الجزائرية حورية سايحي: "عندما يكون لدينا شيء نقوله، يجب ألا نصمت!"

كانت حورية سايحي في التاسعة من عمرها عندما نالت الجزائر استقلالها في عام ١٩٦٢. في مجموعة كثيفة وغنية من الوثائق والشهادات غير المسبوقة، ومن الروايات المؤثرة في بعض الأحيان، تفرد سايحي أمامنا جدارية مكثفة عن تاريخ الجزائر القريب، ودليلها في ذلك مسارها الشخصي كمناضلة من أجل الحرية، وكذلك آلامها وآمالها. فقد تم تسريحها تعسفاً من قبل التلفزيون الوطني، ومُنعت أفلامها، فوجدت لنفسها مسارات أخرى لكي تستمر في المقاومة. التقينا بها للاستماع ‘ليها وهي تتكلم عما شهدته وعايشته.

هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية)

كان لا بد للسينمائية أن تفسح المجال أمام الصحافية لتقوم بإعادة تشكيل جزء من الذاكرة الجمعية:

"كنتُ أقول من قبل إن الكلام يتبدد والصور تبقى، وبما أنني لم أكن قادرة على تثبيت هذه الصور، عدتُ إلى الكلام، عدتُ إلى المكتوب. كنتُ منفية في فرنسا، لكنني كنت أذهب إلى الجزائر لكي أصور أفلامي. غير أن الرقابة وصعوبات الإنتاج والتوزيع منعتني للأسف من تحقيق منتوج بصري مكتمل. لكن عندما يكون لدينا أشياء نقولها، يجب ألا نصمت. يجب أن نقدم شهادات عن التوجه الإسلامي الذي لم يُهزم، ويجب أن نشهد من أجل أولئك الذين ناضلوا من أجل الجمهورية، ومن أجل أولئك الذين رافقونا، أولئك الذين ناضلت معهم، أولئك الذين رحلوا... أنا امرأة وصحافية ومخرجة سينمائية وممثلة وشاهدة محظوظة بما تعرف. اخترتُ من الآن وصاعداً أن أكتب وأقدم مساهمتي في قصة حياة عبر البحث في نضالاتنا ومقاومتنا. إنني أقول وأصف تعسف السلطة ومسؤوليتها في أفعال الخطف والاعتقال والإجبار على الإقامة الإلزامية والسجن، وفي كل ما أوصل التلاميذ والطلاب أو الفلاحين/ات لأن يتمردوا، وكل ما قامت به هذه السلطة من رقابة ومنع، وكل ما تم من احتجاج وتضامن مقابل تصاعد الإسلام السياسي،وردود الأفعال السلمية أو المسلّحة، وكذلك انخراط النساء في العمل السياسي. إنني أصف بلادي بهذه الكلمات، وبما لديّ من معارف والتزام".

بهذه الكلمات، قدّمت حورية سايحي نفسها، وقدمت كتابها  "امرأة جزائرية. على مدى المقاومة، أكتب اسمك". هذه الوثيقة التي تصل إلى ما يقرب الـ500 صفحة لا تشهد فقط على المسار الذي خاضته حورية كمناضلة من أجل الديموقراطية، وإنما أيضاً على مسار عدد كبير من الجزائريين/ات من جميع الفئات الاجتماعية في مقاومتهم لتعسف السلطة الجزائرية منذ السنوات الأولى للاستقلال، ثم في مرحلة تيار الإسلام السياسي، وكذلك مقاومتهم لعنف جماعاتها المسلحة.

حورية سايحي، "امرأة جزائرية. على مدى المقاومة، أكتب اسمك". شهادة، منشورات هيميسفير/ميزون نوف أي لاروز، باريس، أيار/مايو 2022.

تنتمي حورية إلى جيل ما بعد الاستقلال. وقد كبرت في ظل النظام الأوتوقراطي الذي ساد في فترة الرئيس هواري بومدين الذي وصل إلى السلطة نتيجة انقلاب 1965. ولأن بوميدين كان جنرالاً في جيش التحرير الوطني الجزائري، فقد فرض بالقوة إعادة بناء البلاد بقوة الثورات الزراعية والصناعية والثقافية. هذا النموذج الستاليني المطبّق بالطريقة الجزائرية ترافق مع قمع وحشي للمعارضة، ومع تكميم أفواه المجتمع الذي تم تسليم أمره إلى قوات الأمن العسكري المخيفة (جهاز الاستخبارات الذي كان يعمل وقتها). تم وقتها إطلاق عدة أحزاب سرية من بينها حزب الطليعة الاشتراكية PAGS الذي تأسس في كانون الثاني/يناير 1966.

