حين تبدأ معركة الحد من هدر الغذاء وتغير المناخ... من المطبخ

مع أن العالم يشهد اليوم حلولاً مبتكرة للتصدي لهدر الطعام وتأثيره في تغيّر المناخ، يبقى الرجوع إلى "حذاقة" النساء "وحكمتهن" وتقنيات الأجداد القديمة عاملاً يساعد، ولو قليلاً، في الحد من أضرار الهدر على البيئة.

بقلم مريم خضراوي- صحافية تونسية

"ميمتي (أمي) كانت في غياب أبي المهاجر في فرنسا والذي لا يعود إلا في الصيف، مجبرة على أن تتصرف بحكمة  بالمال القليل الذي يرسله والذي توزعه على الأكل و تكاليف دراسة خمسة أطفال وحاجيات البيت الأخرى". تقول زُهية  لـ"ميدفيمينسوية" وهي تقلب قطع الخبز اليابس  في طاجين الحديد (آنية كانت في السابق تصنع يدوياً من الفخار لطهي الخبز على النار)  لتتحول إلى "بشماط" (قطع مقرمشة من الخبز تطلى بالمربى أو بكريمة الشوكولاتة).

زُهية، 60 عاماً، أرملة وأم لأربعة أطفال، لا تنظر إلى مسألة الاقتصاد وعدم تبذير الطعام من نفس منظور والدتها. فوالدتها كانت تعرى إلقاء الخبز في القمامة "حرام"، أي محرماً وينزل الشؤم والفقر وغضب الله. إلى جانب العامل الديني، هي تعتقد اليوم أنها مجبرة على التصرف بتقشف أكثر لأن غلاء المعيشة يحتّم ذلك.

"الكل يمدح ربة البيت المقتصدة والتي تحسن التصرف في المال والمطبخ في تونس ونقول عنها باللغة العامية  "حاذقة" أو" مرتوبة "أو "مقدية". يعجبني ذلك، وأردت أن أربي بناتي على هذا الأساس"، تقول زهية، وهي تبدي فخراً بما أصبحت عليه ابنتاها اللتان حصلتا على شهاداتهما الجامعية في الهندسة، وإحداهما تعمل خارج الوطن.

معرفتها بمسألة تغير المناخ ليست واسعة، لكنها مطلعة من خلال أحاديثها مع أولادها وحتى من خلال ملاحظة تغيرات الطقس والفصول بما يحدث في البيئة وتواتر الكوارث. لم يكن من الصعب تفسير ذلك لها، لأنها أكملت  تعليمها الابتدائي وكانت من الأوائل في صفّها، ولكن ظروف العائلة حتمت عليها مغادرة مقاعد الدراسة لمساعدة أمها على تعليم إخوتها وأخواتها. ساعدها البقاء مع أمّها  في إعداد الطعام بما تيسّر والتصرف بالقليل من المؤونة.

"أعي أنه من الأجدر عدم التبذير وعدم هدر الطعام والتصرف في كل الأطعمة وتدويرها. لكن اليوم أصبح الأمر أكثر صعوبة مع الجيل الجديد المتطلب الذي تستهويه أكثر الأكلات السريعة"، تقول زهية، وتضيف مازحةً، "إن كنت سأساهم في تحسين حال الكون والحد من الكوارث من خلال التصرف في الأكلات في مطبخي فسأحاول بكل جهد".

زاهية في المطبخ تحمص قطع الخبز القديم لإعادة استهلاكها بدل التخلص منها ورميها في القمامة

"حيف"   

كيف يمكن أن ينام الكثير من الناس جياعاً في حين تستقبل المكبات كميات هائلة من الطعام المهدور؟

في تونس، كما في الكثير من بلدان البحر الأبيض المتوسط وغيرها من الدول، تُهدر كميات هائلة من الطعام ولا يتم احتساب الخسائر الاقتصادية التي تخلّفها، بل أصبحت  بصمتها الكربونية تحتسب وهي  أكثر وطأة في الوقت الحالي الذي يحاول فيه  العالم  التصدي لتغيرات المناخ ومخاطرها التي تزداد حدة يوماً بعد يوم.

