هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
كتبت باتريسيا المقال باللغة الإسبانيّة وفي ما يلي النص المترجم إلى العربيّة:
دعوني أبدأ بشرح السبب الذي جعلني أصير "نسويّة".
أنا نسوية لأنني أريد أن يكون جميع البشر أحراراً بالتساوي، وأن يتمتعوا بحقوق إنسان متساوية. يعني ذلك أني لا أريد أن تُفهم المساواة التي نريدها من خلال عدسة تكافؤ الفرص فقط. أريد مساواة تسمح لنا ببناء الحياة التي تعجبنا. بالنسبة إلي، كانت إحدى أعظم فوائد المساواة أن أكون قادرة على ممارسة حقي في التفكير بالطريقة التي أريد، وأن أعبّر عن أفكاري كيفما وأينما شئت واستطعت، متغلّبةً على كل أصناف القيود والجدران والعقبات الأيديولوجية.
أنا نسوية لأنني أؤمن بحقي في أن أكون أنا، لا أن أكون نسخة مني تمليها عليّ دولة ما أو إله ما أو حزب ما أو رجل ما، أو حتى امرأة نسوية أخرى.
وكما هي حال كثيرات من النسويّات من حولي، صرتُ ألحظ مؤخراً توجّهاً متزايداً وخانقاً نحو تفسير العالم بطريقة سطحية ومختزلة، ونحو تعليمنا كيف يجب أن نتقبّل هذا التفسير. بمعنى آخر، لاحظتُ وجود قوّة تستمر في دفعنا باتجاه تبنّي بعض الافتراضات باعتناق لا يقبل النقاش، وفي الوقت ذاته، تقودنا إلى أن نصبح جزءاً من مجموعات صغيرة مختلفة ومتنازعة، تشكّلت نتيجة الاختلافات العديدة التي تتعايش داخل حركتنا. غير أنّني لن أسمح بذلك لنفسي. فبعد أن قطعتُ كل هذا الشوط البعيد، لا يمكن أن أدع نفسي تدخل طوعاً في أقفاص جديدة أو أن أكون جزءاً من عصبيّة قبلية أو من قطيع مدجّن.
ليس هناك ما هو أكثر معاداة للنسوية من إخضاع الذات لكيان أو فكرة أعلى. في البداية، تم إنكار قدرة النساء على التفكير، ثم لاحقاَ قدرتهن على التعبير علناً عن الآراء التي يطوّرنها، وعن نتائج المناقشات المختلفة التي خضنها. في الوقت الحالي، تعيش كثيرات منا تجربة ما أسميه الجوع النهم المتراكم على مدى قرون للاستماع إلى تلك الأصوات المتنوعة واستكشافها، وفي بعض الحالات، لتشكيل وجهات نظرنا الخاصة ومشاركتها، عند الضرورة، مع بقية أفراد المجتمع.
قد يبدو هذا الفعل الأساسي بسيطاً، لكنه كلّفنا قروناً من الأبراج المحصّنة، والنيران المشتعلة، وتكميم الأفواه، وجرائم الاغتصاب، ولا يزال يكلّف الثمن نفسه في عالمنا اليوم لملايين النساء اللواتي ما زلن يناضلن من أجل منع الآخرين من معاملتهنّ كحيوانات أليفة، أو حتى أقل. فلا يجرؤن أحد على أن يطلب منا الصمت أو الرقابة الذاتية باسم الكفاح من أجل المساواة. المساواة بدون حرية قفص جديد يجب أن نرفض دخوله.
إنّ التضامن وشعور المحبّة بين الأخوة والأخوات، وشعور التعاضد بين الرفقاء، والنضال من أجل العدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية، هي كلها، كما كتبت المنظّرة السياسية حنا أرندت، شكل من أشكال الحب، "حب العالم”. حنا أرندت، وهي مفكّرة يهودية ألمانية المولد، تحمّلت العبء الأكبر من السرد المكلف حول تعاون بعض اليهود مع النظام النازي من أجل جعل الهولوكوست ممكناً، لأنها كانت ملتزمة بحريّة الفكر في الحياة العامة، والتي، برأيها، تمثّل مع الفن أكثر أشكال الحياة نبلاً.
