ما بين الآشورية والإسلام: "الحجاب سياسي في جوهره"

سبقَ ارتداءُ الحجاب أو ما يعرف بغطاء الرأس الإسلام وحتى اليهودية. استُخدم غطاء الرأس بدافع الضرورة في مجتمعات معيّنة، وللدلالة على التمايز الطبقي في مجتمعات أخرى، وللإخضاع الجندري في حالات كثيرة، وللاحتجاج أيضاً... في هذا المقال، غوصٌ في الحجاب، ودلالاته الكثيرة، وتاريخه المتشعّب.

بقلم مناهل السهوي- صحافية سورية

قد يبدو الحجاب أو غطاء الرأس للبعض مرتبطاً بشكل أساسي بالدين الإسلامي، لكن عودة سريعة إلى حقبات غابرة من التاريخ تجعلنا ندرك أن الحجاب أو غطاء الرأس بدأ مع ظهور أولى المجتمعات الأبوية ليتحوّل هذا الغطاء مع الوقت إلى طريقة لإخضاع النساء أو السيطرة عليهن وتمييزهن عن الرجال.

إذا كان ظهور الحجاب كدليل على تقوى النساء وسبيل للحفاظ على ما سُمّي بـ"شرفهن" بدأ مع انتقال الإنسان شيئاً فشيئاً من المجتمعات الأمومية -التي كانت تضع النساء في مكانة عالية- إلى المجتمعات الأبوية، فهذا يعني أن وجوده ارتبط بأهداف أبعد من التنشئة الأخلاقية أو الدينية، اتّصلت بشكل وثيق بالإخضاع الجندري وشكّلت لنا إحدى طرق تفسير الوجود التاريخي الطويل للحجاب كإثبات آخر لمحاولات الرجال الدائمة التحكّم بأجساد النساء.

الحجاب عبر التاريخ

سبق ارتداء الحجاب أو ما يعرف بغطاء الرأس الإسلام وحتى اليهودية. استُخدم غطاء الرأس بدافع الضرورة في مجتمعات بلاد ما بين النهرين لحماية رؤوس الناس من المطر، وذُكِر غطاء الرأس لأول مرّة في القانون حوالي القرن الثالث عشر قبل الميلاد، في نصّ آشوري قديم يفرض على النساء والبنات والأرامل تغطية رؤوسهن كدليل على التقوى، كما أن الحجاب كان ممنوعاً على النساء من الطبقات الدنيا وعلى مَن كنّ يقدّمن ممارسات جنسية لقاء بدل. وكانت النساء اللواتي يرتدين الحجاب بشكل غير قانوني يُعاقبن بالإذلال العلني أو الاعتقال.

اليوم، ما زال غطاء الرأس منتشراً في كل أنحاء العالم. ترتدي الراهبات في المسيحية غطاء الرأس الذي يغطي الشعر والرقبة بشكل كامل أو الذي يسمح لبعض شعر الرأس بالظهور، ولا يزال العديد من المسيحيين الأرثوذكس يلتزمون بتغطية رؤوسهم بالوشاح أو الحجاب عند الحضور إلى الكنيسة. في اليهودية، ذُكِر الحجاب في التلمود البابلي، وكان يُعد تجاوزاً خطيراً خروج المرأة المتزوجة برأسٍ مكشوف. والتلمود هو النص الأساسي للتشريعات والعقيدة اليهودية. حتى اليوم ترتدي النساء المتزوجات غطاء رأس من وشاح أو قبعة أو شعر مستعار كعلامة على خضوعهن لله.

