تأملات نسويـة في المسيرة السينمائية للمخرجة المصريّة كاملــة أبو ذكري

في هذه القراءة نمعن النظر في مسيرة كاملة أبو ذكري السينمائية، ونتتبع أفلامها الروائية الطويلة على وجه التحديد، في محاولة لاستكشاف وتفحص الكيفية التي استطاعت بها أن تحقق نجاحاً جماهيرياً وتتصدر الصفوف في مجال الإخراج الذي يسطو عليه الرجال بإنتاج سينمائي في معظمه لا يهادن الثقافة المجتمعية الذكورية

كاملة أبو ذكري

بعد نحو 14 عاماً من العمل كمخرجة مساعدة وإخراج فيلم قصير بعنوان "قطار الساعة السادسة"، قدمت كاملة أبو ذكري فيلمها الروائي الطويل الأول في عام 2004، لتستقبل الساحة السينمائية المصرية مخرجة واعدة في وقت هيمن فيه الرجال على نحو شبه مطلق على الإخراج السينمائي في مصر، إذ خلت قائمة المخرجين الأكثر نشاطاً آنئذٍ من أي اسم نسائي باستثناء إيناس الدغيدي، بعد أن ابتعدت المخرجة نادية حمزة عن السينما مع بداية الألفية الثالثة.

سطع نجم كاملة أبو ذكري في سماء السينما المصرية سريعاً وأضحى اسمها واحداً من أهم الأسماء في مجال الإخراج في السينما الناطقة بالعربية، على الرغم من أن إنتاجها السينمائي منذ عام 2004 وحتى الآن لا يتجاوز ستة أفلام، خمسة منها روائية طويلة وفيلم واحد قصير بعنوان "خلقة ربنا" صدر ضمن مجموعة أفلام روائية قصيرة تحت اسم "18 يوم"، تتناول قصصاً إنسانية مختلفة تدور أحداثها خلال أيام الموجة الأولى لثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2011.

لم يثن إنتاج أبو ذكري القليل المراقبين والمهتمين بالتوثيق السينمائي عن وضعها في مكانة متقدمة بين المخرجين الذين عرفتهم السينما المصرية خلال ما يزيد عن 120 عاماً، بخاصة أنها استطاعت أن تجمع بين النجاح الجماهيري والإشادة النقدية والاحتفاء السينمائي المحلي والإقليمي والدولي. ويجدر بالذكر أن فيلمها "واحد صفر" نجح في أن ينتزع أكثر من 40 جائزة من مهرجانات محلية ودولية خلال عام واحد فقط.

يزداد اسم كاملة أبو ذكري بريقاً عند الحديث عن التوجه النسوي في الدراما، فعادة ما يُدرج اسمها ضمن المخرجات والمخرجين الذين يطّوعون النصوص الدرامية  بما يملكونه من أدوات إخراجية لسبر المنظومة القيمية الذكورية وخلخلة القناعات الأبوية السائدة، وقد بدا ذلك أكثر وضوحاً في أعمالها الدرامية التلفزيونية، مثل مسلسلات "ذات"، و"سجن النسا" و"واحة الغروب" و"بطلوع الروح".

لكننا في هذه القراءة نمعن النظر في مسيرة كاملة أبو ذكري السينمائية، ونتتبع أفلامها الروائية الطويلة على وجه التحديد، في محاولة لاستكشاف وتفحص الكيفية التي استطاعت بها أن تحقق نجاحاً جماهيرياً وتتصدر الصفوف في مجال الإخراج الذي يسطو عليه الرجال بإنتاج سينمائي في معظمه لا يهادن الثقافة المجتمعية الذكورية، بل تتوفر في بعضه عناصر شكلية وضمنية تختص بها السينما النسوية (Cinefeminism).

"سنة أولى نصب".. بدايـــة نمطيـة تغازل "شباك التذاكر"

فيلم «سنة أولى نصب» هو باكورة إنتاج المخرجة كاملة أبو ذكري السينمائي، وقد استقبلته دور العرض في مصر مطلع عام 2004، وقد جاء الفيلم متسقاً مع ما ساد خلال السنوات الأولى للألفية الثالثة حين ظهر ما يسمّى بـموجة السينما الشبابية في أعقاب النجاح الاستثنائي لفيلم "إسماعيلية رايح جاي" في صيف عام 1997، لتصبح الغلبة من بعده للأفلام ذات القصص الهزلية الأقرب إلى "السطحية" التي تعتمد بشكل أساسي على الممثلات والممثلين الشباب، مع شريط صوت تملؤه الأغاني ذات الإيقاع السريع فيما يشبه "الفيديو كليبات" المُقحمة.

