نسويّات مع فلسطين، وأخريات ليس تماماً... مَن هنّ؟

التعويل أوّلاً وأخيراً على التنظيمات اللامركزية التي تبني الجسور وتتحاور في ما بينها، متحدّيةً المؤسسات الكبرى التي تعظنا ليلاً نهاراً بما لا تعير له هي نفسها أي اعتبار. التعويل على عدم تعبها من المثابرة والتضامن العابر للحدود، فلا يبقى الوحيد قسراً، وحيداً لهذه الدرجة.

هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: English (الإنجليزية)

هذا الزخم الذي لا ينضب، هذا الزخم الذي يضطرّكِ إلى التورّط على مدار الساعة، خلفه ما هو أبعد من فظاعة جرائم الاحتلال الإسرائيلي في غزّة والتعرّض المباشر لها على هواتفَ إن فتحت أفواهها، لَلَفظَتْ قليلاً من الدماء التي ابتلعتْها.

خلف هذا الزخم الكثيف، أصواتٌ صادحة وحركات نضاليّة وشبكاتُ تضامنٍ عابرٍ للحدود لا تيأس من بناء الجسر تلو الآخر تسهيلاً لتلاقي الناجين/ات من ديمومة الاستعمار أو رواسبه، ومن المعايير القائمة على تفوّق البيض، والأنظمة الرأسمالية والأبوية التي تقود عمليّة سحقٍ لا هوادة فيها لكل مُهمَّشٍ هو كذلك بسببها. ولهذه الحركات الفضلُ في خلق حسّ التآخي الذي يأسرنا رغماً عن المشهد المُرهِق. ننتظر أن يثمر لنا تيناً صالحاً ثمّ نقول سيثمر، لا محالة.

لها منّا امتنانٌ كبير، وعلى رأسها "حياة السود مهمّة"، الحراك الذي لم يتوانَ في إعلان وقوفه إلى جانب الفلسطينيات/ين منذ البداية، والذي سنمرّ عليه في ما سيتبع.

في الإطار نفسه، يصعب تجاهل دور مناضلات نسويات يتحرّكنَ داخل هذه المجموعات أو على تخومها، تحديداً اللواتي ترجمْنَ مبادئهنّ المُدرِكة تقاطعَ أنواع الاضطهاد، على أرض الواقع، لا من رفوف المكتبات وباحات الجامعات العريقة. فأتتْ مواقفهنّ متماشية مع ما ينادينَ به، بخلاف نسوياتٍ أخريات، يدّعي بعضهنّ الراديكاليّة فيما هنّ إمّا متعاطفات مع إسرائيل، أو متفهّمات لها، أو راضخات لضغوطها وحليفتها، الولايات المتحدة الأميركية.

لمحة على أبرز المواقف النسوية الداعمة 

صحيح أن أمامنا جميعاً تحديات جمّة تحول بيننا وبين قدرتنا على الكتابة أو رغبتنا بالتفكير في زمن الموت المباشر، لكن توثيق المواقف التي صدرتْ على شكل منشوراتٍ مُبعثرة هنا وهناك على منصّات ميتا، يبقى تمريناً في غاية الأهمية للحفاظ على ذاكرتنا وتبويبها، إنما أيضاً تنويهاً بمواقف نسويّاتٍ تصدَّينَ للفكر العنصري، وتوقّفن لوهلة ليكتبنَ ويسجّلنَ الموقف ويُعلينَ الصوت.

لولا هؤلاء، لكانت الساحة بقيتْ حكراً على أمثال الألمانية أورسولا فون دير لاين Ursula von der Leyen، رئيسة المفوضية الأوروبية، هي التي صدعت رؤوسنا بـ"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" وضرورة تمكين النساء والفتيات، ضمن المنظومة القيميّة نفسها. ولولاهنّ، لكانت أورسولا غرّدت تلك الجملة مراراً، بلا أي رقيب أو حسيب، أو اعتراض سياسي صادق وعالي النبرة من داخل أروقة الاتحاد الأوروبي، كالاعتراض المُشرِّف الذي عبّرت عنه ولا تزال، النائبة في البرلمان الأوروبي، المناضلة الإيرلندية كلير دالي Clare Daly.