كما في جميع أنواع الحب، لكي يكون الحب حباً صرفاً ولا شيء آخر، يجب أن يكون حرّاً وبعيداً عن الأنانية. ذلك أن الحب، كما شرح لي عالم النفس خافير باربيرو هو شعور، لكنه في الوقت نفسه قيمة. وكقيمة، هو أيضاً تمرين، مثل عضلة تحتاج لبناء ولتوسيع. لهذا السبب، لا يمكن للنسوية أن تكون مساحة لترويج المناقب الشخصية، ولتمجيد الذات، ولفرض الآراء الخاصة على أنها حقائق قاطعة، وللتشجيع على "مطاردة الساحرات" والانتقام بغير حق من أولئك الذين يعتبرون ضالين أو الذين تحوّلوا الآن إلى أعداء لدودين.
المساواة بدون حرية قفص جديد يجب أن نرفض دخوله
إن الواقع معقّد. ولذلك، إن أي تحليل تبسيطي سيحتوي على خطر أن يبدو مشابهاً لما يتبنّاه ويعزّزه الشعبويون من جميع الأطياف السياسية ومن اليمين المتطرّف. النسوية يجب أن تكون عكس ذلك تماماً: فهي الحركة التي لا تعترف فقط بما هو معقّد ومركب، وإنما تتعامل أيضاً معه بحماس الشهية الفكرية التي تدفعنا لأن نرغب بالفهم، ولأن نهرب من الأحكام المسبقة وأحكام القيمة.
أنا نسوية لأنني أريد أن يكون لجميع الفتيات والنساء في العالم الحق في أن يصبحن مفكّرات حرّات. لن أتّفق مع كثيرات/ين، وسأحب أن يكون لأصواتهم قنوات تسمح لي بسماعها.
بعض الأشخاص المقيتين الذين تم "إطلاق سراحهم" مؤخراً، من الصعب على أن أفهمهم، مع كل الأوهام التي يحملونها. كما لو أنه من خلال خلق واقع موازٍ يكون فيه العنف ضد النساء هو كل ما نناقشه يجعل العنف يختفي. وكما لو أننا بترديد شعار مرات عدّة سنكون قادرين على شرح أنظمة القمع المتشابكة والآليات التي استخدمتها لجعل أجزاء كبيرة من سكّان العالم تحت سيطرة أقلية قوية.
إذا تعلمتُ شيئاً واحداً من العمل على العنف ضد النساء لمدة خمسة عشر عاماً حتى الآن، فهو أنه لا يزال أمامنا طريق طويل لنقطعه من أجل فهم أفضل لكيفية مساهمته في تشكيلنا كمجتمع والتأثير علينا كأفراد.
ليست كل أشكال العنف ضد النساء مبنيّة على العصبيّة الجنسيّة، ولا كل المظالم أو أشكال التمييز. يمكن أن يكون العنف اللفظي مجرد عنف لفظي، ومن الواضح أنه يختلف عن العنف الجسدي. التحرّش هو تحرّش، وليس شكلاً من أشكال التعذيب. الاتجار لأغراض الاستغلال الجنسي ليس مثل الدعارة. لا يمكن تفسير التفاوتات المختلفة بين الرجل والمرأة بشكل قاطع دون تحليل متعدد الجوانب، تماماً كما لا ينبغي تفسير التحرش والاستغلال من دون الأخذ بعين الاعتبار الموقع الذي يحتله الناس، والطبقة الاجتماعية، وكذلك فارق السن بينهم، وما إلى ذلك. وأخيراً، لا يمكن طرح تساؤلات حول قبول وموافقة المرأة أو التشكيك بها فقط - وأنا أؤكد على كلمة فقط - لأنها تعاطت المخدّرات أو الكحول قبل أو أثناء ممارسة الجنس.
كيف ستبدو حلولنا عندما نخلط أو نفشل في معرفة العديد من الفروق الدقيقة والاختلافات الموجودة؟ إلى أي خطاب الخطير سيقودنا ذلك - وأحيانًا بإرادتنا الحرة - حول ما يمكننا فعله بأجسادنا؟ كيف سيؤثر ذلك على مجالات أخرى، مثل الحق في الإجهاض على سبيل المثال؟
لقد ظهر مثال صارخ على عواقب مثل هذا الخطاب في إسبانيا منذ وقت ليس ببعيد. فقد بيّن لنا هذا المثال كيف انتقلنا في السنوات الأخيرة من التركيز على تحقيق الحرية الجنسية للمرأة إلى تقديم ممارسات معينة على أنها غير متوافقة مع ما يُفترض بأنّه رغبة أنثويّة.
