ما بعد العيد: أي أمّ نُمجّد؟

الأم المحتفى بها كرمز للتضحية والحب، هي نفسها الأمّ المعنّفة جسدياً ولفظياً ومعنوياً، هي ذاتها ضحية هذه المنظومة التي تحب تدمير النساء، ثم مصالحتهنّ بيوم للأم وآخر للمرأة. لكنها مجرّد أيام، فحين نتحدّث عن الحقوق، قد يتحوّل المحتفون والمحبّون إلى وحوش، أو في أحسن الأحوال إلى أشخاص لا يهمّهم الموضوع.

ما زالت الكتابة عن أمّي تبكيني، إنه أمر يصعب تخطّيه، فالأمومة ترتبط بالبكاء في بلادنا، ذلك أنها تقوم على الامّحاء وبذل الذات كلها، من أجل أن يكبر الأبناء والبنات. فأمهات بلادنا المحتفى بهنّ لا يحصلن تقريباً على أي حقوق أو مساعدة، لذلك ربما يشعر المرء بأن عليه أن يغالي في الاحتفال والمديح والغزل والتقدير والاحتضان. ولذلك ربما أشعر وكثيرات بأننا قد لا نستطيع استيعاب فكرة الأمومة كمسؤولية مطلقة ودور شديد الصعوبة.

ترعبنا فكرة أن نتحمّل ما تحمّلته أمهاتنا وأكثر، ذلك أن المرأة الآن حصلت على حقوق إضافية يتم استخدامها لمصلحة الأنظمة الأبوية القائمة، كالحق في العمل الذي يتحوّل في أحيانٍ كثيرة إلى مساحة للاستغلال وإثقال المرأة بالمزيد من الضغط والمسؤوليات، مقابل منحها مساحة ضيقة لتحقيق نفسها.

الأم المحتفى بها اليوم، لا تستطيع إعطاء الجنسية لأبنائها، وإذا سألنا الرجال المغرمين بأمهاتهم وأيضاً جزء من البنات عن رأيهم بالموضوع، سيقول معظمهم إن الأمر غير مهم أو إنه ليس الوقت المناسب للتفكير بالأمر. وهذا الوقت المناسب يبدو أنه لن يأتي أبداً، فقد مرّت حروب وفترات سلام وانفجارات وأطفال كُتم قيدهم، وماتت كثيرات في تلك الحسرة، ولم يأتِ الوقت المناسب بعد.

الأم المحتفى بها اليوم كرمز للتضحية والحب، هي نفسها الأمّ المعنّفة جسدياً ولفظياً ومعنوياً، هي ذاتها ضحية هذه المنظومة التي تحب تدمير النساء، ثم مصالحتهنّ بيوم للأم وآخر للمرأة. لكنها مجرّد أيام، فحين نتحدّث عن الحقوق، قد يتحوّل المحتفون والمحبّون إلى وحوش، أو في أحسن الأحوال إلى أشخاص لا يهمّهم الموضوع.

هل يعرف ممجّدو الأمهات أن حوادث العنف المنزلي، لا سيما ضد المرأة، سجّلت ارتفاعاً مخيفاً عام 2021؟ بلغ عدد الشكاوى التي وردت إلى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي على الخط الساخن المخصص للعنف الأسري، منذ بداية العام حتى تشرين الثاني 2021، 1184، أكثر من 60 في المئة منها عنف زوجي، وأكثر من 90 في المئة عنف جسدي. وللعنف بمختلف أنواعه انعكاسات صعبة ومعقّدة على صحة النساء النفسية والجسدية، إضافة إلى تراجع إنتاجيتهن الاقتصادية في ظل ضغوط اجتماعية تطالبهن بالصمت والتحمّل والصبر، على أساس أنها صفات لصيقة بفكرة الأم ومفهوم المرأة عموماً.

الاحتفاء بالأمهات يبدأ حقاً يوم توضع قضاياهنّ على الطاولة، وتُعطى صفة الأولوية، وتُمنح الاهتمام الذي تستحقّه.

هل يعرف ممجّدو الأم "لينا" التي أصبحت أماً وهي في الثانية عشرة وتعاني من قصور في القلب وقد أصبحت الآن في الخامسة عشرة مع 4 أطفال ومشكلات صحيّة لا تنتهي، لأن جسدها الصغير لم يتحمّل هذه الأمومة المبكرة المفروضة دينياً واجتماعياً وأيضاً اقتصادياً، كون الفتاة في بعض البيئات تشكّل عبئاً اقتصادياً على عائلتها، فيكون الحل بـ"بيعها" لرجل يصرف عليها ويتولّى قتلها ببطء؟

في تقرير حديث لمنظمة الأمم المتحدة للأطفال "اليونيسيف"، تحت عنوان "بدايات مظاهر العنف: أطفال يكبرون في كنف أزمات لبنان"، ورد أن حوالى 1.8 مليون طفل في لبنان، أي أكثر من 80 في المئة من الأطفال، يعانون من فقر متعدّد الأبعاد بعدما كان العدد نحو 900 ألف طفل عام 2019، ويواجه هؤلاء خطر تعرضهم للانتهاكات مثل عمل الأطفال أو زواج الأطفال بهدف مساعدة أسرهم على تغطية النفقات. وهي حقيقة مرّة أن الفئات المستضعفة والمهمّشة تكون أكثر من يدفع ثمن الأزمات المتنوّعة، ومن هذه الفئات النساء والأطفال.

الاحتفاء بالأمهات يبدأ حقاً يوم توضع قضاياهنّ على الطاولة، وتُعطى صفة الأولوية، وتُمنح الاهتمام الذي تستحقّه من دون تأجيل أو مواربة أو رومانسية. ما تحتاجه الأمهات في لبنان وفي مختلف الدول، هو احترامهنّ ككيان مستقل يملك قراره وحقوقه كاملةً، لا كآلات للإنجاب والتضحية والامّحاء...

Exit mobile version