هنّ نسويات لولا وجودهنّ، وتجمّعهنّ بمشاركة "شبكة الصحافيات السوريات" أمام مؤتمر "تشكيل سياسات خارجية نسوية لعام 2023"، لكان بشار الأسد مضى في ربطه الدفاع عن فلسطين بالدفاع عن نظامه، بلا ردّ نسوي سوري واضح يدحض تلك الكذبة الوقحة، ولكانت الحكومة الهولندية التي امتنعت عن التصويت على قرار وقف إطلاق النار في تشرين الثاني/نوفمبر، مضتْ في تحقيق أمجادها بلا أي إزعاج، باسم نسويةٍ بيضاء تتغنّى بأمميّةٍ لم تُفِدْ سواها.

وفي سياق تحدّي أجندة حكومات أوروبا ومنظومتها القيميّة المضطربة، خرجت بيانات مُشجِّعة من عالم الجنوب، من بينها بيانٌ نموذجي لمجموعة "نسويات في كينيا" ليذكّرَ الحكومات الغربيّة الفخورة بإنجازاتها النسوية بأنّ: "أي سياسة خارجية نسوية حقّة من غير الممكن، في جوهرها، أن تكون إمبريالية، وهي سياسة لا بدّ أن تعطي الأولوية لمناهضة العسكَرة وخفض التصعيد".

يعيد بيان الكينيّات شرح قيمة التضامن النسوي العابر للحدود الذي نشهد الآن كيف تحاكي المواقف المستندة إليه بعضَها من دون أي تنسيق مقصود أو سابق معرفة. فيقول البيان في مطلعه: "بارتكازنا إلى مبدأ التضامن النسوي العابر للحدود، وانطلاقاً من مسؤوليتنا النسوية بالتصويب على القمع ومواجهته أينما حدث وكيفما حدث، نقف وقفة دعمٍ وتضامنٍ ثابتَين مع شعب فلسطين".

الجدير بالذكر أيضاً بيانٌ لحائزين/ات على الجائزة الفرنسية-الألمانية لحقوق الإنسان التي كرّمت عدداً من المناضلات النسويات الجنوبيات، استنكر في بداية الحرب على غزّة دعم الدولتَين الفرنسية والألمانية للاحتلال، مسائلاً جدوى تلك الجوائز حينما تنظّمها دولٌ متماديةٌ في حرمان الفلسطينيين/ات من الحرية والأمان.

من بين المواقف اللافتة أيضاً، بيانٌ لمؤسسة "ماما كاش" التي تقدّم الدعم للناشطات والمبادرات النسوية، طالعنا منذ سطوره الأولى باعترافٍ صريحٍ لا موارَبة فيه بتاريخ الاحتلال والإبادة الذي قاساه الفلسطينيّون/ات على مدى عقود. فضلاً عن رسالة مؤثّرة لنسويّاتٍ شابّات من أفغانستان والجزائر وإيران ومصر والمغرب ولبنان وفلسطين والسودان وسوريا وتونس وغيرها من بلدان جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا SWANA، جزمْت الشابّات فيها أن "لا سلام من دون عدالة، ولا عدالة من دون حقّ العودة."

علاوةً على ما سبق، صدر بيانٌ مهمّ لـ"كوفيم" Cofem، أو "تحالف النسويات من أجل التغيير المجتمعي"، وهو ائتلاف دولي يضمّ نسويات من جنسيات مختلفة يواجهنَ معاً الحملات المضادّة للنسوية ويُعدنَ إلى الواجهة أهمية إلغاء العنف ضد النساء. بيانٌ لا يهادن في دعمه القضية الفلسطينية، ذلك أنه، على غرار بيان "ماما كاش"، ينطلق في مقدّمته من التذكير بالـ75 سنة المريرة... أي عمر الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، لا من عملية حماس.

على صعيد المواقف الفردية، لا بدّ من المرور على الانتقادات اللاذعة التي توجّهها لإسرائيل جوديث باتلر Judith Butler، الفيلسوفة الأميركية وإحدى مستشارات حركة "الصوت اليهودي من أجل السلام" Jewish Voice for Peace التي تقود معركة محورية ضد السياسات الصهيونية في الولايات المتحدة الأميركية.