فيلم سنة أولى نصب

كل ما سبق يتوفر في "سنة أولى نصب"، فالفيلم يضم أبطالًا من الممثلين والممثلات الصاعدين في ذلك الوقت كالممثل والمغني خالد سليم والممثل أحمد عز، بالإضافة إلى ممثلتين شابتين تتمتعان بالمواصفات المحددة سلفاً من المجتمع لــلنساء المستحقات للوصف بالجمال والجاذبية وهما داليا البحيري ونور، كما يرتكز الفيلم على قصتي حب خياليتين ومترعتين بالمبالغات، وتملؤه مشاهد مشحونة بالكليشيهات والمواقف الهزلية، ويرافق كل ذلك حزمة من الأغاني للبطل الذي تجتمع فيه صفتا الممثل والمغني.

يلبي "سنة أولى نصب" الشروط التي وُضِعَت للفيلم الجاذب للجمهور وقتئذٍ وهو كما الأعم الأشمل من أفلام هذه الفترة ذكوري الهوى مضموناً وصورةً، فالفيلم يبدأ بمشهد تأسيسي تتجول خلاله الكاميرا في شوارع القاهرة العتيقة، بينما يسمع المشاهدات والمشاهدون صوتاً ذكورياً في الخلفية، يبحث عن البطلين حتى يظهرا على الشاشة ويعلنا عملهما بالنصب للتخلص من البطالة، بما يشي أنهما المحرك الرئيس للأحداث وهو ما تثبت صحته لاحقاً.

لكن ثمة شيء إيجابي بدأت كاملة أبو ذكري العمل عليه في هذا الفيلم ثم تمسكت به خلال مسيرتها، وهو إحاطة نفسها بأكبر عدد ممكن من النساء في مواقع صناعة العمل الرئيسة خلف الشاشة، كإدارة التصوير والمونتاج والتأليف وتصميم الملابس، وقد تعاونت في هذا الفيلم مع عددٍ لا بأس به من النساء. فقد اضطلعت بالتأليف الممثلة سميرة محسن وهي أيضاً منتجة الفيلم من خلال شركة أفلام الزمن الجميل، وقامت بأعمال المونتاج دينا فاروق التي شاركت أبو ذكري بعد ذلك في فيلمي "ملك وكتابة" و"عن العشق والهوى"، بينما نفّذت مونتاج النيجاتيف ليلى فهمي التي شاركت أبو ذكري أيضاً في فيلم "ملك وكتابة"، وصممت تترات الفيلم ليلى فخري.

"ملك وكتابة".. أول الغيث لنسق سردي نسوي

تأتي تجربة كاملة أبو ذكري السينمائية الثانية أكثر نضجاً على مستويات عديدة، ورغم أن المشاركة النسائية في صناعة "ملك وكتابة" لم تكن كبيرة كتجارب أخرى لها، فقد نجحت في أن تصنع فيلماً ذا انحيار نسوي يبطن احتجاجاً على الأيديولوجية الذكورية التقليدية، وذلك على النقيض تماماً مع ما خرج عليه أول أفلامها، وفي أغلب الظن يعود ذلك إلى أن ميزان القوة في "سنة أولى نصب" ترجحه كفة سميرة محسن منتجة الفيلم ومؤلفته التي على خلاف أبو ذكري التي تقدم عملها الأول للسينما، كانت تقدم رابع نص سينمائي لها، فضلًا عن السلطة التي تتمتع بها كمنتجة لفيلم يتوافق مع مقاييس الأفلام القادرة على تحقيق الإيرادات، في بلد تعد صناعة السينما فيه مصدراً من مصادر الدخل القومي.

