العنف ضد السوريات لم تولّده الأزمة... إنما فاقمته لدرجات لا تُحتمل

يُعد ازدياد معدّل تزويج القاصرات من أشنع مفرزات الحرب في سوريا، حيث ارتفعت نسبة هذه الظاهرة من 13% قبل بداية الأزمة إلى 46% في السنوات القليلة الماضية. أمّا الزيجات العرفية والجرائم المُرتكبة باسم مفهوم "الشرف" البالي... فهي أيضاً إلى ارتفاع.

عاشت النساء في سوريا واقعاً مأسوياً أحاط بهن من كل حدب وصوب خلال سنوات الحرب. واجهت السوريات هذا الواقع بكل تبعاته الثقيلة التي لم تكن بالجديدة عليهن، بإصرارٍ وعزيمة كبيرَين. وفي سوريا أصلاً، لطالما وقفت الكثير من النساء وجهاً لوجه أمام القوانين القاصرة وغير المنصفة، وأمام البيئة الاجتماعية والدينية التي لا ترضى بأي سقف عالٍ للحرية.

حاولت السوريات، منذ ما قبل سنوات اشتداد الأزمة والمعارك، توسيع هوامش الحرية لهن وللآخرين، إلا إن النظام السياسي والاجتماعي لم يكن معنياً بهذه الكلمة أو القضية، بل كان حريصاً على ترك البنية الاجتماعية على حالها، بقساوتها وجورها، لتأتي الحرب في ما بعد وتضيف الى معاناة السوريات المزيد من الأعباء وتحدَّ من قدرة الكثيرات على المشاركة في المسارات الاجتماعية والسياسية، ما يدعونا إلى طرح تساؤل مهم: كيف أثرت الحروب والنزاعات المسلحة في واقع النساء في سوريا وما هي تداعياتها اليوم؟

تداعيات الموروث الاجتماعي

النساء في سوريا كسائر نساء العالم، معرّضات أكثر من الرجال للعنف النفسي والجسدي والجنسي واللفظي والمجتمعي. وهن، كمعظم أفراد المجتمع السوري، ضحايا سلطة ديكتاتورية ينعكس استبدادها في كل مناحي الحياة، إذ تحكم زمرة من المتسلقين والفاسدين قبضتهم على كل مفاصل الوجود، وعلى كل المؤسسات التشريعية والقضائية والتنفيذية والعسكرية، ليتحوّل المجتمع إلى قطيعٍ لا حول له ولا قوة أمام ذئاب السلطة. لكن تلك المعاناة تقع بشكل مضاعف على النساء إذ لا يقف تأثيرها عند حد بطش السلطة، بل تأتي مصحوبةً بالموروث الاجتماعي والثقافي المتحيّز تاريخياً ضد النساء والمتأصل في المجتمع السوري والمستتر خلف المعتقدات الدينية والأعراف السائدة... ثم يجد هذا الموروث في سلطة الاستبداد حمايةً كافية لأُسسه، الأمر الذي يحول دون تطوير المجتمع لنفسه بسهولة، ودون خروجه من عباءته الذكورية الثخينة.

حين بدأت الأزمة ثمّ تفاقمت، رُسّخت الظواهر التمييزية والعنفية التاريخية أكثر، بل تضاعفت، وقلّصت قدرة السوريات على مواجهة الاعتداءات الموجّهة ضدهن وضد حقوقهن، فالتزمت الكثيرات الصمت، أكثر من ذي قبل، وبقين يتحمّلن غياب القضاء البنّاء، وغياب آليات العدالة والمحاسبة.

الحرب هي أيضاً حرب على النساء

خلال الحرب، تعرّضت السوريات لأشكالٍ كثيرة من الانتهاكات، على يد جميع المجموعات المسلّحة والمتصارعة والمنتشرة على امتداد النطاق الجغرافي السوري. فمنذ اندلاع النزاعات، قُتلت عشرات آلاف النساء، وتعرّضن للتهجير القسري والاختطاف والاختفاء والاعتقال التعسّفي في سجون النظام، وتعرّضن للاغتصاب والتزويج القسري والمبكر والتشرّد والاستغلال الجنسي والعنف الأسري وغيرها من الممارسات التي تضاعف ارتكابها خلال الأزمة.

وفي الحرب، من المعروف كيف يصبح الانتقام هدفاً يرنو إليه أفراد الفصائل المسلحة وكيف تصبح المرأة أداة رئيسية له، بوصفها الاجتماعي كـ "نقطة ضعف الرجل"/الخصم أو مصدر ما يُسمّى بـ"شرفه"، وبالتالي، الوسيلة التي يمكن استخدامها لإذلاله وتمريغ أنفه بالتراب لمعاقبته عبر استباحة ما يُسمّى بـ"عرضه".

حاولت السوريات توسيع هوامش الحرية لهن وللآخرين، إلا إن النظام لم يكن معنياً بهذه الكلمة أو القضية، بل كان حريصاً على ترك البنية الاجتماعية على حالها، بقساوتها وجورها.