جوديث باتلر التي تنتقد نظريّاتها نسويّات كثيرات -وهذا بحث آخر- كفَرَتْ مشكورةً بتوظيف معاداة السامية سلاحاً في وجه الفلسطينيات/ين ومبرِّراً لسياسات الاحتلال، ورفضت وصفَ ما يحدث اليوم على أنّه صراع بين طرفين، ذلك أنه نتاج "عملية اقتلاع عنيفة تعود إلى عام 1948، وحتى إلى ما قبل ذلك، ولا يشكّل نكبةً جديدة، إنما هو استمرار لنكبةٍ لم تنتهِ بعد". باتلر وأخريات، يدفعن اليوم ثمن مواقفهنّ، فتُلغى لقاءات مهمة كنّ سيشاركن فيها، كاللقاء الذي كان سيُعقد في باريس يوم 6 كانون الأول/ديسمبر 2023.

في الخلاصة، لا شكّ في أن المواقف الآنفة الذكر تنبع من إيمان صاحباتها بضرورة رفض الظلم بكل أشكاله، ورفض التعامل مع الذكوريّة كنظامٍ منفصلٍ يحوم وحده في فضاءاتنا، وإصرارهنّ على النظر إليه كبنيةٍ عميقةٍ تتداخل مع هيكليّات القمع وأدوات الاستعمار والاحتلال والعنصرية. وفي الحدّ الأدنى هي تنبع من رذْلٍ واضحٍ للمعايير المزدوجة السائدة في عالمنا، والتي فضحتها غزّة الجريحة لتصبح "فلسطين"، بلا منازِع، أجدَرَ مَن كاشف العالم بوجهه القبيح.

تنبع المواقف المُشجِّعة من رذْلٍ واضحٍ للمعايير المزدوجة السائدة في عالمنا، والتي فضحتها غزّة الجريحة لتصبح "فلسطين"، بلا منازِع، أجدَرَ مَن كاشف العالم بوجهه القبيح

مواقف مخزية: نسويات "راديكاليّات" غير مكترثات بمفاعيل الاحتلال

ما سبق هو ببساطة المستوى المتوقّع من المفكِّرات والحركات النسوية التحرّريّة على وجه الخصوص، حتى تلك التي قد نختلف مع بعض طروحاتها. ومن المعيب القبول بأقلّ من ذلك أصلاً، مثل القبول بمواقف إيرانيات عُرفنَ بنضالهن المُلهم ضد الحجاب الإجباري ونظام الفصل الجندري، سوى أنهن اخترنَ الوقوف إلى جانب إسرائيل ونظام الفصل العنصري ووصف "حماس" بالحركة الإرهابية. أو القبول مثلاً باللّهجة التي اتّسم بها بيان مجموعة من نسويّات المملكة المتّحدة اللواتي، على رغم مُطالبتهنّ بوقف إطلاق النار ورفضهنّ الجرائم المُرتكبة، إلّا أنهن قرّرنَ أن انطلاقة بيانهنّ يجب أن تكمن في إدانة عملية حماس أوّلاً.

وهذا ما فعلته جوان رولينغ أيضاً، كاتبة "هاري بوتر" التي كرّست صفحتها على منصة إكس لسردية "الطرفين"، لا بل جنحتْ نحو التركيز على همجيّة حماس ومعاناة الرهائن وهشاشة أوضاع اليهود في الغرب.

وهنا بيت القصيد، وجوهر التمايز بين البيانات الداعمة والأُخرى المخزية كالبيان البريطاني المذكور أو موقف الكاتبة النسوية الكندية الشهيرة، ميغان ميرفي، التي تدّعي الراديكالية والافتخار بالدفاع عن النساء والأمّهات والحوامل إلى أقصى الحدود، فيما تشجّع على تبييض صفحة إسرائيل المسؤولة عن إبادة هؤلاء النساء وعائلاتهن.

فسؤال "من أين ينطلق الموقف؟"، هو الأساس في تحديد تموضعنا كنسويات من الاستنكارات التي تتوالى باسم المجموعات النسوية. وما قد نشهده اليوم من تباينات، ما هو إلا نتيجة طبيعية لاختلافاتٍ عميقة بين الاتجاهات النسوية ورؤاها السياسية، ولكن أيضاً، نتيجةً لتأثّر شرائح نسوية واسعة بالرواية الصهيونية وميلها الملموس نحو العودة إلى الهوية البيضاء التي يبدو أنها لا تزال الأقوى في تحديد الموقف من أي مجزرة أو حدث يقع في البلدان العربية.