بعد قضية الاغتصاب الجماعي في مهرجان "سانفيرمين"، وقع البعض في فخ محاولة الدفاع عن براءة الضحية من خلال التلميح إلى أكثر الحجج ارتباطاً بالمنطق الأبوي الذكوري وبالفكر المحافظ، عبر القول ما مفاده أنّ المرأة نادراً ما تشعر بالرغبة في إقامة علاقات جنسية مع عدة رجال في نفس الوقت، أو بممارسة الجنس الشرجي، أو بالسلوك الذليل أو السادي-مازوخي. وهكذا، من أجل الدفاع عن الحرية الجنسية للضحية الأكيدة لهذا الانتهاك -الذي تم فيه اثبات أن الرجال الخمسة الذين هاجموها لم يسمحوا لها حتى بالتعبير عن رفضها لهم- بدأ النقاش يدور حول قدرة الرضوخ والقبول لدى جميع النساء.
بعد قضية الاغتصاب الجماعي في مهرجان سانفيرمين، وقع البعض في فخ محاولة الدفاع عن براءة الضحية من خلال التلميح إلى أكثر الحجج ارتباطاً بالمنطق الأبوي الذكوري وبالفكر المحافظ
كان هذا سبباً أوصل إلى الاقتراح الحالي لقانون الحريات الجنسية والذي، كما ذكر العديد من المحلّلين/ات، يحدّ من حريّتنا، وكان ثمنه فرض رؤية طهرانية، بل وطفولية عن حياتنا الجنسية، وهي رؤية لم يرفضها حتى اليساريون، وتشبه إلى حد بعيد تلك التي يدافع عنها عتاة الفكر المحافظ.
وكما تؤكد المختصة بعلم النفس وعلم الجنس لوسيا غونزاليس مينديوندو: "لا يمكن اتخاذ موقف ضد الاعتداءات الجنسية من خلال أخذ حالة اغتصاب سانفيرمين كنموذج. لأنه على الرغم من أن الاعتداءات أكثر شيوعاً مما نود تصديقه، فإن معظم المتحرشين الجنسيين معروفون وموثوق بهم من المحيط الذي يعيشون فيه، ومن بينهم معلّمون وأزواج. ومع هذه المقاربة العقابية فقط، لن نستأصل النظرة المنتشرة في أرجاء العالم، وهي النظرة الأبوية القائمة على أساس معياريّة الغيريّة الجنسيّة، والتي تصورنا كأرض يجب غزوها واستعمارها وامتلاكها.
إذا أردنا أن نتوقف عن أن نكون مجرد أغراض تستهدفها الرأسمالية الاستغلالية، يجب علينا أيضاً القضاء على هذه النظرة إلى النساء ككائنات هشة لا قدرة لها على استخدام سلطة القرار أو الصمود. ولا بد أن نلاحظ كيف أن أكثر الذين ليس لديهم أشياء كثيرة يخسرونها هم أيضاً الذين يعرفون أفضل من غيرهم أن الحياة بشكل حر تستحق المجازفة... وكثيراً من المجازفة. وهو أمر غير مفهوم من وجهة نظرنا. وهم يعرفون هذه الحقيقة على الرغم من وضعهم الهش والصعب ومن مجال المناورة الضيق الذي لديهم، وكل ما اختزنوه من ألم متراكم.
خُذي حالة النساء المهاجرات على سبيل المثال. كانت هؤلاء النساء ضحايا لسياسات الحدود الأوروبية الصارمة. كان عليهنّ اللجوء إلى شبكات الاتجار ليتمكّنّ من الوصول إلى البلدان التي يأملن أن يعشن فيها بمنأى عن التحيّزات الجنسي والعنف. ولتحقيق ذلك، كانت معظمهن واعيات لاحتمال تعرضهنّ للاغتصاب على طول الطريق أو حتى دفعهن للدعارة لبضع سنوات في نهاية الرحلة. وعندما سألتهن إذا كان الأمر يستحق كل ذلك، كانت إجاباتهنّ مشتركة دائماً، ولو تمت صياغتها بكلمات مختلفة: "ما البديل إذن؟ أن أستسلم لما ترسمه الحياة لي هنا؟ أن أقبل أن تتعرض بناتي للختان والعنف من جميع الأشكال وللفقر الدائم مثلي؟ على الأقل أنا حاولت، على الأقل يمكنني الآن أن أجرب أن تكون لي حياة أخرى".