يناقش «ملك وكتابة» بين أمور عدة مسألة إعادة النظر في فكرة رسوخ المبادئ والتجرأ على تغيير ما اعتاد عليه الإنسان، وتخادعنا بدايته بما يجعلنا نتصور أن الرجل هو محرّك العلاقات، سواء في علاقة محمود أستاذ التمثيل بالمعهد العالي للفنون (يؤدي دوره محمد حميدة) بزوجته، أو في علاقة هند (تؤدي دورها هند صبري) بصديقها الحميم المصور الفوتوغرافي الذي يتسم بالبوهيمية، قبل أن يتبين أن تصديق محمود لسيطرته التامة على علاقته بزوجته (تؤدي دورها عايدة رياض) ما هو إلا وهم، فقد خرجت الزوجة عن الخط الباهت الرتيب المرسوم بيد زوجها، وصنعت لنفسها حيـاة سرية بديلة تحقق لها الانطلاق العاطفي والجسدي الذين تفتقدهما معه. كما يفاجأ صديق هند الحميم (يؤدي دوره خالد أبو النجا) بأنها قد قررت الانفصال عنه بشكل نهائي، بعد أن سئمت أنانيته وغروره وإصراره على تحديد شكل علاقتهما منفردًا طبقاً لأهوائه.

ومع تصاعد الصراع وتشعب التفاصيل، يتضح أن هند هي المحرك الفعلي لكل ما يجري، وأنها العامل الرئيس في تدافع التفاعلات داخل الشخصيتين الذكوريتين بما يضفي حيوية على كل منهما ويغيّر نظرتهما إزاء الحياة، فالأستاذ محمود الصارم الذي لم يكن يرى الحياة سوى بعين ضيقة تنوعت زوايا نظره وتوسعت مداركه، وذلك بفضل دخول هند إلى حياته كما لو كانت وميضاً في العتمة. في الوقت ذاته، يقود خروج هند من حياة حبيبها إلى تغيير نظرته إزاء نفسه وخياراته وعلاقته بها.

و تترجم كاملة أبو ذكري هذه التفاصيل بلغة سينمائية جريئة وواعية، ولعل أحد أكثر المشاهد التي تجسد فيها ذلك بصرياً، هو المشهد الذي يجمع هند والدكتور محمود على شاطئ البحر في الإسكندرية، حيث تتحدث إليه جالسة على إحدى الصخور المرتفعة بينما يقف هو بجوارها ينظر إليها من زاوية منخفضة، في إرهاصة مرئية للمكانة التي ارتقت إليها في حياته التي تكاد تكون أقرب إلى القيادة.

من ناحية أخرى، نجحت أبو ذكري إخراجيًا في أن تقدم الشخصية النسائية الرئيسة في "ملك وكتابة" معادلًا موضوعياً للمقاومة والقوة والشغف، إذ تبدو هند أكثر اتساقاً مع ذاتها وقدرةً على مغالبة الحياة من الشخصيتين الذكوريتيين الرئيسيتين، فلا شيء يطفئ مقاومتها رغم كل المعوقات التي تعترض طريقها كواحدة من اللاتي اخترن الاستقلال عن أسرهن بحثًا عن الاستقلالية الذاتية وسعيًا وراء أحلامهن التي تتعارض مع التوقعات الذكورية تجاه النساء.

عن العشق والهوى... الحضور النسائي الكثيف لم يبدّد قوة القلم الذكوري

استقبلت دور العرض السينمائي ثالث أفلام المخرجة كاملة أبو ذكري في يونيو من عام 2006 أي خلال موسم الصيف، الموسم السينمائي الأهم والأكبر للإيرادات في مصر وقتذاك، ولذا فإن فيلم "عن العشق والهوى" هو الأكثر جماهيرية وشعبية بين أفلامها الخمسة الطويلة، ويعود ذلك بشكل أساسي إلى نجومية أبطال العمل خاصة في تلك الفترة الزمنية، وفي مقدمتهم أحمد السقا ومنى زكي ومنة شلبي.

يجمع الفيلم شخصيات عديدة تتشابك مصائرها وتتداخل تحت مظلة واسعة عنوانها هو الحب العاطفي، وهو نمط من القصص يفضله مؤلف الفيلم تامر حبيب الذي تميل إليه كفة ميزان القوة بحكم نجاح تجاربه السابقة جماهيرياً. وبيقين لا غبار عليه، تفوح رائحة قلم تامر حبيب في معظم مشاهد "عن العشق والهوى" الذي تتحدث شخصياته بلغة غير مألوفة للعموم، عادةً ما تتسم بالانقياد العاطفي، فضلًا عن انتماء أكثريتها إلى الطبقة الأرستقراطية العليا.

