عنف مزدوج: تونسيّات ضحايا الأزواج... والشرطة أيضاً

في ظل الأرقام المفزعة التي تؤكد ارتفاع العنف الموجه ضدّ النساء في تونس، بخاصة العنف الزوجي، تسيطر حالة من الخوف والحذر على الوسط النسوي القلق من تأصّل العقليات الذكورية لا في المجتمع فقط، بل في مؤسسات الدولة التي لا تطبّق قانون رقم 58/2017 كما يجب، الأمر الذي يشكّل عائقاً جدياً أمام توفير الأمان للنساء ويحوّل قضاياهنّ إلى مجرّد مسائل هامشية...

هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)

على الرغم من أن القانون رقم 58 لسنة 2017 يوسّع نطاق التجاوزات والانتهاكات المتّصلة بالعنف ضد النساء التي تُعرّض مرتكبيها للعقاب ويؤكّد صدارة تونس في المنطقة في مجال تعزيز حقوق النساء ويكفل حماية قانونية ومادية لضحايا العنف في البلاد، إلا أن إنفاذ القانون وإحقاق الحق للضحايا يبقى حتى اليوم مساراً صعباً جداً في ظل غياب الإرادة السياسية ونقص الموارد وتحجّر العقليات الذي ينعكس على مؤسسات الدولة، وعلى رأسها الشرطة والقضاء.

يكمن القصور الحقيقي الذي يقف حجرَ عثرةٍ أمام تأمين حياة النساء في الرواسب الذكورية الراسخة في عقليات عناصر أجهزة الأمن والشرطة التي يوكل إليهم مهمّة تطبيق القانون وحماية النساء لدى استقبال شكاوى العنف، وهو ما توضحه تجربة حنان التي تحدّث إليها موقع "ميدفيمينسوية"، وهي إحدى ضحايا العنف الزوجي في تونس التي تقود اليوم معركة تحرّرها من قبضة زوجها المعنِّف.

الشرطة الذكورية، فكيف ستحمي النساء؟

تسرد لنا حنان، وهي امرأة ثلاثينية وأم لطفلين، تجربتها مع مركز الأمن حيث توجهت لتقديم شكوى لدى الوحدة الوطنية لمكافحة العنف ضد المرأة بعد تعرّضها للتعنيف الزوجي المادي والمعنوي المتواصل طيلة أشهر.

"رئيس وحدة العنف دعاني إلى الهدوء والعفو عن زوجي من أجل الأبناء بقوله إنها كانت مجرد صفعات خفيفة وذهبَتْ... فهو لم يؤذِك ولم يجعلك تنزفين دماً"

تروي لنا حنان، "زوجي عنيف ومدمن كحول حوّل حياتي إلى جحيم بالاعتداء عليّ وتكسير محتويات المنزل في كل مرة كنتُ أعبّرُ فيها عن امتعاضي من سلوكه وتنصّله من مسؤولياته في توفير حاجيات الأبناء". وتتابع، "بات الأمر يتطوّر شيئاً فشيئاً حتى وصل به الأمر في إحدى ليالي الشتاء الباردة إلى ضربي أمام أبنائي وسكب سطل من الماء البارد على جسدي ومنعي من دخول أي غرفة لأنام فيها بعد أن أغلقها كلها وتركني أنام في الردهة كعقاب لي."

عن العنصر الأمني تقول حنان، "رئيس الوحدة دعاني إلى الهدوء وعدم تكبير المشكلة والعفو عن زوجي من أجل الأبناء قائلاً إنها "مجرد صفعات خفيفة وذهبتْ، فهو لم يؤذِكِ ولم يجعلك تنزفين دماً مثل الكثير من النساء اللواتي يأتين هنا؛ حاولي الإصلاح وتخلّصي من فكرة الطلاق فهو سيدمّر أسرتك..."

إن دلّت الجمل والتعابير الآنف ذكرها على شيء، فهو على التطبيع مع العنف الممارس ضد النساء والنظر إليه على أنه قدر يجب على النساء التعايش معه، ما يثبت تعشّش الذكورية داخل عقول من أوكلت إليهم مهام محاربة العنف، وأهمية عدم الاكتفاء بالنصوص والفرح كثيراً بها، لأن القصة أعمق بكثير من قوانين وبرامج وسياسات، تتعلق بعقليات عفنة متجذّرة تحتاج تغييراً راديكالياً لن يتحقّق بسهولة.