تصف حورية في الجزائر بأنها "طليعية اشتراكية" على اسم الحزب الذي تنتمي إليه. قامت في كتابها بجمع روايات رفاقها حول تلك السنوات المرعبة التي قدّمت للجزائر مكانها في النظام العالمي، لكنها مهّدت الأرضية لمخاطر أخرى منها انتشار تيار الإسلام السياسي والفساد. كانت حورية في السبعينيات تحلم بعدالة اجتماعية وبفلاحين/ات سعداء وبفنانين/ات أحرار وبطلاب وطالبات ملتزمين سياسياً. كانت فرقة كاتب ياسين تغني نشيد الأممية على الخشبة، والشبان والشابات يناقشون ضمن مناظرات داخل نوادي السينما في حين كانت السينما الجزائرية تنتج أعمالاً مهمة. في عام 1975، ذهبت حورية إلى الاتحاد السوفييتي لتدرس السينما وهناك تعلمت مهنتها وناضلت في المنظمات الطلابية الشيوعية.

قام الحراك، أي الحركة الشعبية التي اندلعت عام 2019، بوضع نهاية لحكم بوتفليقة...
إن الحراك هو "الأمل بالنسبة إلى هذا البلد"

ربيعنا العربي أحمر من الغضب وأسود من الألم

 عندما عادت حورية إلى الجزائر، كانت الأشياء تغيرت جداً. فالرئيس الجديد كان شخصاً عسكرياً يتباهى بأناقته، وقد سلّم البلاد إلى أذرع جبهة التحرير الوطني الممتدة في كل مكان والتي كانت الحزب الوحيد وقتها. قام الشاذلي بن جديد من أجل فرض سياسته الليبرالية بتمزيق أوصال الشركات العامة ورمى إلى السجن كوادر نزيهة في حين تعمم الفساد وانتشر في مفاصل المنظومة الحاكمة. طاردوا المعارضين/ات وأوقفوهم وعذّبوهم، كما يروي هؤلاء في تصريحاتهم لحورية. وصلت البلاد التي انقطعت أنفاسها إلى حد الانفجار الذي حصل في تشرين الأول/أكتوبر 1988 حيث نزل الجزائريون/ات ومعظمهم من الشباب إلى الشارع للاحتجاج وقتها.

تكتب حورية:  "لقد كان تشرين الأول/أكتوبر 88 ربيعنا العربي. وكان أحمراً من الغضب وأسود من الألم". تساقط القتلى ومن بينهم صحافي، ووقعت حالات اعتقال بل تعذيب كما يذكر محررو كتاب أكتوبر 88 الأسود. استغل الإسلاميون هذه الفرصة ليعلنوا مشروعهم. منذ ذلك حين، صار يجب أن يُحسب حسابهم في كل شيء. مع ذلك، فإن تضحيات أكتوبر 1988 لم تكن بلا جدوى. ففي عام 1989 حصلت الجزائر على دستور جديد يكرّس أخيراً حرية الصحافة والحق النقابي والتعددية الحزبية. وهكذا، خرجت أحزاب مثل حزب الطليعة الاشتراكية PAGS من العهد السري وقام صحافيون بتأسيس جرائدهم الخاصة. هبت رياح الحرية على البلاد وسرعان ما قام الإسلاميون بتأسيس أحزابهم فأعطوا بذلك إطاراً قانونياً لتحركاتهم التي كانت موجودة بالفعل من قبل.

تسارعت حركة التاريخ عندها. فلكي تؤمّن السلطة بقاءها ومصالح زبائنها تركت المجال مفتوحاً أمام الإيديولوجية الإسلامية وصولاً إلى ما تم الاتفاق على تسميته العقد الأسود. أشادت حورية بآلاف الضحايا الذين أزهق أرواحهم متطرّفون. ومثل كل الديموقراطيين، ومثل كل أعضاء حزب طليعة الاشتراكية أيضاً، كانت حورية السايحي مضطرة إلى العيش بشكل سري لأن المتطرفين هدّدوها بالموت كما أنها اضطرت إلى التخلّي موقّتاً عن حياتها كأم وكامرأة  لكي تظل على قيد الحياة.

دفع الديموقراطيون الجزائريون ضريبة ثقيلة بسبب مقاومتهم للمجموعات المسلحة الإسلامية لكن من نجوا ما كانوا يعرفون أن نهاية الإرهاب قد لا تؤدي إلى عهد الديموقراطية. ففي عام 1999 تم انتخاب عبد العزيز بوتفليقة رئيساً للجمهورية. وستكتشف الطغمة العسكرية التي حملته إلى السلطة هي أيضاً جنون العظمة لدى ذلك الرجل واحتقاره للشعب الجزائري.

رفعت أسرة بوتفليقة راية الفساد، وجعلت منه شكل حكم وداست على كل قيم الجمهورية. وقد قام الحراك، أي الحركة الشعبية التي اندلعت في 2019، بوضع نهاية لحكم عائلة بوتفليقة. إن الحراك هو "الأمل بالنسبة إلى هذا البلد. لقد رأيت الشباب في المظاهرات. لقد رأيت مربع النسويات الجزائريات". ولكي تغذي الأمل، ولكي تعيد للشباب تاريخهم، أطلقت حورية سايحي نداء "لحشد القوى مجدداً حول الذاكرة من أجل الاحتفاء بأولئك الرجال والنساء الذين ندين لهم بشرفنا وحريتنا".

Exit mobile version