الجسد الذي يهرب

منذ أشهر عدّة حتى الآن، يستولي عليّ تعب شديد. لم تكن شدة هذا التعب تتناقص، بل كان يجبرني تعبي أن أمضي معظم وقتي مستلقية على أريكة الصالة ممّا جعل أقربائي يطلقون علي لقب "مدام ريكامييه". داخل جسدي كانت تتفاعل عاصفة من الهرمونات تُشعرني بالحر وبالجوع معظم الوقت، إن لم نقل كلّه. مع ذلك، فإن جزءاً مني كان يعود إلى الحياة من جديد. فأنا تلك النبتة المُقتلعة من جذورها والتي تصبح أقل مرضاً بمجرد أن تعود إلى تربتها الأصلية.

هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية)

بقلم فريدة باشا

العودة إلى مدينة قسنطينة تجلب لي الراحة. تكون سعادتي غامرة حين أرى جداتي وعمومي وغيرهم من أفراد عائلتي من جديد. للمرة الأولى أدرك كم كنتُ غير مندمجة بالحياة في فرنسا، أو لنقل أنني فوجئت كم كان عدم اندماجي كبيراً. أن أعترف لنفسي بذلك جعل الأمر أقل رعباً. فالمنفى ليس  الوضع الطبيعي، وكم أغبط أولئك الذين يتوصلون لتقبّل ذلك. أي يتوصلون إلى التأقلم مع مكان آخر في حين أني أظل أشعر بالمرض حين أكون في "الهناك"، في المكان الآخر. أما هنا، فيصير مرضي أخف. ربما حان الوقت لأن أتوصل إلى مواجهة ما يؤلمني إلى هذا الحد، أي رحيلي عن بلدي قبل ثمانية عشر سنة.

فريدة باشا، 1998

قبل ثمانية عشر سنة، كان عمري ثمانية عشر سنة، وكنت أسكن في قسنطينة. كنت في السنة الأخيرة من المرحلة الثانوية في مدرسة الحرية التي تقع في مركز المدينة. في كل صباح، كنت أذهب إلى المدرسة بسيارة الأجرة من منزلي الواقع في ضاحية  20 أوت 1955. كانت مخصصاتي الشهرية لا تتجاوز 1000 دينار، وكنت أتدبر إنفاقها مثل مديرة أعمال. 

أيام الثلاثاء، كنت أنتهي من الدروس في وقت أبكر لأنني كنت معفاة من دروس الرياضة بسبب آلام مرعبة في المفاصل كانت تصيبني منذ مراهقتي. وهكذا كان يتسنّى لي وقت لأرتب شعري عند الحلاقة سيسي التي يقع محلها على بعد خطوات من المدرسة. لم يكن لدينا مياه جارية، وكانت تلك الوسيلة العملية الأفضل لغسل شعري. أما الاستحمام اليومي فكان يتطلب حركات أكثر بهلوانية. كان لدينا تنظيم كامل للتوصل إلى تخزين المياه. فقد كنا نسخّنها في وعاء كبير ونستحم في حوض، والمياه الممزوجة بالصابون التي تنجم عن ذلك  نسكبها في دلو نستخدمه للمراحيض. لم يكن الذهاب إلى الحمام العمومي ممكناً لأن برنامجي لم يكن يترك لي أي فسحة فارغة. وفي تلك السنة كان لا يهمني سوى شيء واحد هو  أن أحصل على شهادة البكالوريا .

الآن وقد انقضت ثمانية عشر سنة، ينتابني شعور بأنني في الواقع تهتُ في البحث عن ذاتي. وزني الحالي أربع وخمسين كيلوغرام مقابل وزني السابق البالغ خمسين كيلوغرام. في فترة ما، زاد وزني ليصل إلى سبع وخمسين كيلو. الاستدارات في جسدي تلائمني، لكنني أفضل أن أكون نحيلة وأن أستطيع دون عناء ارتداء ملابس بمقاسي الذي لا يتجاوز 38 ، وكذلك 90 B. لا يعني ذلك أن الوزن يشكل هاجساً مسيطراً بالنسبة لي (في الواقع، بلى، نوعاً ما) لكني أرى جسدي يتحول، والتجاعيد التي تكاد لا تُرى قد بدأت تنحفر في وجهي، وذلك يرعبني. إنني اشيخ!

لست ألوم أهلي على رحيلنا. لا بل أظن أنني أحبهم أكثر من أي شيء آخر. الخشية التي تتحكم بي هي أن أفقدهم، وأنا أعلم أثناء إدراكي بأني أشيخ أن فقدانهم هو جزء من العقد. هذا العقد الذي لا أذكر أنني وقعّته. عقد "أن أكبر" . يا لهذه الخديعة!

