأة" التي تديرها الدكتورة ديميترييفيتش المنظمة النسوية الأولى التي تعلن، على الملأ، دعمها للحقوق الإنجابية، بما في ذلك الحق في الإجهاض.

أدى ذلك إلى تطور مدهش، تحديداً لجهة وتيرة التغيير المعروفة بكونها تقليدياً بطيئة في جزيرةٍ لم يصبح فيها الطلاق قانونياَ إلا في عام 2011.

في وقت لاحق من آذار/مارس 2018، أُنشئ تحالف من سبع منظمات غير حكومية يسمّى "صوت الاختيار" يجمع بين المنظمات النسوية والمدافعين/ات عن حقوق الإنسان والأطباء المؤيّدين لحق الاختيار وغيرهم من المجموعات الحقوقيّة.

أما "شبكة دعم الإجهاض" التي دعمت النساء في أيرلندا في السابق، وساعدتهنّ على السفر إلى المملكة المتحدة من أجل إجراء عمليات الإجهاض، وسّعت خدماتها لتصل إلى مالطا عام 2019. وفي العام نفسه، حدث ما لا يمكن تصوره داخل المجتمع الطبي في مالطا، إذ تم تأسيس مجموعة "أطبّاء من أجل الاختيار".

قصص يجب أن تُحكى

في أوائل شهر آب/أغسطس 2021 ، أُطلق منشور بعنوان "صناع القرار الأعزاء"، وهو ثمرة حملة من الحكايات المرويّة التي تسلّط الضوء على حجم الضرر الناجم عن الحظر الكامل للإجهاض في مالطا.

صاغت هذه الوثيقة لورا باريس وإميلي غاليا، بدعمٍ من منظمة " كائنات شابّة تقدمية"، وهي منظمة شبابية للتقدم الاجتماعي في مالطا، وكذلك من منصة "كسر الممنوع في مالطا"، وهي منصة إلكترونية تسمح بمشاركة تجارب الإجهاض التي ترويها نساء مقيمات في الجزيرة. وسيتم قريباً إرسال منشور "صنّاع القرار الأعزاء" إلى المشرّعين في مالطا ليروا ما وراء الإحصائيات والأرقام ويدركوا كيف يؤثر الحظر الشامل الذي تفرضه الدولة على هذا الإجراء على حيوات النساء، بطرق غالباً ما تكون مؤلمة.

المجتمع الطبّي يناضل

خلال أيار/مايو 2019، شهدت البلاد تشكيل مجموعة "أطباء من أجل الاختيار في مالطا"، وهي المنظمة الأولى المؤيدة للاختيار المنبثقة من المجتمع الطبي، وتضم مجموعة من العاملين/ات المحترفين في المهن الطبية من مستقلين/ات ومدافعين/ات عن "رعاية صحية إنجابية تقوم على الأدلة، وتكون شاملة وآمنة ومتوفرة...، ويشمل ذلك الوصول الآمن إلى الإجهاض ".

شاركت منظمة "أطباء من أجل الاختيار" في مظاهرة خلال تموز/يوليو 2021 أمام البرلمان  مع "نساء على الأمواج"  و"نساء على الإنترنت" و"كائنات شابّة تقدمية" و"طلاب من أجل الاختيار". سعت المجموعة إلى تسليط الضوء على المظالم التي تعاني منها النساء الساعيات إلى إنهاء الحمل في مالطا، ونجحت بالفعل في ذلك؛ علماً أنّ منظمة "أطباء من أجل الاختيار" تدير مع منظمة "نساء من أجل النساء"، و"مؤسسة حقوق المرأة" مبادرة هدفها توفير المعلومات حول الخيارات الإنجابية من خلال خط لتقديم المساعدة.

مؤشّر تغيير من داخل البرلمان

كانت الدعوات إلى فرض حظر شامل على الإجهاضن والذي يجب إعادة النظر فيه طبعاً، تبدو بلا أهمية بالنسبة للمشرعين/ات. ليس ذلك بمستغرب فيما لو أخذنا بعين الاعتبار الآراء المنتشرة حول هذه المسألة في نظام "ديمقراطية الحزبَين" التي تسود داخل جزيرة مالطا.

كان حزب العماّل الحاكم، وهو من أحزاب اليسار الوسطي، أوحى في الماضي بأن المسألة تستحق النقاش، لكن  أفعاله أشارت إلى خلاف ذلك. لا بل أن رئيس الوزراء السابق جوزيف مسقت، قال بنفسه أثناء الانتخابات البرلمانية الأوروبية لعام 2019 عندما كان لا يزال يحكم البلاد، إن "المالطيين/ات يستحقون مناقشة رصينة" حول هذه المسألة.

أما حزب المعارضة الذي يقع في الوسط اليميني، فأعلن مراراً وتكراراً أنه يعارض الإجهاض بشكل قاطع. وعندما قدّمت النائبة المستقلة مارلين فاروجيا في أيار/مايو 2021 مشروع قانون خاص يقترح إلغاء تجريم الإجراء، قام على الفور بإسكاتها.

بعد ذلك بأيام، عارض الحزب الحاكم مشروع القانون، مدّعياً أن المناقشة في البرلمان من شأنها أن "تخنق" النقاش على المستوى الوطني حول مثل هذه القضية الحساسة.

انتقدت فاروجيا الطرفين اللذين يكوّنان البرلمان بعد ذلك بأسابيع، قائلة إن النواب في البرلمان "جبناء"، وأنه يجب تشكيل مجلس مباشر من المواطنين/ات، كما حدث في أيرلندا.

كل ما سبق يدلّ إلى أنّ الطريق إلى تحقيق المساواة الحقيقية بين الجنسين وتوصّل النساء إلى التحكّم الكامل بحقوقهنّ الجنسية والإنجابية، بما في ذلك الوصول الآمن إلى خدمات احترافية، لا يزال بالفعل طويلاً ووعراً للغاية.

مع ذلك، وقبل عقد من الزمن، لم يكن من الممكن مجرّد التفكير في دعوة عامة لتغيير التصوّرات الضارة حيال مسألة تُعدّ من المحرّمات منذ عقود. أمّا الآن، فالأقليّة تتحرّك، والمجتمع بات مدعوّاً إلى التفكير بما كان يُعدّ من المسلّمات.

Exit mobile version