عندما تجرّأتُ على الحلـم: حكايـات النضال النسوي المصري خلال عشرية الأمل والخيبة (2)

خرجت الحركة عن مركزيتها ونخبويتها، وصارت تستقطب نساءً وحلفاء من خلفيات متباينة طبقياً وجغرافياً وعرقياً ودينياً، وهو ما تجسّد في التحرّر من المأسسة والأشكال التقليدية للتنظيم النسوي، وتحوّل المساحات الرقميّة إلى ساحات احتجاج

لم يكن الحضور المكثّف للنساء في الميادين المصرية إبان ثورة الـ25 من كانون الثاني/يناير (25 يناير) مشاركة في حراك وطني أو سياسي فحسـب، بل كان تحديــاً ومعركة أخرى في سلسلة طويلة من معارك تخوضها النساء ضد إقصائهن وتهميشهن، وضد قمع أصواتهن، وضد كبت طموحاتهن.

مكّنت الثورة النساء من إشهار أسلحة جديدة في وجه الأبوية بكل صنوفها، وأتاحت لهنّ فرصة فرض خطاب جسور لم يكن من الممكن أن يقتحم الساحات في السابق، تحدّين به جميع تمظهرات السلطة التي جرّدتهن من حقوقهن وحرمتهنّ حرياتهن الشخصية.

في كتابها "النساء في مصر الثورية.. الجندر وجغرافيا الهوية"، تقول الأكاديمية والناقدة النسوية شيرين أبو النجا إنّ "صعود وهبوط الجندر (ثم صعوده مرّة أخرى) منذ عام 2011، يجبرنا على أن نقول إنّ سرد تجربة المرأة يشكّل العمود الفقري لسرد الثورة."

يشكّل النصّ التالي الحلقة الثانية من سلسلة "حكايات النضال النسوي المصري خلال عشرية الأمل والخيبة" التي نحاول من خلالها أن نتعرف إلى تجارب بعض الناشطات النسويّات المصريـات اللواتي ولجن الحراك في أعقاب الثورة، وعايشن فترة مفصلية في تاريخ مصر عموماً، وتاريخ الحركة النسوية خصوصاً.

فتح الأبواب الموصدة

"عندما اندلعت الثورة، شعرت كأنني لمستُ السماء بيدي، رأيت الحدود تتلاشى ولم يعد شيء يقيّدني. ظننتُ حينها أنني وجدت إجابة عن السؤال الذي طالما أرّقني بشأن دوري الاجتماعي والوطني والسياسي، وصار هدفي الرئيس هو أن أكون جزءاً من التغيير الحاصل".

بهذه الكلمات، توّصف الناشطة النسوية المصرية جهاد الراوي ما تعتبره نقطة تحوّل في حياتها، في إشارة إلى ثورة 25 يناير التي يسجّل العام 2021 مرور عشـر سنوات على انطلاقها؛ سنوات امتزج فيها الأمل بالغضب قبل أن يجتاح اليأس والإحباط أيّامها، ورُسِمت فيها خطوط سرعان ما اختفى كثير منها، وتشكّلت في بدايتها أحلام ما لبثت أن تبدّدت واختفت.

جهاد الراوي باحثة وناشطة نسوية مصرية بدأت علاقتها بالحراك النسوي تنظيميًا بعد ثورة 25 يناير التي تركت أثراً عميقاً ونافذاً في حياتها، على المستويين الخاص والعام. فقد منحها هذا الحدث الجلل فرصة إعادة النظر في ما لديها من قناعات ورواسخ، وعلى رأسها، ما يخصّ اعتقادها بأن أسرتها أسرةٌ منفتحة وتقدمية.

"منعتني أسرتي من المشاركة في الاحتجاجات الشعبية التي عمّت أرجاء مصر خلال الـ11 يوماً الأولى من الثورة، فكان ذلك بداية صدام بيني وبينهم، أدركتُ معه أن ثمة أشياء ليست متاحة لي لأنني أنثى، وعرفت لأول مرة أن أسرتي مهما بدت تقدمية في الظاهر، لا تزال تتبنى أفكاراً محافظة، صرت أرى انعاكاساتها جلية."

توقن الراوي أن الثورة منحتها القوة والطاقة للبحث عن الحرية والمضي قدمًا في طريق التحرر الشخصي الذي أوصلها إلى الانتقال من مدينتها الأصلية، مدينة بورسعيد، إلى العاصمة القاهرة لتستقل تمامًا عن أسرتها وتصبح مسؤولةً بشكل كامل عن حياتها.

"ثورة يناير لم تكن فقط سببًا في تخلّق وعيي النسوي، وإنما كانت سبيلًا لتحرري الشخصي. فقد استقليت بشكل كامل عن أسرتي، وهو ما منحني شعورًا بالحرية لم يسبق لي اختباره. وعند هذه النقطة اتخذت قراري بالانخراط في المجال العام."