فريدة باشا، 1998

مرّت ثمانية عشرة سنة، وما زلت أرتدي التنانير نفسها. صحيح أنني صرت أمضي وقتاً أقصرفي وضع مساحيق التجميل على وجهي إلا أن حبي للماكياج ما زال هو نفسه. ما زلت مجبرة على نزع شعر جسمي. شعري صار أقل تجعيداً، وما زالت لدي تلك العادة السيئة في أن اقسم كل شعرة إلى أربع لأنني ما زلت لا أتحمل أن يكون شعري مقصّفاً.  يحصل ذلك عندما أكون متضايقة. وأنا كذلك في معظم الأحيان.

صرت أستاذة لغة عربية. الفتاة التي كُنتها قبل ثمانية عشر سنة عندما نالت شهادة البكالوريا كانت تريد أن تصبح مهندسة معمارية لكن ذلك لم يتحقق. وأنا لا آسف على ذلك. هي (أي أنا) كانت تريد أيضاً دراسة الفنون الجميلة، وهذا ما لم يتحقق أيضاً. ما زلت ألوّن لوحاتي وأرسم بقلم الرصاص والفحم والحبر الصيني لوحات طبيعة صامتة ولوحات خط أقوم  في بعض الأحيان بتحويلها إلى مطرزات. أحب أن ألوّن وأرسم وأطرّز وأخلق أشياء بيدي. إنها لحظات توازن حقيقي.

ما زلت في العمق امرأة حالمة، امرأة تحرد بسرعة. أحاول أن يكون حردي أقل من السابق.  تشاؤمي ما زال حاضراً وكذلك حبي للحياة، لكن ليس لدي حبيب. الحب هو ما ينقص في حياتي. الواقع أن ما ينقصني ليس  الحب وإنما رجل أحبه مدى العمر. رجل أنا متأكدة أنه يبحث عني وينتظرني كما أبحث عنه أنا وأنتظره أيضاً.

لو أن "أنا" و"أنا" تلتقيان في داخلي، فإن أنا اليوم يمكن أن تقوم بإلقاء دروس في الأخلاق على تلك التي كانتها قبل ثمانية عشر سنة كما يمكن أن تفعل أخت كبيرة مع أختها الأصغر، وكما أفعل أنا في بعض الأحيان مع أختي الحقيقية. يمكن أن تقول لها أن تأكل بشكل أفضل، أو أن تأكل... فقط. 

لا أعلم إن كانت "أنا "ما قبل ثمانية عشر سنة يمكن أن تحب "أنا" اليوم. بكل الأحوال، أنا أحب تلك التي كنُتها، لكنني لا أعلم إن كنت أحب تلك التي صِرتُها. أعرف أني أحترمها لأنها شجاعة، مليئة بالإصرار ولا تستسلم بأي حال. أنظر إليها مع ذلك بفضول. في الواقع، أنا أنظر إلى نفسي بفضول، كما لو كنت لا أتعرف على ذاتي، ولا شك أني أفعل ذلك لأنني أشيخ ولأن ذلك يرعبني.

فريدة باشا، 1998

ما زلت أحب الكتابة، لكنني أكتب أقل من السابق. علاقتي بالكتابة قد تغيرت. قبل ثمانية عشر سنة، كان يكفي أن يكون دفتري أمامي لكي أيدأ بالكتابة. كنت أكرّس أية لحظة من لحظات الفراغ للكتابة، وكنت أكتب الأشعار في تلك الفترة. . اليوم صارت الأمور أكثر تعقيداً. دراستي للأدب قطعت العفوية التي كانت لديّ وقتها. كان ذلك كما لو أن التحليل التفصيلي للكتابات قد أفسد رغبتي وحاجتي للكتابة.

