موجز عن السياق النسوي في الجزائر

عام 1984 استطاعت السلطة الأبوية المهيمنة أن تحقّق أحد أهم انتصاراتها في الجزائر. فقد دخل حيّز التنفيذ قانون الأسرة الذي أقرّته الجمعية الوطنية التي تتألف في غالبيتها من الرجال...

هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)

كانت الجزائريّات دائماً في صف الدفاع الأول عن الحرية والعدالة في بلادهنّ، لكن غالباً ما لم يجدن من يقف معهن حين كان يتعلّق الأمر باستقلاليّتهنّ وحقوقهنّ...

في عام 1984 استطاعت السلطة الأبوية المهيمنة أن تحقّق أحد أهم انتصاراتها في الجزائر. فقد دخل حيّز التنفيذ قانون الأسرة الذي أقرّته الجمعية الوطنية التي تتألف في غالبيتها من الرجال. ونظراً إلى أن هذا القانون يتحكّم بجميع العلاقات بين أعضاء الأسرة، فقد تكرّست معه دونية الجزائريات في حياتهن الخاصة. تأهّبت تجمّعات النساء تدعمهنّ المُجاهدات (مقاتلات من حرب التحرير الوطنية)، وحشدن صفوفهنّ للوقوف في وجه هذه "الهديّة" التي قدّمها للإسلاميين محافظو الحزب الأوحد في الجزائر أي جبهة التحرير الوطني. ولم تنجح الاعتصامات أمام الجمعيّة والمظاهرات والمسيرات في إبطال هذا القانون.

التجمع للتنديد بهجمات الإسلاميين, حركة نسائية. الجزائر 22/03/1994. المقدمة: زازي سادو أرشيف RAFD

خلال الثمانينات، كانت الجزائر تمرّ بأزمة اقتصادية غير مسبوقة وحالة من عدم الاستقرار الاجتماعي نجمت عنها ثورة شعبية تم سحقها بشكل دموي في الخامس من أكتوبر 1988. استفاد الإسلاميون أكثر من غيرهم من فساد النظام القائم وعنفه تجاه السكان. كانت الثمرة ناضجة، وقد قطفتها جبهة الإنقاذ الإسلامية التي حازت قصب السبق في الانتخابات المحلية في 1990. أما النساء اللواتي كنّ قد تجرأن على المطالبة بالمساواة في الحقوق، فقد تم وصفهنّ بـ "المتغربنات" و"العاهرات" و"الكافرات"، و"بنات حزب فرنسا". أما حجّة أن قانون العائلة (قانون العلّة حسب تسمية الناشطات النسويات) يتناقض مع المادة 29 من الدستور، والتي تنص على المساواة أمام القانون، فكانت بلا جدوى لأن الإسلاميين لا يعترفون سوى بالقرآن كمصدر وحيد للتشريع. وذلك القانون يستند إلى الشريعة، وبالتالي لا يمكن المساس به.

هكذا، تم تجميد جميع المطالبات المتعلّقة بالمواطنة، وبشكل أخص بالحركة النسوية، اعتباراً من أول سنوات التسعينات. وحتى بعد أن انتهت عمليات الاغتيال والمذابح التي قامت بها جماعات مسلّحة إسلامية، ظل مناخ السنوات التي اصطلح على تسميتها بالسوداء يهيمن على البلد. فالإرهاب لم يكن عشوائيّاً على الإطلاق حين استهدف بشكل أساسي المثقّفين والفنانين والمناضلين من أجل حقوق المواطنة والناشطات النسويات بالطبع. وكما كان الأمر أثناء حرب التحرير من الاستعمار الفرنسي، دفعت النساء الجزائريات ثمن مقاومة الإرهاب الإسلامي. فطالهنّ الاغتصاب والخطف والتعذيب والقتل لأنهنّ رفضن ترك عملهنّ وارتداء الحجاب؛ ولأنهنّ رفضن تسليم أولادهنّ للتنظيمات المسلّحة، وإعطاء مصداقية للظلامية والعنف، وأيضاً لكونهن كنَّ مناضلات سياسيات أو عضوات في جمعيات.

انتصرت المقاومة الشعبية في النهاية على الجماعات المسلّحة لكنّ بذور الرجعية كانت قد زُرعت في الأرض. وقانون المصالحة الوطنية الذي جاء به الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة كان يعطي مبرّرات للإرهابيين الذين ادّعوا التوبة في حين يقف صامتاً أمام عذابات النساء اللواتي اغتصبهنّ الإرهابيون. نجمت عن ذلك مساومة قذرة للغاية مع السلطات الدينية لكي يتم الاعتراف بالضحايا على أنهنّ ضحايا.

مع ذلك، وُلد أمل مع الرئيس بوتفليقة الذي وعد من ضمن ما قدّمه من وعود خلّابة أن يعطي مكانة أفضل للنساء. فمن أجل تخفيف الضغط قليلاً، صدر في 2005 تعديل لقانون الأسرة صار بموجبه الوكيل خلال عقد الزواج مجرّد ممثل للزوجة، وتم إخضاع تعدّد الزوجات لقيود أكبر، كما مُنحت حرية السفر للمرأة دون طلب إذن الزوج، وتمت الموافقة على أن تعطي الأم جنسيتها لأولادها. كان لذلك كله دوره في إضفاء صبغة عصرية على قانون يقوم في جوهره على التمييز وعدم المساواة.  مع ذلك فقد تم التخلص من بعض المحرّمات، ولم يعد القانون نصاً مقدساً لا يمكن المساس به، حتى ولو تبيّن فيما بعد أن مبادرات الحكومة كانت في معظم الوقت تهدف لاستمالة شركائها الغربيين.