ومع أن العالم يشهد اليوم حلولاً مبتكرة للتصدي لهدر الطعام، يبقى الرجوع إلى "حذاقة" النساء "وحكمتهن" وتقنيات الأجداد القديمة التي كانت فطرياً صديقة للبيئة، عاملاً قد يساعد، ولو قليلاً، في الحد من  الهدر وأضراراه. ومثلما تحتل النساء مراكز الريادة في العديد من الميادين خارج المنازل، تشرف النساء عادة على إدارة الغذاء وعلى الجزء الأكبر من شؤون البيت والعائلة، حتى اليوم. من هنا، من الممكن أن تؤدّي النساء حالياً دوراً هاماً في الحد من تبذير الغذاء، بخاصة مادة الخبز التي تُعد الأكثر استهلاكاً والأكثر إهداراً في تونس، بحسب دراسة  للمعهد  الوطني للدراسات الاستراتيجية "إيتاس".

وفقاً لهذه الدراسة، يهدر التونسيون/ات 900 ألف خبزة في اليوم، أي تقريباً 100 مليار في السنة. ويُفسر ذلك بتدني سعر الخبز وضعف جودته والعادات الغذائية في الاستهلاك في البلاد. ويبلغ معدل استهلاك التونسي 70 كلغ للشخص الواحد في السنة مقابل 58 في فرنسا. وبما أن كميات كبيرة من الغذاء يتم تبذيرها على المستوى الأسري، فإن النساء يؤدين دوراً هاماً في الحد من تبذيره، وهي ظاهرة أقرت "منظمة الأغذية والزراعة الأممية" أنها بلغت مستويات مخيفة في منطقة الشرق الأدنى وشمال إفريقيا، والتي وصلت إلى حوالي 200 كيلوغرام للشخص الواحد في السنة. وتعتقد "الفاو" أن الطعام المهدور لو كان بلداً لكان ثالث أكبر مصدر لانبعاث غازات الاحتباس الحراري.

في كل عام ، نهدر 1.3 جيغا طن من الطعام الصالح للأكل، ما يؤدي إلى انبعاثات تقدّر بـ3.3 جيغا طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون (مع مراعاة تغير استخدام الأراضي).  هذا يعني أن كيلوغراماً واحداً من نفايات الطعام يعادل 2.5 كيلوغراماً من مكافئ ثاني أكسيد الكربون.

لم تكن حكمة النساء تقتصر فقط على التصرف في الطعام بل أيضاً تظهر من خلال استعمال الأواني أو "حاويات" الطعام الايكولوجية

 في بيوت أجدادنا: "لا شيء يضيع، كل شيء يتحول"

في الماضي، كانت الأسر في تونس أكثر تدبيراً من اليوم في التعامل مع الطعام وكانت تلجأ إلى التدوير "فلا شيء يضيع وكل شيء يتحول"، وفق الباحث في التراث عبد الستار عمامو. كان الاقتصاد والحكمة يبدآن من تحضير "المونة" أي المؤونة  أو "العولة" باللهجة التونسية المتداولة، فلا تضطر النساء إلى التسوق وشراء الكثير من مستلزمات تحضير الطعام في المطبخ طيلة السنة. وتحضير "المونة" يبدأ في فصل الصيف، حيث تتم عمليات التجفيف وتحضير "الكسكسي" و"العصبان" و"القديد" و"المحمصة".

وفي غياب أجهزة التبريد، كانت النساء اللواتي اعتدن النهوض في ساعات النهار الأولى يلجأن إلى تسخين "البايت" (أي ما تبقى من وجبة العشاء) لتحضير فطور يتم تناوله في العاشرة صباحاً، "فتتحول مرقة الخضار إلى "محمصة" و"مصلي الدجاج" إلى "معقودة" بعد إضافة القليل من البقدونس والبصل، وفتات اللحم المتبقية في المرق إلى "مبطن"، كما يروي عمامو.

خبرت التونسيات تدوير الأطعمة، فلم يكن يوجد إهدار مثلما هي الحال اليوم، كما يقول عمامو الذي أكد أن جدودنا كانوا يحاولون أن لا يضيع شيء في غياب وسائل التبريد مثل الثلاجات وغيرها، وطبعاً لأن كل الظروف الاقتصادية والإنتاجية والثقافية كانت مختلفة جداً.