صحيح أن تجارب بعض هؤلاء النساء هي حالات قصوى، وعلينا يقع واجب المساهمة في القضاء على السياقات والجهات الفاعلة التي تساعد عليها، لكن الحالات العادية أيضاً تذكرنا بالنقاط المعرضة للتلاشي في حياتنا، وبعلامات الاستفهام الكامنة في "إلى أين نريد أن نذهب؟" وفي "أي ثمن علينا أن ندفع مقابل اعتناق خيار؟"... لا شك في أن داخل حركات النزوح الجماعية هذه، هناك أيضاً بحث عن الحقوق وعن الحريات في حيواتنا الخاصّة.
كما في جميع أنواع الحب، لكي يكون الحب حباً صرفاً ولا شيء آخر، يجب أن يكون حرّاً وبعيداً عن الأنانية. ذلك أن الحب هو شعور، لكنه في الوقت نفسه قيمة. وكقيمة، هو أيضاً تمرين، مثل عضلة تحتاج للبناء وللتوسيع
بالنسبة إلى أنا شخصياً، يبدو واضحاً أن الحرية تنطوي على مخاطر يجب أن نتحملها إذا لم نكن نريد المساهمة في الموجة الانقلابية التي نحن منغمسون فيها بالفعل أو لا نريد تسريعها. فمنذ الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، ظهر صراع وجداني نابع من المصلحة الذاتية يطرح الخيار بين الأمن من جهة وبين الحرية من جهة أخرى، وقد تغلغل هذا الصراع في جميع جوانب حياتنا العامة والخاصة: فالخوف ممّا لا يمكن توقعه، والخوف مما هو مؤلم ولا يمكن تفاديه قد فتح الباب على مصراعيه أمام الدول التي تحكمها ديموقراطية ليبرالية، وحتى أمام الدول التي تحكمها أحزاب تقدمية، لكي تعيد النظر بعلاقاتها مع مفهوم المواطنة من وجهة نظر أمنية. وهكذا صارت تلك الدول تضع يدها بيد الصناعات القائمة على اليقظة المفرطة والرقابة الاجتماعية لكي يقوموا معاً بالتجسس علينا لأننا دائماً، في نظرهم، ضمن احتمال الشبهة.
وبالتالي، صارت الدولة بمثابة وزارة دفاع عملاقة تنظر إلى مواطنيها على أنهم أعداء. وفي هذا الإطار، صارت النساء كمواطنات بمثابة رعايا يُحتمل أن يشكّلن خطراً كسائر الرعايا. ونظراً إلى أنّ أوضاع النساء هشة، صار من الضروري حمايتهنّ في الوقت نفسه. فمن الطبيعي إذن أن يصبح النظام مثقلاً بتناقضاته الداخلية، وحان الوقت لإعادة الأمور إلى نصابها. ولهذا الهدف، يجب أن نعيد الأمور إلى نصابها، من خلال المطالبة بأن نكون عناصر فاعلة في إعادة تصميمنا لمجتمعنا.
إذا فشلنا في القيام بذلك، فسوف نستمر في الوقوع في ثقافة الشعور بأنفسنا كضحايا طوال الوقت. بمعنى آخر، نستمرّ في قياس قيمتنا بمقدار ما يقع علينا من ألم وتمييز، وعنف وإفقار وألم. ولكن ما هو واضح الآن، هو أننا إذا لم نصل بعد إلى هذا الحد، فإن ذلك تمّ بفضل قدرتنا على القتال والتغلّب والاستمتاع.
لولا المتعة لما كنا نتحدّث الآن عن حقوق ولا عن مساواة، بل عن شهداء فقط. نحن هنا جئنا لنتمتع بحقوقنا وبحرياتنا. لذا، دعونا ندافع عنها... وننمّيها.