"عرفت لأول مرة أن أسرتي مهما بدت تقدمية في الظاهر، لا تزال تتبنى أفكاراً محافظة، صرت أرى انعاكاساتها جلية"

طريق التمرّد والمقاومة

رغم أن اشتباك الراوي مع الحراك النسوي بدأ فعلياً في أعقاب الثورة، فإن محاولاتها الفردية لمواجهة التمييز الجندري بدأت مبكراً، تحديداً عندما كانت طالبة بالمرحلة الثانوية، إذ فوجئت آنذاك بحرمانها من المنافسة على منصب الأمين العام لاتحاد طلاب مدارس الجمهورية، نتيجة تعنّت مجلس الاتحاد وإصراره على أن يكون الأمين العام ذكراً استناداً للحديث النبوي "لن يُفلح قوم ولوا أمرهم امرأة".

تقول الراوي إن هذا الموقف كان باكورة مواقف تمييزية لا حصر لها، دفعتها إلى المساهمة في النشاطيّة في مجال "حقوق المرأة"، كما كانت تسمّيها في ذلك الوقت، إلا أن نشاطها كان محدوداً ومنحصراً في الجامعة والمدينة التي تعيش فيها، إلى أن اندلعت الثورة وانتقلت إلى القاهرة حيث شاركت لأول مرّة في فعالية تدريبية نسوية، لتخرج منها وقد قرّرت أن تكون ناشطة في المجال الحقوقي النسوي، حريصة على البحث والاطّلاع واستدعاء المنظور النسوي في تحليلها لشتى القضايا.

بعد مرور بضع سنوات، انضمّت الراوي إلى منظّمة "نظرة للدراسات النسوية"، إلا أنها لم تكن ضمن فريق عمل المنظّمة عندما أضيف اسمها إلى قائمة المنظّمات المتهمة في القضية 173 لسنة 2011، المعروفة إعلامياً بـ"قضية التمويل الأجنبي لمنظّمات المجتمع المدني". مع ذلك، شعرت الراوي بالحسرة والأسى عندما علمت بضمّ منظمتين نسويتين (هما نظرة للدراسات النسوية وقضايا المرأة المصرية) إلى القضية المتهم فيها عدد كبير من المنظمات الحقوقية بــ"تلقي أموال من الخارج بقصد ارتكاب أعمال تضر بمصلحة البلاد أو تمس باستقلالها أو وحدتها".

وتصف مشاعرها وقتئذٍ قائلة، "شعرتُ أن أحلامي الشخصية والسياسية تجاه الثورة في طريقها إلى الفناء. فالدولة صارت تستهدف النشاط النسوي، وما أعلمه يقيناً أن ذلك يُعدّ مؤشراً خطيراً على الصعيد السياسي. فقد كان ما يجري يتعارض بشكل تام مع تطلّعاتي تجاه الثورة."

لم تكتفِ الراوي بمتابعة القضية من بعيد، إذ حرصت على أن تكون بالقرب من فريق عمل المنظمة خلال جلسات التحقيق. "كانت فترة شديدة القسوة، ولأوّل مرة بدأت تراودني أسئلة حول جدوى البقاء في مصر والاستمرار في النضال، وأسئلة أخرى حول شكل العمل النسوي وما سيؤول إليه".

رغم المخاوف، اختارت الراوي أن تعمل في المنظّمة وأن يستمر عملها فيها لثلاث سنوات، ولا تزال حتى يومنا هذا ناشطة في الحراك النسوي المصري. لكنّ السيـر في طريق كهذا لا بد أن يكون وراءه دافع قوي، تلخصه في قولها، "لا بد أن يستمر الحراك وينبغي أن نقاوم رغم الكلفة الباهظة. في مصر المقاومة في هذا الصدد محمّلة بمخاطر أمنية، وطالما قررنا النضال علينا أن نتحمّل كلفته، لأننا لو لم نفعل ذلك سنذهب إلى ما هو أسوأ، وهذا النضال يُحدِث بالفعل تغييرات حتى لو لم تكن كبيرة، إلا أنه يظل السبب الرئيس في تطوّر تعاطي الدولة مع الكثير من القضايا، والعنف الجنسي مثال لنا".

في هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أنّ البرلمان المصري أقرّ خلال عام واحد إصلاحَين تشريعيّين لصالح الناجيات من جرائم العنف الجنسي، أوّلهما كان إضافة مادة جديدة إلى قانون الإجراءات الجنائية برقم 113 مكرر، لضمان سرية بيانات الناجيات في جرائم التحرش الجنسي والاغتصاب، وثانيهما هو تغليظ العقوبات في جرائم التحرش الجنسي لتتحوّل من جنحة إلى جناية، ويصبح الحد الأدنى للعقوبة هو خمس سنوات بعد أن كان الحبس لمدة سنة (كحد أدنى) أو التغريم ماليـاً.

تؤكد الراوي أهمّية التشريعات في مواجهة جرائم العنف الجنسي، لافتةً إلى أنه تغيّر تعاملها الشخصي مع التحرّش الجنسي بعد سَنّ أول تشريع يجرّمه في العام 2014، إلا أنها تجد تغليظ العقوبات معالجةً غير موفقة أو غير محسوب تبعاتها لما لها من آثار جانبية، كزيادة رغبة المعتدين في الانتقام من الناجيات أو الضغط عليهنّ للتنازل عن البلاغات، وبالتالي، إنّ الأجدر من وجهة نظرها هو استحداث آليّات مجتمعية بديلة للتعامل مع المتحرّشين، لأن العقوبات لا يمكن أن يكون هدفها الوحيد هو الردع، وإنما الإصلاح وإعادة التأهيل أيضاً.