الرواية التي بدأتُها قبل تسع سنوات ظلّت معلّقة. لم أكتب منها سوى المدخل والاستهلال والفصل الأول. كان من المفترض أن تكون رواية جاسوسية مع قصة حب جميلة تنتهي بشكل جيد، أي قصة ينتهي فيها العاشقان بأن يجتمعا معاً ويعيشان سعيدين وينظران معاً في الاتجاه نفسه كما في صور البطاقات البريدية التي كانت منتشرة في مراهقتي. العاشقان في روايتي التي لم تنتهِ يحملان اسمي ليال والياس. هي فلسطينية جزائرية، وهو سوري يوناني. بعد قليل من لقائهما، في يوم من أيام الصيف، يختفي الياس أثناء تسكعه في شوارع خانداكوس، وهي جزر من منطقة السيكلاد. كانت ليال محامية تعيش في باريس. تقرر  أن تذهب للبحث عنه وأن تعود بالتالي إلى اليونان، وهو ما تقوم به بالفعل برفقة أخيها شمس.  تكتشف ليال عندها أن الياس كان متورطاً في موت أهلها الذي حصل قبل عدة سنوات. لكن إلى أي حد كان تورطه؟ كانت تلك جريمة قتل سياسية. لكن ليال وشمس كانا توصّلا منذ فترة طويلة للتعايش مع فكرة أن تلك الجريمة قد تبقى بلا عقاب. لكن أن يجدا نفسيها أمام القاتل المفترض لوالديهما كان حريّاً أن يغيّر المعطيات. فوقوعها في حب هذا الرجل كان بالفعل أمراً لا يُحتمل. 

هكذا تتمزق ليال بين حبها ورغبتها في الوصول إلى الحقيقة، لكنها تصرّ على متابعة بحثها عما يختفي وراء المظاهر، وكانت محقّة في فعل ذلك...

فريدة باشا، 1998

 لم أنهِ كتابة هذه الرواية ... وبدلاً من ذلك حضرّت وقدّمت أطروحة دكتوراه عن المُتّخيل في بلاد العرب في القرن السابع عشر، قبل ثمانية عشر سنة ما كان يخطر على بالي أني يمكن أن أصل إلى هذا الحد في دراستي. وعندما أنظر إلى الخلف أتساءل: “لماذا فرضت على نفسي كل هذا العذاب؟" كيف استطعت أن أبقى على قيد الحياة بعد كل تلك السنوات؟ إنني أجهل الجواب، لكنني أعتقد  أنه من الضروري أن تكون لديّ بعض المقدرة على الخروج من الذات من أجل إيهام نفسي بأني أجابه الأمر وأتابع التقدم رغم كل شيء. مع ذلك فإنه ما من شيء بديهي في هذه المواجهة الداخلية طالما أنها تثير أسئلة وذكريات مبهمة وأحلام مجهَضة. الواقع يتغلب على كل ذلك. لا أحب الواقع فهو يخرب لي حياتي ويجعل أحلامي قاتمة.

قبل ثمانية عشر سنة، كانت لدي أحلام ومستقبل غير واضح المعالم على الإطلاق. عندما كنت أجرؤ أن أسرح في الخيال قليلاً، كان مستقبلي يبدو لي بسيطاً، وكان يتضمن أن أحصل عندما أصل إلى الثلاثين من عمري (كان ذلك يبدو لي بعيداً جداً) أن يكون لديّ مكتبي الهندسي المختص بالعمارة وعائلة خاصة بي. لم أحصل لا على هذا ولا على ذاك. لا في الثلاثين من عمري، ولا في الوقت الحاضر.

صرت أستاذة لغة عربية في محيط لديه عدوانية تجاه العربية. ولكي أتغلب على هذه الكراهية، تعلمت لغة جديدة هي اليونانية الحديثة التي سمحت لي أن أتواصل مع أصدقائي من جزيرة كريت الذين صاروا عائلتي الروحية، تماماً كما صارت اليونانية لغة قلبي. كان ذلك بديهياً كما لو أني كنت قد انغمست في خضم ذلك طيلة حياتي. لديّ لغتان أصليتان هما العربية والفرنسية. وهما متشابهتان في كثير من النواحي. والأفق التي انفتحت أمامي مع تعلمي اليونانية هي أفق لا متناهية، ومن المؤكد أنها أكثر اشراقاً. اليونانية صارت لغتي، تلك التي اخترتُها والتي قبلت أن تمنح نفسها لي. أحببت في تلك اللغة الصداقة والحب. الحب ذهب، وما زالت الصداقة دائمة.

قبل ثمانية عشر سنة، أظن أنني لم أكن أعرف حتى أين توجد جزيرة كريت، أو ربما كنت أعرف ذلك بشكل مبهم. الزمن الذي مرّ يبدو لي غير حقيقي. إنني أجهل إن كنت أعرف من أنا. أجهل أين هي هذه "الأنا" في كل ما أفعل. والشعور بأني أقترب منها فقط عندما يكون جسدي مريضاً. الألم يخفف الجزع الذي يجعله المنفى مكشوفاً عارياً.

Exit mobile version