عن حرب أكتوبر 2023 التي عرّت العالم بأسره

إن حرب أكتوبر 2023، إن أنجزت شيئاً، فهو تعريتها زيفَ العالم وقدرته المهولة على الادّعاء. الادّعاء بأن العدل أساس الحياة، بأن الإنسانية تجمعنا، بأن هناك قيماً دولية علينا احترامها. حين يتعلّق الأمر بفلسطين، حقيقةً، تُنسى كل القيم وتُنسف.

هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)

على مدار العقود الماضية، والمواطن/ة الفلسطيني/ة  يُعامل من قبل الدول الأوروبية والولايات المتحدة وإسرائيل وعدد من الدول الأخرى كإنسان بلا إنسانية، كإنسان بلا حقوق. فقد سلبوا منه أرضه، ووطّنوا شعباً على مساحة أراضيه وممتلكاته الخاصة، وحرموه حقّه في العيش والتعلّم والرعاية والعمل والسفر، ثمّ طالبوه بالصمت المدقع وإلّا فآلة القتل الإسرائيلية المدعومة من الخارج ستطاله وصوته إن صدح أو ارتفع.

يومياً، ولا أبالغ حين أقول يومياً، ترتكب قوّات الاحتلال المجازر الدموية بحق الإنسان الفلسطيني، ويومياً يسقط ضحايا وجرحى ويأسر الاحتلال المئات ويقيّد حريّة الصحافة وحريّة التعبير، ويُبقي شعباً كاملاً تحت رحمته في الضفة الغربية، وحصاراً خانقاً في قطاع غزّة. لكن كل هذه الانتهاكات، يمرّ عليها الإعلام الغربي الذي يدّعي الموضوعية والالتزام بأخلاقيات المهنة مرور الكرام، وأحيانا لا يرى حتى أي ضرورة لذكرها وتحليلها وتوجيه أصابع الإدانة إلى مقترفيها الواضحة هوياتهم. لكن هذا الإعلام نفسه قرّر ذرف الدموع والنحيب والتعاطف مع قوى الاحتلال وناسه بعد انتفاض فصائل المقاومة في غزة على ظلمهم.

بمعنى آخر، عندما أراد الشعب الفلسطيني كسر القيد والخروج من المعتقل الذي رُمي فيه عنوة وطالب بنيل حريته وأشهر مقاومته المحتل والدفاع عن نفسه -كما تفعل بقيّة الشعوب ويُهلّل لها- أدين بأقسى العبارات واعتُبرت إرادته "عماًً إجرامياً وارهاباً وتطرّفاً"، لا بل وُصف المقاومون بأنهم  "وحوش عديمي الرحمة والإنسانية" ووُصفت مقاومتهم "بالبشعة"(!). أدانته الماكينة الإعلامية الغربية وزُيّفت الصور في عصر يُفترض أنه عصر مكافحة المعلومات المُضلّلة، وحُوّلت الضحية إلى جلّاد، وتبنّى العالم الرواية الإسرائيلية، ولم يلتفت إعلام القوى الغربية الكبرى كثيراً أصلاً لغدو غزّة كومةَ حجار ورماد، في ما سيعرّف عنه التاريخ لاحقاً كمحاولة واضحة لإبادة جماعية عبر قصف جوي عشوائي غير مسبوق وأسلحة محرّمة دولياً.

ماذا فعل بعض الإعلام الغربي أيضاً؟ طالب من قيادة الشعب الفلسطيني والمتحدّثين الرسميين باسمه الاعتذار. نعم، طالبهم هم أن يعتذروا على الملأ وأن يدينوا ما حدث، ويشجبوا، ويستنكروا. ثم جاء بعض رؤساء الدول الكبرى ليرشّوا الملح على الجرح، بتصريحات تركّز الإدانة على عملية "طوفان الأقصى" الذي يعلم الجاني والمجني عليه أنها ردّة فعل على إجرامٍ يومي لن يطيقه أي كائن حي، بحق الشعب الفلسطيني وأماكنه المقدّسة وأراضيه وممتلكاته، وبخطابات تعد بدعم أكبر للمحتل، مالياً وعسكرياً ومعنوياً، ليوغل بقتله واستهدافه المدنيّين أكثر فأكثر.

لماذا يظل يعدُّ قتلنا أداة ووسيلة لنجاة الاحتلال، لا بل حقّاً له تحت شعار "الدفاع عن النفس"؟ عن أي نفس يدافع؟ عن أي ضعف؟ هو الممتلئ جبروتاً واستكباراً وينعم بدعمٍ لا مثيل له في التاريخ؟