حنان التي استمعنا إلى قصّتها لم تصغِ إلى نصائح عنصر الأمن وتمسّكت بحقها في ملاحقة زوجها قانونياً قبل أن يزداد العنف ضدها خطورةً ويودي بحياتها كما حصل مع أخريات، فرفعتْ قضيّة طلاق ضد زوجها منطلقةً برحلةٍ مضنيةٍ وطويلةٍ للحصول على حقوقها وإدانة زوجها بالضرر والعنف.

"القاضي خفّف من شأن العنف الذي تعرضتُ له ودعاني إلى الهدوء والتعقل"

تصف حنان وقفتها الأولى أمام القاضي في جلسة مصالحة وتقول، "استغربت بشدة كيف خفّف القاضي من شأن العنف الذي تعرّضت له ودعاني إلى التعقل وتعامل بسطحية مع الأذى وبلغ به الأمر حدّ اعتباره مناوشات زوجية عادية".

صورة من مركز إصغاء في مقرّ الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات

يعكس موقف القاضي غيابَ ثقافة نبذ العنف ضد النساء والإيمان بحقوق الإنسان لدى عدد من موظفي الدولة المنوط بهم حماية النساء، الأمر الذي يصعّب من تطبيق النصوص القانونية القوية  فوسط ضعف الثقافة السياسية الحقوقية وما يواكبها من سلوكيات مدنية وقضائية.

في خضم كل ذلك، رأينا كيف ارتفعت أعداد حالات العنف الزوجي التي باتت تمثّل أعلى نسبة من أشكال العنف المسجّلة وفق أحدث بيانات وزارة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن، حيث تلقى الخط الأخضر (وهو خط مجاني يستقبل شكاوى النساء) خلال الأشهر الثلاثة الأولى من سنة 2023 نحو 921 حالة عنف (منها 654 حالة كان مرتكب العنف هو الزوج أي بمعدل 71% عنف زوجي) مع الإشارة إلى أنه في الأشهر الأولى من عام 2022 بلغت الإشعارات المتعلقة بالعنف الزوجي 168، أي أن الظاهرة تصاعدت أكثر من ثلاث مرّات.

إلى ذلك، كشفت دراسة ميدانية حول "مسارات التعهّد بالنساء ضحايا العنف" نُشرت في 2022 أن أكثر من نصف النساء الناجيات من العنف والمستجوَبات في الدراسة يعتبرن أن خدمات الشرطة والدرك الوطني المتوفرة في إطار تنفيذ القانون الأساسي عدد 58 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة "سيئة وسيئة للغاية".

وبيّنت هذه الدراسة أن من أهم المشكلات التي تعترض النساء خلال عملية التبليغ عن العنف هي بُعد مسافة الفرق المختصة وعدم توفّرها بشكل دائم، بالإضافة إلى تعرّض النساء إلى مضايقات من أعوان الأمن.

علاوةً على ما سبق، لا يمكن أن ننسى فترة الحجر الصحي التي شهدتها تونس بين آذار/مارس وحزيران/يونيو 2020 وسُجّل خلالها تصاعدٌ غير مسبوق في حالات العنف حيث تضاعف عدد الشكاوى المتعلقة بالعنف الجسدي واللفظي ضد النساء 5 مرّات.

وتلقّى مركز الإصغاء الخاص بـ"الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات" في تونس العاصمة عام 2020 عدداً كبيراً من الشهادات لنساء تعرّضن للعنف الأسري يفوق بكثير تلك المُسجّلة في الفترة عينها من العام الماضي.

هوة واسعة بين القانون والتطبيق

تُجمع المنظمات النسوية في تونس على وجود تباينٍ كبير بين قانون 2017 والممارسات المؤسساتية والاجتماعية التي لا تواكب روحية القانون وتحترم بنوده، الأمر الذي يدل على قصورٍ تنفيذي حقيقي يحتاج إلى معالجة جدّية.

من مظاهر الاختلال بين النص والواقع هو أن القانون يوفّر الأساليب الحمائية وسبل الوقاية والحماية من العنف الأسري ويعاقب مرتكبيه ويعوّض ضحاياه، لكنه لم يوفّر لذلك بنى تحتية ومراكز إصغاء وملاجئ، ولم تخصص الدولة ميزانية كافية لتحقيق كل ذلك على الرغم من المساعدة التي وفّرتها ولم تزل مراكز الإصغاء ضمن الجمعيات النسوية التي تتوافد إليها ضحايا العنف يومياً.