إلى ذلك، ترى الراوي أن آليات الإنفاذ لا تقل أهمية عن القوانين نفسها. لذا، تؤمن بوجوب تزويد الناجيات بأدوات تمكّنهن من إثبات جرائم العنف الجنسي التي يصعب إثباتها، وتوفير ظروف آمنة لهنّ في أثناء الإبلاغ، مشددةً على أن ذلك لا بد أن يقابله نشاط يصب في صالح تغيير ثقافة المجتمع تجاه النساء والعنف الذي يتعرّضن له.

"الأجدر هو استحداث آليّات مجتمعية بديلة للتعامل مع المتحرّشين، لأن العقوبات لا يمكن أن يكون هدفها الوحيد هو الردع"

شاهدة على تطور الحراك تنظيمياً وخطابياً

بعد ما يقرب العشر سنوات من نشاطها النسوي، تعتقد الراوي أن أهم ما وسم هذه المرحلة من تاريخ الحركة النسوية المصرية هو التنوع والانفتاح.

"خرجت الحركة عن مركزيتها ونخبويتها، وصارت تستقطب نساءً وحلفاء من خلفيات متباينة طبقياً وجغرافياً وعرقياً ودينياً، وهو ما تجسّد في التحرّر من المأسسة والأشكال التقليدية للتنظيم النسوي، وتحوّل المساحات الرقميّة إلى ساحات احتجاج، ممّا أدى إلى ترامي آفاق النضال الذي كان في السابق مكدّساً في القاهرة، ومركّزاً في دوائر العاملات في المنظّمات النسوية والناشطات اللواتي يخصّصن حساباتهن الشخصية للتدوين عن قضايا الجندر".

تردف الراوي، "أسفر ذلك عن تعدّدية الخطابات النسوية، وانضمام فئات مختلفة إلى ساحات النقاش، وظهر ذلك بوضوح في عدد من قضايا العنف الجنسي، أذكر منها قضية أحمد بسام زكي".

في هذا السياق، من المفيد التذكير بأنّ مصر تشهد حالياً موجة صاعدة من موجات الحراك النسوي ضد العنف الجنسي، قوامها الأساسي هو شهادات الناجيات المجهّلة. كانت هذه الموجة انطلقت في شهر تموز/يوليو من العام 2020، بعد أن كشفت عشرات الفتيات عبر حساب (Assault Police) على موقع انستغرام، تعرّضهن للاعتداء الجنسي بدرجاته المختلفة على يد أحد طلاب الجامعة الأمريكية في القاهرة، ويدعى أحمد بسام زكي.

حظيت هذه القضية باهتمام واسع على جميع المستويات بعد أن انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي شهادات الناجيات مدعومة بحملة ضغط نسويّة عتيدة قادت إلى إلقاء القبض على المعتدي وخضوعه للمحاكمة التي انتهت إلى إصدار حكم بحبسه ثماني سنوات.

وعن الخطاب الخاص بجيل النسويات الذي خرج من رحم الـ25 يناير، تظن الراوي أن خطاب الحركة النسوية في الوقت الحالي يتّسم بجرأة أكثر ممّا كان عليه الوضع قبل الثورة، خاصة في ما يتعلق بـ "سؤال الجسد"، وتراه أيضاً أقل تسامحاً مع العنف الجنسي وأقل استجابة للابتزاز باسم "أولويات النضال". وتُرجع الراوي هذه الحالة إلى ما تصفه بـالطفرة في الوعي التي لازمت الاحتجاج والحراك الثوري.

من ناحية أخرى، تعتبر الراوي أن أحد إخفاقات الحركة النسوية المصرية البارزة، هو غياب آليّات المحاسبة الداخلية، لافتة إلى أن الحركة يتعيّن عليها أن تبادر باستكشاف هذه المسارات ما دامت تطالب بخلق مساحات للعدالة البديلة داخل بقية الحركات المدنية والاجتماعية والسياسية.

في النهاية، ترى الراوي أن الحركة النسوية المصرية استطاعت خلال العشرية الأولى لثورة يناير أن تحقق الكثير من الإنجازات على رغم التضييق الأمنى الوخيم، سواء على مستوى رفع الوعي والإنتاج المعرفي، أو تعديل بعض التشريعات، أو تطوير الخطابات المجتمعية حول عدد من قضايا العنف ضد النساء.

أما الإنجاز الأكبر من وجهة نظرها، فهو القدرة على المقاومة والنضال وتحقيق هذه المكتسبات في سياق شديدة الصعوبة تنحســر فيه المساحات أمام التنظيم والنشاطية النسويَّين.

 

صورة المقال الأساسيّة من "ستّ الحيطة" مشروع الجداريّات الخاصّة بالنساء- Women on Walls.
Exit mobile version