يقدم الفيلم أربع شخصيات نسائية هي عاليا (تؤدي دورها منى زكي)، وسلمى (تؤدي دورها منى شلبي) وفاطمة (تؤدي دورها غادة عبد الرازق) وقسمت (تؤدي دورها بشرى)، وتتسم الشخصيات النسائية – في ما عدا فاطمة -  بالاعتمادية والتبعية لرجل ما، ومع أن شخصية عاليا تكاد تكون الأكثر دينامية وانسيابية بين الشخصيات النسائية، إلا أنها في كل المراحل تظل امرأة شاغلها الشاغل هو مجاورة رجل لها، وبسبب خسارتها لحبيبها الأول تورط نفسها في علاقة سامة مع جارها مدمن المخدرات رغم أنها لا تبادله الحب ولا تثق فيه، وحتى بعد أن يخرج هذا الشخص من حياتها تمامًا بوفاته في حادث سير وتصطدم بحقيقة أن حبيبها الأول قد تجاوز علاقتهما واقترن قلبه بامرأة أخرى، يدخل إلى حياتها رجل ثالث ليكون المنقذ من الماضي بكل تعاسته.

جل الشخصيات النسائية وقصصها تبدو مألوفةً في إطار النسق الذي يعتمده المؤلف تامر حبيب في رسم وبناء شخصياته السينمائية والتلفزيونية على حد سواء، إلا أنها لا تتواءم وعالم كاملة أبو ذكري السينمائي متمثلًا في "ملك وكتابة" أو "واحد صفر" أو "يوم للستات"، أو التلفزيوني الذي يضم أعمالًا مثل "ذات" و"سجن النساء"، ومعالجتها الدرامية لرواية "واحة الغروب" التي حوّلتها من نص مكتوب - في نظر كثير من نقاده-  يحتفي بالذكورة إلى نص مرئي يسخر من الذكورية المتحكمة في العقول.

"واحد صفر"...  رؤية تمردية للحياة في مدينة غارقة في ذكوريتها

رابع أفلام كاملة أبو ذكري هو "واحد صفر" الذي استقبلته دور العرض الجماهيري في مصر في آذار/مارس من عام 2009، وهو أفضل أفلامها السينمائية على صعيد السرد النسوي، وهو بالمقارنة مع أفلامها السابقة الأكثر تمكيناً للنساء خلف الكاميرا. فإلى جانب المؤلفة مريم نعوم، يحظى الفيلم بمشاركة المونتيرة منى ربيع ومديرة التصوير نانسي عبد الفتاح ومصممة الملابس داليا يوسف ومديرة الإنتاج أمل أبو شادي (ممثلةً لجهاز السينما)، والمونتيرتين المساعدتين دارين حمدي وهبة عثمان.

 

"واحد صفر" فيلم إنساني بالدرجة الأولى يستعرض واقع المصريين الذي أنهكتهم الظروف المعيشية وأثقلتهم الضغوط المجتمعية مما يضطرهم إلى التحايل على الحياة ليمر كل يوم فيها بأقل خسائر ممكنة، إلا أن أبلغ ما في هذا الفيلم من منظور نسوي هو الغوص في أعماق الشخصيات النسائية التي بدت شديدة الواقعية، والتنقل بسلاسة بين العوالم الداخلية والخارجية لهذه الشخصيات، بما يجلي حجم الصراع الذي تعيش تحت وطأته النساء المصريات مهما اختلفت مساراتهن وتباينت طبقاتهن.

وقد وفرت أبو ذكري مساحة مرئية وافية لإبراز تعقيدات وتناقضات الشخصيات النسائية الأربع الرئيسة والإحباطات التي تحيط بكل منها، رغم أن أحداثه تدور في يوم واحد فقط وهو اليوم الذي تنتهي أحداثه بفوز مصر على الكاميرون في المباراة النهائية لبطولة كأس الأمم الأفريقية في دورة عام 2008 بنتيجة واحد صفر.

