نساء "فلسطين 87": تجاهلهنّ التاريخ فكرّمتهنّ السينما...

يتخطّى الشاب والشابة معاً حاجز الجسد ليلتحما في مشهد عناقٍ تتحوّل فيه الفتاة إلى أخت الشاب أو حتى أمه، ليتمظهر لنا وجهٌ من أوجه التكافل الاجتماعي في المجتمع الفلسطيني ومحوريّة دور النساء في صنعه خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى...

من المحبط لدى قراءة تاريخ الثورات والانتفاضات مُلاحظة كيف يتم تجاهل أدوار النساء وإسهاماتهنّ، حيث يتغاضى الكثير من المؤرّخين/ات عن تسليط الضوء على أعمالهن ووجهات نظرهنّ، لا بل تتم سرقة إنجازاتهن في بعض الأحيان. إثر هذا الاستنتاج، قرّر بلال الخطيب، وهو مخرج فيلم "فلسطين 87"، أن يحيي ذكرى نساء الانتفاضة الفلسطينية الأولى، أو ما يسمّى بـ"انتفاضة أطفال الحجارة" التي استمرّت خمس سنوات وقضى فيها الكثير من الضحايا الفلسطينيين.

شكّلت النساء مكوّناً فاعلاً ومحوريّاً خلال الانتفاضة الأولى، إذ كنّ في التحرّكات والمواجهات جنباً إلى جنب مع رجال وشبّان، يقفن وقفةً واحدة معهم ضد المحتل، فجاء الفيلم القصير من ثلاث عشر دقيقة، والذي حاز على جائزة "التانيت الذهبي" في مهرجان قرطاج السينمائي في دورته الثالثة والثلاثين، ليبرزَ دور هؤلاء النسوة وقيمة أعمالهنّ لئلّا تُمحى من ذاكرتنا البصرية.

ثلاث عشر دقيقة كانت كفيلة بالارتقاء بالمخرج إلى صفوف المخرجين/ات المؤثّرين الذي يمثّلون اليوم جيلاً جديداً من المخرجين/ات الفلسطينيين/ات من حاملي/ات القضيّة الفلسطينية الذين يتّبعون نظرةً سينمائية متحرّرة وتقدّمية ودائمة التحوّل تخليداً للقصّة الإنسانية ووفاءً لتبدّلاتها.

فيلم "فلسطين 87" يفوز بـ"التانيت" الذهبي بمهرجان أيام قرطاج السينمائية

هذه الأم الحاضنة هي نفسها التي نراها في الفيلم تنتقل لمواجهة المحتل وتوجّه إليه وابلاً من الشتائم...

فيلم "فلسطين 87" مستوحى من قصة حقيقية عاشها ولا يزال الشعب الفلسطيني بأكمله، وجد فيها المخرج نفسه في موقف مماثل للمشهد الافتتاحي للفيلم، في أيّام صباه. يجد بطل الفيلم نفسه في مزرعة، حيث يرى مجموعة من الشبّان الهاربين من قوّات الاحتلال فيفرّ ويصل معهم إلى بيت امرأة مسنّة أوتْهم جميعاً وخبّأتهم في حمّامها مع حفيدتها التي كانت تستحمّ.

وعن الرمزيّة الأقوى التي تتّسم بها مشاركة النساء في الفيلم، سأقتبس قولاً عن لسان المخرج الذي شرح أن المرأة المسنة تمثل كل الأمهات الفلسطينيات... فصحيح أنها كانت المرّة الأولى التي ترى فيها هذه المرأة المسنّة الشاب، أو بطل القصّة، غير أنها نادته "يا إمّي" أكثر من مرّة، وأوتْه في بيتها، ونزعت عنه ملابسه لتنشرها على حبل الغسيل، في حركاتٍ شديدة الرمزية تذكّر باحتفال الأمّهات الفلسطينيات بعودة أبنائهم إليهن أو إلى بيوتهن -وأرحامهنّ حتّى- حيث الدفء والأمان. لكن هذه الأم الحاضنة هي نفسها التي نراها في الفيلم تنتقل لمواجهة المحتل وتوجّه إليه وابلاً من الشتائم بل تجد نفسها في عراك جسدي معهم انتهى بالإلقاء بها على الأرض. وكما كتب محمود درويش:

"والأرض أنتِ
خديجة لا تغلقي الباب
لا تدخلي من إناء الزهور و حبل الغسيل
سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل
سنطردهم من هواء الجليل"

في الفيلم، يجد بطلنا نفسه في الحمّام مُجرّداً من ملابسه مع شابّة جميلة شبه عارية تطلب منه أن يشيح ببصره عنها، فيطأطئ رأسه احتراماً لها. ثم يدخل الجنود إلى الحمام فتقفز الشابة لتعانق الشاب بكل ما أوتيت من قوة، وتهمّ إلى تحميمه، فينسجم مع لعبتها هو ويدّعي أنه بالفعل يعاني من إعاقة بطريقة شديدة العفوية، فتستمر الفتاة باحتوائه وتصبح هي لسانه ويديه ورجليه في المواجهة مع المحتل. يتخطّى الاثنان معاً حاجز الجسد ليلتحما في مشهد عناق تتحوّل فيه الفتاة إلى أخت الشاب أو حتى أمه، ليتمظهر لنا وجهٌ من أوجه التكافل الاجتماعي في المجتمع الفلسطيني وتتجلّى محوريّة دور النساء في صنعه خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى.

من خلال هذه المشاهد والسينما التي تمثّل إحدى أقوى اللغات العالمية التي تخلّد الأحداث، تعود إلى الشاشة آلامُ النساء والشعوب ونضالاتهم، من منظور مُخرجي/ات الأجيال الرابعة والخامسة الذين لم ينسوا تاريخهم، فقرّروا نقله عبر قوالب روائية متجدّدة لقصّة لم تلقَ خواتيمها بعد، قوالب تذكّرنا بطموح واحد لم يتزحزح: الحريّة.

Exit mobile version