مع ظهور المجتمعات الإسلامية وتطوّرها، أصبح ارتداء غطاء الرأس الذي قد يخفي الوجه أو لا يخفيه، يدل على مكانة نساء الطبقة العليا بهدف عرض ثروة أزواجهن، لأنه من غير العملي للمرأة أن ترتدي الحجاب أثناء العمل -غالباً في الحقول الزراعية-  فكانت صورة المرأة المحجبة تنقل فكرة أن وضع زوجها المادي جيّد لدرجة أنها لا تحتاج إلى العمل لمساعدته في تأمين دخل أسرتهما. لاحقاً، في العصور الأحدث، تم تفسير آيات القرآن عن الحياء وغطاء الرأس بطرقٍ مختلفة حيث اعتبر البعض غطاء الرأس إلزامياً والبعض الآخر رآه كخيار. واختلفت أشكال تغطية الرأس بين الحجاب والنقاب والشادور الذي يغطي كامل الجسم.

"إذا كانت حقوق المرأة تمثّل مشكلة لبعض الرجال المسلمين المعاصرين، فليس ذلك بسبب القرآن أو النبي أو التقاليد الإسلامية، ولكن ببساطة لأن هذه الحقوق تتعارض مع مصالح النخبة من الذكور"

الرابط بين الحجاب والسياسة

لو نظرنا في الوقت الحاضر إلى انتشار الحجاب وأشكاله، لأدركنا أن النُظم السياسية والجغرافية والعرقية تؤدي دوراً كبيراً ومحورياً في كيفية اختيار النساء تغطية رؤوسهن، وما إذا كان ذلك ممكناً. على الرغم من أن التفسيرات تختلف في ما إذا كان الحجاب فرضاً أما لا، إلا أن معظم المجتمعات العربية ترى في الحجاب أداةً لدرء شهوة الرجال وعدم إثارة غريزتهم الجنسية.

تمرّد المرأة والذاكرة الإسلامية

في كتابها "تمرّد المرأة والذاكرة الإسلامية"، تقول الكاتبة المغربية فاطمة المرنيسي إن الحجاب فرض سياسي وليس أخلاقي في العالم العربي، هدفه إبعاد الجماهير عن إثارة قضايا الديمقراطية وحرية المشاركة في المجال الاجتماعي والسياسي، لذلك، فإن "الحجاب سياسي في جوهره". على سبيل المثال ولفهم ارتباط الحجاب بالسياسة، كان في السعودية تطوّرُ الانتقال من النقاب إلى الحجاب بطيئاً، فهل تساءلت يوماً لمَ ذلك؟ ولمَ لمْ تحصل نقلة سريعة في شكل الحجاب على غرار دول الخليج الأخرى؟

يعود التحوّل البطيء في السعودية من النقاب إلى الحجاب لأسباب سياسية، إذ إنه وبسبب التحالفات الاستراتيجية بين القبائل التي كانت نواة ولادة الأمة في عام 1932، كان على الدولة استرضاء المتديّنين أو الوهابيين، ما خلق وضعاً فريداً وإصراراً على جعل الحجاب جزءاً ممّا تفرضه الدولة القومية. وقبل ظهور الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، كانت المملكة العربية السعودية الدولة المسلمة الوحيدة التي فرضت الحجاب بشكل قانوني، مع الإشارة إلى  أن الحجاب ليس ممارسة متجانسة وله ألوانه المختلفة التي تتغيّر مع المناطق الجغرافية. ففي الريف السعودي مثلاً، لا تحجب النساء وجوههن، ربما بسبب صعوبة العمل مع وجود النقاب، وهذا ما ينطبق على معظم المناطق الريفية في العالم العربي.

الحجاب والنظام الأبوي

بالعودة إلى المرنيسي، تختصر المُفكّرة في كتابها "الحجاب والنخبة الذكورية"، الرابط بين الحجاب والسلطة الأبوية وتقول: "إذا كانت حقوق المرأة تمثّل مشكلة لبعض الرجال المسلمين المعاصرين، فليس ذلك بسبب القرآن أو النبي أو التقاليد الإسلامية، ولكن ببساطة لأن هذه الحقوق تتعارض مع مصالح النخبة من الذكور".