تزويج القاصرات

يُعد ازدياد معدّل تزويج القاصرات من أشنع مفرزات الحرب في سوريا، حيث ارتفعت نسبة هذه الظاهرة من 13% قبل بداية الأزمة إلى 46% في السنوات الأخيرة، بحسب الأمم المتحدة. وتعود أسباب ازدياد هذه الظاهرة إلى أسباب اقتصادية، إذ يتم تزويج الفتاة في سن صغيرة للتخلص من مصاريف إعالتها التي تُعد أعباءً على الأسرة، وفي بعض حالات التزويج، للاستفادة من المهر المرتفع. وكان تنظيم داعش في مقدّمة مرتكبي هذا الانتهاك، حيث سجّل أعلى مستوى للتجاوزات والممارسات العنفية القاسية المقترفة بحق النساء، وما زالت كثيرات مفقودات حتى اليوم. لكن داعش لم يكن التنظيم الذكوري الوحيد، وإن كان الأشرس. فاليوم، تقوم الفصائل المسلحة في المناطق التي يسيطر عليها الجيش التركي (مثل عفرين، وسري كانيه، وكري سبي، وإدلب، وأعزاز، وجرابلس) بممارسات وحشية أيضاً، حيث يتم اعتقال الكثير من النساء واختطافهن وتعذيبهن. من جانبها، تستخدم قوات الأمن السوري العنف الجنسي في مرافق الاعتقال الخاضعة لسيطرة الدولة، وقد ارتكبت هذا النوع من العنف خلال مداهمات المنازل وعند نقاط التفتيش أيضاً، وغالباً ما كانت تقترفها بتعليمات من قيادات ومسؤولين في الحكومة كنوع من أنواع العقاب، الأمر الذي يدفع بعض أهالي الفتيات إلى تزويجهن في سن صغيرة اعتقاداً منهم أنهم بذلك يقومون بحمايتهن والحفاظ على ما يُسمّى بـ"شرف" بناتهم.

بالإضافة إلى ظاهرة تزويج القاصرات، لا تزال ظاهرة الزواج العرفيّ سائدة في سوريا، ونسبتها عالية جدّاً في محافظتي دمشق وريفها، حيث تبلغ نسب هذا النوع من الزواج في كلتا المحافظتين يومياً بمعدّل 100 حالة، يتم تسجيل عُشرها فقط في المحكمة الشرعيّة، والآخر يتمّ حتى بدون أوراق رسمية، وذلك بحسب تصريحات رسمية أكّدها القاضي الشرعي الأول في دمشق "محمود معراوي". أما غالبية الحالات فتم الكشف عنها بعد حمل الفتاة ما يضطر العائلة إلى تسجيل الزواج.

جرائم ما يُسمّى بـ"الشرف" مستمرّة

ارتفعت نسبة هذا النوع من الجرائم بشكل ملحوظ بعد اشتداد الأزمة السورية. ففي تصريح رسمي للأمم المتّحدة، صُنّفت سوريا الخامسة عالميّاً والثالثة عربياً لناحية انتشار هذه الجرائم. وبحسب المكتب السوري للإحصاء، تتراوح نسب تلك الجرائم من 200 إلى 300 كل عام، وتزداد في الأرياف. ويعود ارتفاع وتيرة ارتكابها في المجتمع السوري إلى الطابع العشائري أو الديني المتزمت في صفوف عدد من شرائحه، وإيمان المجتمع عموماً بوجوب الوصاية على الفتاة. هذا وتُقتل بعض الفتيات والنساء بدوافع أخرى تُربط "بالشرف" لكي يفلت مرتكبوها من العقاب، وفي الواقع تكون ارتكبت لأسباب اقتصادية أو نتيجة عنف أسري، علماً أنه في 8 آذار 2020 ألغي العذر المخفّف من القانون السوري.

إذاً، أثبتت سوريا، كما أثبتت رواندا وبوسنيا والكونغو وغيرها من البلدان قبلها، كيف لا يزال العنف الجنسي يُستخدم بأسلوب ممنهج ضد النساء والفتيات وكسلاح حرب واستراتيجية متعمَّدة تتّبعها المجموعات المتصارعة بهدف نشر الرعب وإذلال الخصم وتهديد المجتمع وتخويفه... أو بهدف إعلان النصر وإحكام القبضة على الأرض. واليوم، لا نهاية لهذا العنف تلوح في الأفق، إذا لا تزال أجساد النساء ساحة معركة في حربٍ ما برحت متأججةً تلتهم المزيد من الضحايا كل يوم. وعلى الرغم من وجود قوانين دولية رادعة، كالقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان اللذين يوفران الحماية للنساء والمدنيّين عموماً في النزاعات المسلحة، إلا أن تطبيق تلك القوانين يبدو محالاً في ظل الصراعات الدولية المتفاقمة، وتضارب المصالح، وازدواجية المعايير السائدة.

Exit mobile version