فما كان من المحتل سوى الرد المباشر، وهو أمر متوقّع، وارتكاب مجزرة هي السابعة على الأقل منذ العام 2008-2009 في قطاع غزة، وفرض حصار مطبق وكامل هذه المرّة. وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت قال حرفياً: "نفرض حصاراً كاملاً على قطاع غزة، لا كهرباء، لا طعام ولا ماء ولا غاز... كل شيء مغلق"، مؤكّداً أن القطاع "لن يعود أبداً كما كان". وبالفعل، مع أكثر من ألف شهيد/ة وآلاف الجرحى، ومع هدم المنازل وعدد من المساجد والمشافي واستهداف سيارات الإسعاف والدفاع المدني والأطباء والصحافيين/ات والأبراج السكنية والمقار الإعلامية والمصالح التجارية، لن تعود غزّة أبداً كما كانت. فأين الإعلام الغربي من كل ذلك؟ لماذا يظل يُعدّ قتلنا أداة ووسيلة لنجاة الاحتلال، لا بل حقّاً له تحت شعار "الدفاع عن النفس"؟ عن أي نفس يدافع؟ عن أي ضعف؟ هو الممتلئ جبروتاً واستكباراً وينعم بدعمٍ لا مثيل له في التاريخ؟ لماذا نوصف ونحن تحت الاحتلال بالأشرار وهم الغزاة بالأبرياء؟

للتذكير، إن قطاع غزة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، يقطنه نحو مليوني وأربعمئة ألف فلسطيني/ة، 70% منهم هُجّروا في الأساس من أراضيهم بدءاً من العام 1948. تعرّض القطاع لاعتداءات إسرائيلية على مر السنين، وانسحبت منه قوات الاحتلال عام 2005. منذ ذلك الانسحاب وعمليات إسرائيل العسكرية متواصلة، بعضها تحوّل إلى حروب استمرت أسابيع وخلّفت آلاف الشهداء والجرحى من المدنيين ودمّرت عشرات آلاف المنازل والمنشآت فوق قاطنيها وأحدثت دماراً واسعاً في مرافق البنى التحتية.

تعرّض القطاع للعزل المستمرّ، ذلك أن إسرائيل عملت، من خلال تحكمها بالمعابر والحدود البرية والبحرية والجوية، علـى ترسـيخ سياسـة "عـزل القطـاع" من خلال فصلـه عـن الأراضي الفلسطينية وعن الخارج إلى جانب التحكم في كمية ونوعية البضائع والمواد التي تدخل إليه، وحظر المئات منها، ما تسبّب بركود اقتصادي شامل وارتفاع حاد في معدلات الفقر والبطالة. تبعاً لبيانات أصدرها المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، "فإن الحصار الاسرائيلي على قطاع غزة أثّر على القطاع الصحي ووفرة اللوازم الطبية والأسرّة، فلكل 1000 شخص يتوفر 1.4 اسرة في المشافي فقط، وخمس من كل عشر عائلات تعاني من انعدام الأمن الغذائي. ويتراوح عدد ساعات انقطاع التيار الكهربائي بين 12 و16 ساعة في اليوم الواحد". أي الإعلام الغربي من ذلك؟

في السياق نفسه، لا بد من أن نذكّر العالم بالاستفزازات اليومية التي يمارسها المستوطِنون/ات بحماية من جنود الاحتلال الإسرائيلي بحق المدنيين الفلسطينيين وأماكن عبادتهم. من أبسط الأمور، عادةُ البصق والضرب والشتم التي يواجهون بها المصلّين المسلمين والمسيحيين، وعادة قطع الطرق وضرب الحجارة على سيارات المارين ومهاجمة مَن يسير بين المدن وفي الطرقات الخارجية، وحرق أشجار الزيتون أو سرقة والمحاصيل الزراعية... يحصل كل ذلك، فيما يستمرّ الاحتلال بالتوسّع الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس.

بعد مرور عشرات السنين على الاحتلال والاستيطان، ضقنا ذرعاً ببيانات الشجب والاستنكار والادّعاء بالوقوف الى جانب حقوقنا المسلوبة، وصرف النظر عن محاسبة إسرائيل، بالحد الأدنى على تجاوزها القوانين الدولية التي تروّج الدول والأمم لاستخدامها ليلاً نهاراً. نريد إلزاماً واضحاً وغير موارب لإسرائيل لوقف جرائمها وتجاوزاتها على الأرض، عبر التوقّف عن دعمها مالياً وعسكرياً مثلاً، بعد كل اعتداء سافر.

اليوم، صدّقوني، لا قدرة لأي إنسان فلسطيني على الإطالة في الكلام والاستمرار في الشرح، في ظل ما نواجهه من حرب ضروس وضحايا وأشلاء وفقدان زملاء صحافيين/ات أثناء أداء واجبهم بنقل الصورة والخبر فباتوا هم الخبر.

بات واضحاً أن جزءاً كبيراً من هذا العالم لا يريد أن يرى ولا أن يسمع، بل هو مستعد لأن يتجرّد من إنسانيته حفاظاً على أطماعه وسردياته. لا يرى ريباً في الكيل بمكيالين، تمسّكاً بمشروعه الاستعماري الذي بدأ مع تحطيم الحلم الفلسطيني وتوطين الآلاف من اليهود في أرض شعبنا.  

إن حرب أكتوبر 2023، إن أنجزت شيئاً، فهو تعريتها زيفَ العالم وقدرته المهولة على الادّعاء. الادّعاء بأن العدل أساس الحياة، بأن الإنسانية تجمعنا، بأن هناك قيماً دولية علينا احترامها. حين يتعلّق الأمر بفلسطين، حقيقةً، تُنسى كل القيم وتُنسف.

Exit mobile version