هناك إذاً صلة قوية بين السياسة والأصولية والنظام الأبوي، إذ إن جميعها يعمل على حرمان المرأة من حق الاختيار وتقرير المصير، وهكذا، يبدو أن إلقاء اللوم على الدين الإسلامي ليس دقيقاً مائة في المائة. في كتاب "الحجاب: كاتبات في تاريخه وعاداته وسياساته" والذي يجمع مقالاتٍ لأكثر من عشرين كاتبة حول العالم، محاولة لمعالجة فكرة الحجاب من زوايا متعدّدة، سياسية واجتماعية ودينية. في مقال "قواعد اللباس وأنماطه: ما مدى إسلام الحجاب؟" المنشور في هذا الكتاب، تقول عائشة لي فوكس شهيد: "يجب أن تبدأ النقاشات المعاصرة حول الحجاب بالسياسة بدلاً من اللاهوت، حيث تعمل كل من الجماعات على مستوى الدولة والجماعات غير الحكومية على تعزيزها، بخاصة السياسية منها، من خلال ممارسة السيطرة على ملابس الناس باسم الدين والثقافة والأصالة". وبحسب شهيد، ترتبط سياسات اللباس هذه ارتباطاً وثيقاً بالحركات الأصولية التي نشأت لحماية النظام الأبوي الراهن. وعلى الرغم من أن هذه الحركات الرجعية يبدو أنها تتبنى نوعاً أصولياً من الإسلام، إلا أنه في الحقيقة، ليست هذه الحركات دينية، بل بالأحرى هي حركات سياسية تتخفى خلف الحجاب الديني، وفق الكاتبة.

من خلال جعل النشاط الجنسي الأنثوي أمراً خطيراً على المجتمع، يمكن السيطرة على إمكانيات المرأة، وهذه الاستراتيجية ما هي إلا رد فعل عنيف ضد التهديد الذي يمثله تمكين المرأة على مكانة الرجل المهيمنة في النظام الاجتماعي ككلّ. وفي هذا الإطار تقول شهيد: "المرأة لا تواجه الرجل ككائن على قدم المساواة، إنها تواجهه ككائن مختلف جوهرياً يجب أن يُعطى اختلافه رمزاً (حجاب) لعدم المساواة".

في البلدان العربية، يؤثر الحجاب الإسلامي بشكل مباشر وغير مباشر على الطوائف الأخرى. فتقول ريتا ستيفان في هذا السياق، في مقالها "الفضيلة والخطيئة: منظور المرأة العربية المسيحية"، إنّ "معظم النساء المسيحيات في سوريا لا يرتدين الحجاب، لكنهن يعشن في ظل قيود اجتماعية مختلفة يمكن أن تعمل بشكل أو بآخر كالحجاب". إذاً، وكما تقول فاطمة مرنيسي، "الحجاب ليس قطعة ملابس بقدر كونه محواً رمزياً لوجود المرأة في المجال العام".

وعن الحجاب أيضاً، تقول الباحثة مارنيا لازريغ في كتابها "سؤال الحجاب: رسالة مفتوحة إلى النساء المسلمات"، إن العديد

سؤال الحجاب: رسالة مفتوحة إلى النساء المسلمات

من النساء يرتدين الحجاب كدليل على التزامهن بالإسلام، على غرار الطريقة التي يرتدي بها المسيحيون الصلبان أو الرجال اليهود الذين يرتدون اليرملك (القلنسوة)، ومع ذلك، تتساءل لازريغ عن سبب كون تغطية المرأة لنفسها هي الطريقة الوحيدة التي يمكن للمرأة المسلمة أن تثبت فيها تقواها. بدلاً من ذلك، تقترح لازريغ ألا يقتصر التعبير الديني للمرأة على قطعة من الملابس، لتوصل فكرة مفادها أنه لا يتم اضطهاد النساء من قبل الحجاب نفسه، لأن المؤسسات الأبوية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية هي من تحرمهن من حقوقهن في الحقيقة.