بالإضافة إلى ما سبق، تغيب عن البرامج الدراسيّة الرسميّة وفي المراحل التعليميّة كافة، أي مادة تعليميّة تتناول مواضيع مثل المساواة بين الرجل والمرأة والأدوار غير النمطية للجنسين ووجوب تسوية النزاعات بالطرق السلمية في العلاقات الشخصيّة ولا عن ظاهرة العنف ضد النساء القائمة على أساس النوع االجتماعي.

صورة من مركز إصغاء في مقرّ الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات

في القانون رقم 58، ثمّة أيضاً جانب مهم يتعلّق بفصل الجاني عن الضحية عند القيام بأول فعل عنفي لكن لا يتم تطبيقه بتاتاً؛ فمختلف الأجهزة تتحاشى هذا الفصل الاحترازي لدواعٍ ذكورية وثقافية بحتة حيث ترفض عقولهم إرغام رجلٍ على مغادرة منزله وفصله عن زوجته، ضحية عنفه.

ولعل أبرز روافد الذكورية المتأصلة تكمن في تركيبة المجتمعات التقليدية التي تجعل من أوساطها أماكن غير آمنة للنساء بفعل التوزيع العرفي للعلاقات بين الجرال والنساء والتي تتجلّى في وظائف كُلّفت بها المرأة لرعاية حقوق الرجل.

الدكتورة نائلة السليني تشرح...

تفسّر الدكتورة في الحضارة الإسلامية، نائلة السليني، في مقابلة مع "ميدفيمينسوية" أصول الهيمنة الذكورية من مقاربة تأريخية إسلامية جندرية بقولها، ''إنّ بنية المجتمع الإسلامي، وإن بدت متحرّكة في نظامها الداخلي، فقد كانت في إطارها العام ثابتة، لأنّها قامت على تنظيم عرفي للعلاقات بين الأفراد، ما جعل هذا النظام يتخذ شكل بناء هرميّ".

وتضيف السليني، "إن العلاقات بين الأفراد تجسّدت في وظائف كلّفت بها المرأة لرعاية حقوق الرجل وهي في نظر الفقه الإسلامي وظائف أزليّة، وقُدّر على المرأة أن تنهض بها حتّى تستقيم الحركة الاجتماعيّة"، مشيرةً إلى أن "أخطر هذه المفاهيم وأشدها تأثيراً هو مفهوم القوامة سواء في توجيه الممارسة اليوميّة أو في توجيه عمليّة الفهم للنص القرآني".

"المرأة في نظر المجتمع الذكوري الإسلامي "كبش فداء" يحلّ ذبحه على مائدة إله لتطهير المجتمع"

وبحسب الدكتورة، فإن المرأة في المجتمعات العربية تلقّت في الأساس العديد من السهام التي أُطلقت على كيانها الاجتماعي، وذلك نتيجة الخطاب الإيديولوجي الذي انتشر في جميع الطبقات والذي يعمل على اتّهام المرأة العربية وتحميلها مسؤولية تأخّر المجتمعات الإسلامية، لأنها في نظر المجتمع الذكوري الإسلامي، وجدت "كبش فداء" يحلّ ذبحه على مائدة إله لتطهير المجتمع."

يمكن أن نستبين إذاً أن "مفهوم القوامة في الفقه الإسلامي يجعل المرأة تستمدّ هويتها وإنسانيتها بنسبتها إلى الرجل الولي والزوج والسيّد، ولا تكتسب شرعيةً في وجودها في المجتمع إلّا إذا احتوتها حماية الرجل. ونتيجة لذلك، يمكن نعتها بالكائن المسخّر لأجل الرجل، لأن المرأة نفسها قبلت دور الحامية لحقوق القوامة، وحارسة لكلّ دخيل محتمل يمكن أن يحدث خللا في هذه الرؤية المسلّمة".

في الخلاصة، ترى السليني أن "حكم الإسلاميين في تونس زاد من تصلّب المفاهيم الذكورية الدينية رغم تظاهره بالسماح بقوانين منع العنف في محاولة لتشجيع التمكين وتجميل فترة حكمهم ومغازلة الغرب، غير أن الواقع هو حيث نجد الفكر الحقيقي، ذاك الفكر الذي يحملونه داخل المجتمع" .

Exit mobile version