"واحد صفر " هو أكثر أفلام أبو ذكري توغلًا في فضاء العنف ضد النساء ومصادر القهر وتشابكها، فقد تناول العنف في إطار العلاقات الخاصة لا سيما ذلك الذي يمارسه الشريك الحميم، كما في حالة نيفين (تؤدي دورها إلهام شاهين)، المرأة مسيحية التي عانت خلال حياتها الزوجية، ثم عانت حتى تحصل على الطلاق الكنسي، وتستمر معاناتها من أجل نيل تصريح من الكنسية الأرثوذكسية للزواج ثانيةً، بينما تواجه خذلان شريكها الحميم الذي يرفض خوض غمار هذه المعركة معها.

الشريك الحميم هو أيضاً مصدر من مصادر العنف التي تستهدف نادية أو نينا (تؤدي دورها زينة)، وهي فتاة قررت الخروج من شرنقة الفقر والعوز بالرضوخ إلى استغلال أحد المنتجين لها جسدياً وجنسياً، نظير أن تصبح مغنية من مغنيات "الفيديو الكليب" الشهيرات.

في المنحى ذاته، تكابد العنف في المجال الخاص شخصية هدى (تؤدي دورها انتصار) التي تعمل كحفّافة لتوفير القوت لها ولابنها الشاب الذي يتسم بالأنانية والغلظة، وتجمعه بها علاقة مضطربة تزخر بالعنف أقوالًا وأفعالًا.

الشخصيات النسائية الأربع تعاني من عنف يمارسه ضدها أصحاب السلطة، سواء كان مصدرها الدين أو العمل أو الانتماء إلى جهة إنفاذ القانون، أو حتى لو كانت سلطة منحها الأفراد لأنفسهم كرقباء على الاَخرين وسلوكياتهم، ونجاح أبو ذكري الأكبر يتمثل في قدرتها على نقل مشاعر القهر التي يعايشها هؤلاء النسوة من خلال إدارة متميزة للممثلات من ناحية وصورة فيلمية ساحرة في واقعيتها من ناحية أخرى، حيث تتنقل بعدستها بين لقطات ضيقة وواسعة تنطق فيها الوجوه بالكثير من المشاعر المختلطة والمتدفقة داخل كل امرأة منهن، بالتوازي مع تكثيف الدلالات البصرية السجن المعنوي الذي تعيش خلف قضبانه أرواحهن وأجسادهن.

فيلم واحد صفر

ويعد واحداً من أهم مشاهد الفيلم على المستويين البصري والحواري، هو ذلك الذي يجمع نيفين بمحاميها بعد أن رفضت الكنيسة التصريح لها بالزواج الثاني وأعطته في المقابل لزوجها السابق، إذ يتبين أن القوانين القائمة مكنّت الرجل فقط من الزواج ثانية وحرمت المرأة من الحق نفسه، رغم أنها المتضرر الفعلي من رجل قاست معه لسنوات، وهجرها لسنوات أخرى وزادت عليها سنوات إضافية في محاولات مستمرة للحصول على الطلاق، وبعد كل ذلك يتعذر عليها أن تبدأ حياة جديدة مع رجل اَخر لأنها من طلب الطلاق، بذريعة أنها "من فرّق من جمعهما الرب"، وقد برز الصليب في هذا المشهد إلى جانب البطلة يدخل ويخرج من الكادر متسقاً مع حديث البطلة عن معاناتها ومخاوفها وهواجسها.

كان "واحد صفر" أول فيلم مصري يعالج سينمائياً أزمة الطلاق والزواج الثاني كحق لا تملكه النساء المسيحيات، مما عرّض الفيلم إلى موجة غضب واسعة من جانب قطاع من المسيحيين، بلغت حد إرسال عدد من المحامين خطابًا إلى رئيس الوزراء ووزير الثقافة يطالبونهما بمنع عرض الفيلم، متهمين صناعه بالتحريض على ازدراء قوانين المجمع المقدس والتعرض لطقس الزواج المسيحى بالإساءة، إلا أن الفيلم تجاوز حالة الغضب واستمر عرضه بدور العرض وطاف مهرجانات سينمائية عديدة.

تتوق الشخصيات النسائية الأربع في "واحد صفر" إلى التحرر والانعتاق معنوياً ومادياً، فشخصية نيفين تتطلع إلى التحرر من قيود دينية تحرمها من حقها في حياة أسرية،  بينما تحلم نينا بالتحرر من السلاسل الذهبية التي يطوقها بها المنتج الذي قرر أن يقايضها على المال والشهرة مقابل استغلاله لها جسدياً وجنسياً. أما ريهام التي ترتدي الخمار ولا يمس وجهها أي مستحضر تجميل تحفظًا تكبح جماح أي رغبة داخلها في التحرر من قطع القماش الطويلة التي تخفي ملامح جسدها وتضعضع أنوثتها انصياعًا للبيئة المحيطة، كما تُخمِد هدى رغبتها في تحرير روحها من القمع وجسدها من الكبت.