من جهة أخرى، إذا كان الحجاب نوعاً من الاستعباد للجنس الأنثوي في البلدان الإسلامية في ظل الحكم الأصولي والمتشدّد، فهذا الاستعباد المستمد من الحكم الأصولي نراه ينتقل إلى الدول الأوروبية التي نعتقد أنها تحترم حقوق النساء، إلا أن الحقيقة تظهر لنا كيف أن النظام الأبوي يحاول السيطرة على أجساد النساء بطرق مختلفة، مثل تقييد الحقوق الإنجابية في ظل الأصولية المسيحية في العديد من البلدان الغربية -كمنع الإجهاض الآمن- ما يسمح لتجارب النساء المشتركة مع الاضطهاد على يد الأصولية الأبوية أن توفّر أرضية مشتركة لتحركهن ضد أوضاعهن الراهنة.

إذا كان الحجاب نوعاً من الاستعباد للجنس الأنثوي في البلدان الإسلامية، فهذا الاستعباد المستمدّ من الحكم الأصولي نراه ينتقل إلى الدول الأوروبية التي نعتقد أنها تحترم حقوق النساء...

الحجاب كأسلوب احتجاج

عام 1786، مع بداية الاستعمار الإسباني للويزيانا، سُنّت قوانين Tignon التيغنون، التي تتطلب من النساء السود وذوات الأعراق المختلطة لفّ رؤوسهن بقطعة قماش لتمييزهن عن النساء القادمات من الخارج. وكان الغطاء عبارة عن قطعة قماش كبيرة تربط أو تُلف حول الرأس. تذكر المؤرخة فيرجينيا م. جولد أن هذا القانون كان يعتقد بأنه يمنع النساء من الطبقات الدنيا من التحرّر ومنافسة النساء من الطبقات الأعلى، وبالتالي، يوقف هذا التهديد الاجتماع المفترض بين الفئتين. لكن وبدلاً من أن يصبح التيغنون دليل عار، أصبح زيّاً أنيق وحديثاً، إذ تفننت النساء في استخدام الألوان البراقة وأنواع القماش الجميلة وابتكرن طرق للفّ الأقمشة على رؤوسهن بطرقٍ جذابة عززت من جمالهن! باختصار، هزمت النسوة ذوات الأصول الأفريقية القانون دون كسره.

أما في العصر الحديث وتحديداً في سبعينيات القرن الماضي، بدأت مجموعة أمّهات "بلازا دي مايو"، وهي مجموعة من النساء الأرجنتينيات اللواتي طالبن بمعرفة حقيقة مصير أطفالهن المخفيين قسراً خلال "الحرب القذرة" التي شنّها النظام الديكتاتوري حينها، من خلال ارتداء الحجاب الأبيض المربوط تحت الذقن، والمعروف باسم "بانويلو"، كرمز للوحدة وإشارة إلى حفاضات القماش التي كانت النساء تستخدمها لرعاية أطفالهن. كانت أمهات "بلازا دي مايو" من أوائل المعترضين على انتهاكات حقوق الإنسان، وكان دورهن فاعلاً جداً حينها، إذ أسسن قوة غير متوقعة بهدف معارضة القيود التقليدية المفروضة على النساء والأمومة في أميركا اللاتينية.

اليوم، تشكّل ثورة النساء الإيرانيات ضد الحجاب القسري فصلاً من الحكاية الطويلة لغطاء الرأس، وهي ليست مجرد ثورة منفصلة عن رحلة استخدامات الحجاب الكثيرة من قبل السلطة البطريركية بأشكالها المختلفة. ثورة الإيرانيات بدايةٌ قوية لهزّ بطش النظام الأبوي القائم أساساً على إضعاف النساء وتكبيلهنّ بقيود كثيرة... ليس آخرها الحجاب.

Exit mobile version