تحدّث الباحث في التراث إلى "ميدفيمنسوية" شارحاً أن "إهدار الخبز يشكل معضلة  اليوم"، مستغرباً "كيف يلقي التونسيون أطناناً من الخبز في القمامة في حين يستمرون في شراء ما يسمى "مسحوق الخبز المحمص" لاستعماله في العديد من الأطباق؟"

الفرفوشة طبق تونسي صحي تستعمل فيه أوراق البسباس التي تلقى في القمامة عادة كنفايات خضراء

لم تكن حكمة النساء تقتصر فقط على التصرف في الطعام بل أيضاً تظهر من خلال استعمال الأواني أو "حاويات" الطعام الايكولوجية مثل أواني الفخار والطين مثل القلال  و"التبسي" (صحن فخار) و"القربة" التي تصنع من جلد الماعز وتحفظ فيها المؤونة مثل الكسكسي وغيره.

بحسب عبد الستار عمامو، كان التصرف في الماء أيضاً رشيداً وكانت النساء يحذقن التصرف فيه. فعلى سبيل المثال، كنّ يضعنَ قدراً من النحاس أو الألمنيوم المملوء بالماء فوق "طنجرة" الطبخ لتسخين الماء وإضافته للمرق أو لغسل الأواني وكان يسمى "التسخينة" وبالتالي كن يقتصدن في الطاقة. وكذلك، كانت مياه الرشح التي تتسرب تُجمع في "شقالة" توضع تحتها وتستعمل لري النباتات في المحابس.

بمقدور كل فرد أن يراجع اليوم خياراته لنوعية الطعام الذي يتناوله، فتكون نتيجة ذلك مصالحة للإنسان مع الطبيعة وخطوة لترميم ما أفسده البشر فيها

نحو نمط استهلاك مستدام

إذاً، أصبح إهدار المياه والطعام مسألة تسترعي الكثير من الاهتمام، لا سيما حين شعر العالم بوطأة الأزمة الاقتصادية وخيم خطر انقطاع إمدادات الاغذية والمنتجات الأساسية على العالم بعد أوباء كوفيد 19 والحرب الروسية على أوكرانيا واشتداد آثار التغيرات المناخية وموجات الجفاف. فهل سنكون في مأمنٍ من الجوع في السنوات القادمة؟

تهتم منظمة الأمم المتحدة والوكالات التابعة لها بمسألة إهدار الغذاء أكثر من ذي قبل في إطار أهداف التنمية المستدامة التي رسمتها الجمعية العامة للأمم المتحدة. ومن بين هذه الأهداف، الهدف 12 الذي يسعى إلى ضمان أنماط استهلاك وإنتاج مستدامة. ومن أجل الاستجابة لهذه التحديات في إطار القدرة الاستيعابية لمنظومة الأرض، بات اعتماد أنماط الاستهلاك والإنتاج المستدامة أمرا حتمياً، لأنها ستحفظ من خلال كفاءة استخدام الموارد أساس التنمية في المستقبل.

في هذا الإطار، أصدرت منظمة الأغذية والزراعة الأممية دليلاً للحد من الهدر الغذائي المنزلي، بعنوان "قل لا للهدر الغذائي"، سنة 2019. ويحتوي هذا الدليل على وصفات لتدوير بقايا الأطعمة واستغلالها الاستغلال الأمثل للحد من التبذير وبالتالي التقليل من انبعاث غازات الاحتباس الحراري التي تسببت اليوم بكوارث طبيعية في أرجاء الكون وباتت آثارها ملموسة في حيات كل فرد ومجموعة.

يمكن لكل فرد اليوم أن يحتسب بصمته الكربونية وهي مجموع الغازات الدفيئة (ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروز وغيرها) التي تنبعث في الغلاف الجوي بسبب نشاط ما يقوم به بشكل مباشر أو غير مباشر، لكن طبعاً، تبقى المسؤولية الأساسية على الشركات الكبرى وخططها البيئية.

لكن يمكن أن نبدأ باحتساب الكلفة البيئية للطعام الذي نتناوله والذي نهدره وذلك باللجوء إلى عدد من التطبيقات المتوفرة اليوم مثل Food Emissions Calculator  الذي بإمكانه إخبارنا عن كمية البصمة الكربونية لأي طعام سواء أكان معالجاً أو قائماً على اللحوم والألبان أو نباتياً.

بمقدور كل فرد أن يراجع اليوم خياراته لنوعية الطعام الذي يتناوله، فتكون نتيجة ذلك مصالحة للإنسان مع الطبيعة وخطوة لترميم ما أفسده البشر فيها.

Exit mobile version