فيلم "يوم للستات"... تجسيد سينمائي لمناورات النساء ضد السلطة الأبوية

في "يوم للستات" الذي بدأ عرضه الجماهيري في شهر كانون الأول/ديسمبر من عام 2016، يحضر اسم المؤلفة هناء عطية في ثاني تجاربها السينمائية بعد فيلم "خلطة فوزية"، واسم الممثلة إلهام شاهين بطلة الفيلم كمنتجةً له، ونانسي عبد الفتاح مديرةً للتصوير في ثاني تعاون مع أبو ذكري بعد "واحد صفر"، ويأتي اسم مي ممدوح مخرجة منفذة ومايسة يسري منتجة فنية وإيناس شاهين استايلست ونوران حبيب كمهندسة ديكور مساعدة.

اليوم الذي يشير إليه اسم الفيلم هو يوم خصصته الجهات الحكومية أسبوعيًا لنساء إحدى الحارات الشعبية شديدة الفقر، حتى يستخدمن حمام السباحة المُنشئ حديثًا في أحد مراكز الشباب التي يسيطر الذكور على ساحاتها وأنشطتها، ويعد المسبح أحد العناصر الرئيسة في التكوين البصري للفيلم وقد نجحت أبو ذكري في تجسيد أبعاده الدلالية المتعلقة بالحرية والانطلاق والسعادة، وتمكنت من الموازنة بين السباحة والتحرر الجسدي والمعنوي، حيث تتحرر أجساد النساء في هذا الفضاء المكاني من غطاءات تفرضها عليهن المنظومة الأبوية الذكورية، وتتحرر نفوسهن من هموم لا مفر منها في عالم يحكم الرجال قضبتهم عليه متسحلين بالقيم المجتمعية والفقه الذكوري.

ويُحسب لأبو ذكري كمخرجة ونانسي عبد الفتاح كمديرة للتصوير الاحتفاء البصري بــ "النساء كما هن دون تزييف" بخاصة على مستوى البنية الجسمانية والشكل الخارجي في مشاهد حمام السباحة تحديداً، فلم تلجأ المخرجة إلى نساء تتوافق أجسادهن مع المعايير التقليدية للظهور على الشاشة، ولم تعمد إلى إظهار صاحبات الجسد الممتلئ وذوات الشعر الذهبي بصورة تسخر منهن أو تتهكم عليهن كما عودتنا السينما المصرية.

فيلم يوم للستات

وقد تميزت هذه المشاهد بصورة نسائية براقة، فبدا اجتماعهن في حمام السباحة كما لو كان ساحة للتضامن والدعم فيما بينهن، فضلًا عن لقطات شديدة العذوبة والنعومة أظهرت النساء والفتيات يتعرفن إلى أجسادهن عبر معانقتها للماء.

لم تقدم كاملة أبو ذكري بعد "يوم للستات" وحتى وقت صدور هذه القراءة فيلماً اَخر، ليكون إجمالي ما قدمته خلال 14 عاماً منذ أن صدر أول أفلامها هو خمسة أفلام روائية طويلة فقط، ومع ذلك سطع اسمها في عالم السينما نجماً، فأصبح لها جمهور خاص يذهب إلى صالات العرض ليشاهد فيلماً من "إخراج كاملة أبو ذكري"، مثلما يترقب مسلسلاتها التلفزيونية في المواسم الرمضانية بغض النظر عن أسماء الأبطال، وهو أمر لم يظفر به إلا القليل بين المخرجين.

ناهينا عن نجاحها في إصابة أهداف قلما يدركها من يقدمون أعمالًا تجنح إلى المدرسة السينمائية النسوية، التي لا يحبذها معظم صناع الدراما خوفاً من الصدام مع القاعدة العريضة من الجمهور، فقد استطاعت أن تنجو بأعمالها تلك من الخطابية المباشرة والتوجه حصراً إلى فئة أو قطاع بعينه من الجمهور.

Exit mobile version