"أوهامي التي ذهبتْ أدراج الرياح"... صحافية تروي تجربتَها وسط تصاعد القمع في تونس

لم يخطر في بالي أن ذلك اليوم يمكن أن يعود... اليوم الذي سأضطر فيه إلى التعامل من جديد مع الخوف أثناء ممارستي عملي كصحافية.

هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)

عاد الخوف، ومعه الشعور بالذل الذي يأخذك بتلابيبك إلى أن يخنقك. "تنقطع أنفاس بلدٍ بأكمله عندما لا يعود الإعلام حرّاً"، قالتها الصحافية فرانسواز جيرو.

على الرغم من المطبّات التي اجتازتها تونس خلال المرحلة الانتقالية الطويلة والصعبة، وعلى الرغم من جميع محاولات الترميم التي طبعت السنوات الـ12 المنصرمة التي تلت ثورة كانون الثاني/يناير 2011، ما كان ليخطر في بالي يوماً أنني سأعود وأعيش تحت نظام سلطوي آخر في حياتي. نظام راح منذ شهور يكمّم الأفواه المستقلة ويهدّد ويستدعي الصحافيين/ات للتحقيق معهم أو سجنهم، فضلاً عن أنه صار يستخدم أكثر فأكثر حملات التشهير والترهيب والمضايقة ضدهم ويقمع الأصوات النقدية التي تُعارض رئيساً أصبح لديه سلطات هائلة منذ "ضربته القمعية" في 25  تموز/يوليو 2021.

إن خيبة أملي كبيرة. لا أستطيع أن أصدق أن المواضيع والمواقع التي استطعنا الوصول إليها، هذه الآفاق المستقلة التي تم استثمارها، وهذه الإمكانات التي كانت أُتيحت أمامنا كصحافيين وصحافيات في تونس بفضل الشعارات الرائعة التي أطلقت عام 2011 ، أن كل ذلك كان مجرد قوس تم فتحه ثم أغلق من جديد. كان مجرد وهم، أو "فسحة تبدّدت فيها الغيوم"، بحسب تعبير استعمله عالم السياسة العربي شويخة.

تحرّكوا، لم يعد هناك ما يمكن أن تروه...

في السنوات القليلة التي مضت بعد الثورة، ورغم الهشاشة المستمرّة التي تضرب القطاع الذي كنتُ أتحرّك ضمنه بحبورٍ كبير متحرّرةً من قيود الرقابة، كانت حرية التعبير وصلت إلى حد تجسيد المُكتَسب الفريد والثمين لثورةٍ كانت الأساس في ما عُرف بـ"الربيع العربي" آنذاك. ثورةٌ طالبت بالعدالة الاجتماعية والمساواة بين المناطق وبفخر الانتماء إلى تونس، لكن سرعان ما تم قمعها ومنعها ولجمها من قبل الموظفين السياسيين في الحكومات المختلفة، وكذلك من قبل التحزّبات السرية التي خلقتها.

حتى ذلك الوقت، ومع ازدهار المواقع أو الإذاعات الحرة والمستقلة وتدشين محطات إعلامية جديدة، كانت تونس تتبوّأ رأس قائمة بلاد العالم العربي ضمن التصنيف العالمي لحرية الصحافة الذي وضعته منظمة مراسلون بلا حدود (RSF). كان يمكن لهذه الإصلاحات التي تطال القطاع الإعلامي والتي طالبت بها بإلحاح المنظمات الحقوقية، أن تدعم هذا القطاع. لكن بدلاً من ذلك، منذ 12 سنة والحكومات المتعاقبة آخذة بلجم أي إطار قانوني دائم لحرية الصحافة والمعلومات. فكل شيء في منظومة تأهيل الصحافيين/ات التي عفا عليها الزمن، كل شيء في الإرث القمعي للقوانين المتصلة بالإعلام التي وضعها الرئيس السابق بن علي، يناسب تماماً "مصالح" السلطة التنفيذية اليوم.

"كم أشعر بالمرارة حين ألاحظ أنني أٌنهي حياتي الصحافية كما بدأتها... برفقة الخوف"

لا آذان صاغية لمطالب الصحافيين/ات

"هذا الصمت الرسمي أخذ يولّد حوادث كثيرة من النوع نفسه، إذ تم تحويله إلى سياسةٍ أو نهج يملي طريقة إدارة العلاقات مع وسائل الإعلام"، بحسب ما يقوله الصادق الحمامي، وهو أستاذ في معهد الصحافة قلق جداً من الوضع الراهن.

إذاً، عاد مروّجو الدعاية القدماء من عهد بن علي، وعاد مرتزقو الكتابة إلى مواقعهم المريحة، تحت مظلة الاستبداد. استطاعوا أيضاً أن يستولوا على الكثير من طلبات التكليف بالكتابة التي تقدّمها وسائل الإعلام لأهداف سياسية معيّنة. كما أنهم تفاخروا بالموانع التي تلجمهم وبقربهم العضوي من عالم السياسة والمال. وهم أصلاً يتمتّعون بقدرة كبيرة على التأقلم مع كل شيء، بما في ذلك المفردات الليبرالية الملطّفة التي ولدت بعد الثورة.

خلال هذه المرحلة الانتقالية، وفي تلك المساحات المُعتمة التي تتواجد عادةً بين عالمين، ها هي الوحوش تنبثق من جديد... بالفعل، من المذهل أن نرى كيف يعود الخوف ليحتل مكاناً بأسره.

في الواقع، اكتشفتُ أنني لم أستعِد تماماً عافيتي بعد تلك الصدمة، على الرغم من سنوات الحرية الـ12. فبعد 34 سنة من العمل في صحيفة يومية قريبة من الحكومة كانت في الماضي مكرّسة بشكل واسع لمديح بن علي ثم استعادت العلاقة مع شياطينه القدماء بفضل القرار 54 (قرار هو بمثابة سلاح ترهيب قاتل استُخدم من أجل تحييد أي نقدٍ يمس الرئيس ووزرائه وحلفائه)، ها أنا أترك وبشكل تلقائي مجال السياسة لألتفت إلى الشؤون الثقافية. كنت نفيتُ نفسي أصلاً إلى هناك عندما فرض النظام القديم في منتصف التسعينات سياسة رقابة وهيمنة كاملة على وسائل الإعلام.

هكذا إذاً، أنهي حياتي المهنية في الجريدة الفرانكوفونية لا بريس La Presse. وكم أشعر بالمرارة حين ألاحظ أنني أنهي حياتي الصحافية كما بدأتها... برفقة الخوف.

ملاحظات إضافية من الكاتبة:
  • بدلاً من الحكم على الصحافيين/ات استناداً إلى المرسوم عدد 115 المؤرخ في تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، وهو قانون الصحافة الذي تختفي فيه العقوبات التي تقمع الحرية -في ما عدا الجرائم العنصرية أو الإباحية- فضّلت السلطات تطبيق القانون الجزائي الذي يندرج ضمن الإرث الذي خلّفه الديكتاتور وما زال يُعمل به.
  • *في الثالث عشر من أيلول/سبتمبر، سنَّ الرئيس قيس سعيد مرسوماً يحكم وبعقوبة السجن التي يمكن أن تصل إلى عشر سنوات على كل من "ينشر على الانترنت معلومات مغلوطة أو إشاعات".
Exit mobile version