في تلك السنة نفسها وقّعت الجزائر اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) لكن مع بعض التحفظات باسم "احترام التشريع الوطني والتقاليد والدين والثقافة". كانت خيبة الأمل كبيرة لكن المناضلات لم يستسلمن. وحرصهنّ على الخروج من الظل أجبر الحكومة على التنازل وتقديم قانون جديد عام 2012 من أجل "زيادة حظوظ المرأة في الوصول إلى تمثيل أفضل في المجالس المنتخبة". واستفادت المرشحات من سياسة الحصص هذه في الوصول إلى مقاعد المجلس الشعبي الوطني بنسبة قياسية هي 31,6%.

وإن كانت وسائل الدفاع الحقوقية تتطور شيئاً فشيئاً، فإن واقع الجزائريات ظل بعيداً عن أن يطاله التحسين. فقد كان لثقل التقاليد والديانة القدرة على إفراغ تطوّر القوانين من مضمونه. صحيح أن النساء استطعن الترشح، لكن ما أتيح لهنّ كان مقاعد لا يمكن الوصول إليها في القوائم الانتخابية. فهنّ كوادر عليا وموظفات، ويشكّلن 20% من العاملين وثلثي حاملي الشهادات، لكن لا يمكن لهن أبداً الوصول إلى منصب مدير. حصلت النساء على الحرية، لكن لم تكن لهنّ السلطة على أجسادهنّ. فالعذرية قبل الزواج و"السمعة" و"القيم" التي تميّز المسلمة الحسنة هي قيود تمنع المرأة من أن تتقاسم الحيّز العام مع الرجال وأن تمارس حياتها بحرية.

تتجلّى السلطة الأبوية في الجزائر بشكل يومي في التحرّشات التي تحصل في الشارع وفي العنف داخل العائلة وفي جرائم قتل النساء. وكان لا بد من انتظار عام ٢٠١٥ حتى يقبل المشرّع تحت ضغط المناضلات من أجل حقوق النساء أن يقوم بتجريم العنف الزوجي والتحرش في الشارع وفي الأماكن العامة والسرقة بين الأزواج وتبديد ثروات المرأة من قِبَلِ زوجها. وللأسف فإن السلطة الجزائرية، كما يحصل غالباً، تأخذ بيد ما تقدّمه باليد الأخرى؛ إذ أن "بند المسامحة" ينصّ على أنه اذا ما قبلت الزوجة "مسامحة" الرجل المعتدي، يتم التخلي عن المقاضاة في الحالات البسيطة. وفي الحالات الخطيرة يتم الاحتفاظ بالحق في المقاضاة، لكن العقوبة تخفّف.

على الرغم من ذلك، فإن ظاهرة قتل النساء من جميع الفئات الاجتماعية قد ازدادت بمعدّل مائة أو مئتي ضحية في السنة. وعدم قيام العدالة وأقسام الشرطة بحماية النساء المعرضات للخطر لا يتأتى من نقص  المعلومات أو نقص الإمكانيات، بل لأنهم يجدون مبرّرات لعنف الشريك. فبيت العائلة يقع تحت سلطة الرجال الذين يضمنون تماسكه و"شرفه"، وتلك هي في النهاية العقلية السائدة. وما زالت النساء يتردّدن في تقديم شكوى ضد والد أولادهن أو ضد أخ أو عم. فذلك غير لائق، ويمكن أن يعرّض المرأة للنبذ إذا ما فعلت. وطالما لا توجد بنية إيواء للحالات المستعجلة، وطالما لا توجد آليات للحماية، ستظل الضحايا تحاولن المقاومة إلى أن يغيبهنّ الموت. 

لكن الناشطات النسويات، وبشكل متزايد المناضلات الشابات، بدأن بتغيير العقليات وتحريك الأفكار المسبقة الجامدة والوقوف في وجه التستّر على الخطأ وذلك بفضل وسائل التواصل الاجتماعي التي استطعن اقتحامها من أجل نشر تلك الجرائم على الملأ. كما أنهنّ نزلن إلى الشارع من أجل المطالبة بالمواطنة الكاملة. ما من مرة كانت فيها النساء من جميع الأعمار ومن جميع الفئات بتلك الكثرة كما في تظاهرات الحراك في 22 شباط/فبراير 2019. واستطعن إيصال مطالباتهن بالحرية إلى مسامع الرجال والحكّام. تلك هي بداية مرحلة جديدة ضمن المسيرة الطويلة التي تخوضها الجزائريات نحو المساواة، ذلك أنهنّ قد قرّرن في هذه المرة الصراخ عالياً وعدم التوقف عن ذلك إلى أن يتم سماع صوتهنّ.

Exit mobile version