"وُلدتُ امرأةً سوداء/ والآن أصبحتُ فلسطينية/ ضد ضحكة الشر التي لا تنقطع"

تحرّر السود شقيق تحرّر فلسطين

في المحصّلة، تبقى غفيرةً البيانات والتصريحات المتضامنة مع غزّة التي تخلو من الـ"لكن" والـ"لولا"، من بينها مواقف موظّفي/ات بعض الجهات المانحة أو المستفيدين/ات من برامجها (بخاصة الألمانية منها، في تونس)، ومبادرات لعمّال الموانئ في بلجيكا والولايات المتحدة الأميركية لوقف تصدير السلاح، ودعواتٌ مُستجابة لإضراب شامل يوم 11 كانون الأول/ديسمبر 2023. صلبةٌ هي في وقفتها مع الحق، وكريمةٌ لن تسعها هذه السطور. إنما لن يمكن إقفال هذا النص من دون تخصيص ولو مساحة أخيرة للتناغم بين Free Free Palestine وBlack Lives Matter، التي عجّت صفحاتها به على مدى سنين خلت.

قد يتذكّر العالم جداريات عام 2020 تخليداً لذكرى جورج فلويد في فلسطين نفسها، أو منشورات ربيع 2021 (أحداث القدس الشرقية ثم غزة) وخريف/شتاء 2023 (إبادة غزّة) التي رُفعتْ فيها أعلام فلسطين -ورفعها  يُعدّ فعلاً ثورياً في الغرب- على صفحات حركة "حياة السود مهمّة" في الولايات المتحدة الأميركية. لا بل تخلّل تلك الصفحات بعد توغّل 7 أكتوبر، رسمة لطائرة شراعيّة سرعان ما اضطرّ فرع الحركة في شيكاغو إلى سحبها.

لكنّ التضامن بين حركات تحرّر السود في الولايات المتحدة الأميركية وتحرّر فلسطين ليس بالأمر الجديد أو المُستغرب، حيث أن الطرفين يحاربان عنصريّة العالم، كلّ من سياقه وزمنه. وكلا الطرفَيْن تألّم من غياب أو ضعف دعم  الحركات والجهات النسوية والحقوقية لصراعاتهما.

وللتذكير بتاريخ الدعم المشترك، يكفي أن نعود بضعة عقود إلى الوراء إلى مالكوم إكس Malcolm X الذي ساند فلسطين ورفع عنوان حق شعبها في التحرّر والعودة إلى أرضه وزار غزّة نفسها عام 1964؛ أو إلى جيمس بولدوين James Baldwin الذي كتب عام 1979 أن دولة إسرائيل لم تُخلق لخلاص اليهود إنما لخلاص مصالح الغرب؛ وإلى جون جوردان June Jordan التي قالت في أحد أشعارها، "وُلدتُ امرأةً سوداء/ والآن أصبحتُ فلسطينية/ ضد ضحكة الشر التي لا تنقطع".

يمكننا أن نعود أيضاً بضعة أشهر إلى الوراء، إلى مداخلات المفكّرة أنجيلا دايفيس Angela Davis التي تواجه معنا اليوم آلة البروباغاندا الصهيونية، بعد أن كانت استحضرت فلسطين معها في زيارتها عام 2022 إلى برلين، عاصمة أمّ إسرائيل، ثم مُنعت بشكل غير مباشر، هي وجوديث باتلر، من الحديث عنها في باريس عام 2023.

واللائحة تطول بالأسماء والتبادلات الكثيرة بين الحركتَين، تحديداً في خلال العقدين الماضيَين اللذين عرفا بزوغ أشكال مقاومةٍ أفقية وقاعدية جديدة لجذور العنف العنصري والاستعماري والذكوري في آن.

والتعويل اليوم على هذه التنظيمات اللامركزية التي تبني الجسور وتتحاور في ما بينها، متحدّيةً المؤسسات الكبرى التي تعظنا ليلاً نهاراً بما لا تعير له هي نفسها أي اعتبار. والتعويل أيضاً على عدم تعبها من المثابرة والتضامن العابر للحدود، فلا يبقى الوحيد قسراً، وحيداً لهذه الدرجة.

ننتظر اليوم أن تثمر لنا تيناً صالحاً ثمّ نقول ستثمر، لا محالة.

Exit mobile version