تونس: مراحل ثورة النساء بعد انتفاضة 14 يناير 2011

عشر سنوات والنساء التونسيّات يخضن معركتهنّ بخطى صغيرة باتجاه المساواة الكاملة ويستكملن نضالهنّ بعد أن هدّأت من حدّته توجّهات الدستور الجديد وتطلّعاتهنّ للحصول على مزيد من الحقوق والحريات.

هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)

منذ أن اندلعت ثورة سيدي بوسعيد في السابع عشر من كانون الأول/ديسمبر 2010 إثر قيام البائع المتجوّل الشاب محمد بوعزيزي بإضرام النار في جسده، استطاعت مدوّنات مثل لينا بن مهنى التي رحلت في سن الرابعة والثلاثين في السادس والعشرين من كانون الثاني/يناير 2020، وأميرة يحياوي وحتى فاطمة آرابيكا أن يلعبن دوراً أساسياً في نشر المعلومات على وسائل التواصل الاجتماعي حول القمع البوليسي ضد المتظاهرين/ات السلميين. وعلى الرغم من الطوق المحكم الذي ضربته الشرطة على النشطاء، كان للغضب المسعور والتصميم والشجاعة دورٌ هام في تحريك عدد من المعارضين/ات وتحديداً الإلكترونيّين/ات منهم.

هكذا، وفي الرابع عشر من كانون الثاني/ يناير 2011، قامت نساء من جميع الأعمار ومن جميع المهن بالتجمع في جادة بورقيبة في مركز مدينة تونس العاصمة من أجل إعلاء شعارات المساواة والحرية والكرامة.

مظاهرات، ومطالبات، ومكتسبات

بعد ذلك بأيام قليلة، وفي أعقاب المسيرات التي اجتاحت المدينة المحرّرة من نير الدكتاتور بن علي الذي ذهب إلى منفاه في المملكة العربية السعودية، قامت النساء التونسيات من الحركة النسوية اليسارية بالتظاهر من أجل المطالبة بالمساواة الكاملة بين الجنسين. وفي التاسع عشر من شباط/فبراير من العام نفسه، تم تنظيم حراك آخر شاركت فيه النساء بشكل كبير.

"ما كانت تردده النساء وقتها ضمن بقية الشعارات المعتمدة يتجاوز المطالبات النسوية الصريحة الواضحة إذ كن يرددن: "العلمانية أولاً. العلمانية كشرط مسبق للديموقراطية والمساواة".

في الثالث عشر من آب/أغسطس 2012، وفي يوم عيد المرأة التونسية الذي يصادف ذكرى صدور قانون الأحوال الشخصية، كانت هناك حركة قوية أخرى لعبت دوراً في حشد آلاف النساء وعشرات منظمات المجتمع المدني غير الحكومية. كان ذلك بالفعل يوم الغضب القوي، فقد أراد حزب النهضة الإسلامي أن يدرج في مسودة الدستور الجديد التي كان تُصاغ آنذاك مادةٌ تتحدث عن "التكامل" بين الرجال والنساء، لتحل محل مبدأ المساواة بين الجنسين.  

فوجئ النواب الإسلاميون بالتعبئة القوية ضد مشروع المادة هذا، فادّعوا "الاستغراب وندّدوا بعدم فهم ما كانوا يريدون، وبسوء نقل المعلومة وبحملة سياسية إعلامية لا مبرّر لها". وتم سحب المادة من تلك النسخة الأولى من الدستور. أما النائبات الإسلاميات، فقمن من جانبهنّ بالدفاع عنها إلى النهاية.

هذه الثنائية القطبية على المستوى السياسي وعلى مستوى الهوية، والتي اتسمت بها أجواء السنين الثلاثة الأولى التي تلت الرابع عشر من كانون الثاني/يناير بسبب إدارة الإسلاميين لحكومة الترويكا، كانت أيضاً فترة مواتية لحضّ النساء على النضال بكل قواهنّ لحماية حقوقهنّ وحرياتهنّ في وجه التهديدات التي طالت مكتسباتهنّ.

في السابع والعشرين من كانون الثاني/يناير 2014 وعندما تم إقرار الدستور الجديد، كانت المساواة منصوصاً عليها في المادة  46 من القانون الأساسي. استطاعت هذه الفرصة التي واكبت عملية الانتقال السياسي في البلاد أن تفتح الأبواب أمام النساء، حتى ولو كانت المشاركة النسائية في البرلمان تراجعت في عام 2019 بالمقارنة مع الدورات السابقة. 

وفي السنوات الخمس الأخيرة، انطلقت معركتان أساسيّتان: الأولى تتعلق بالنضال ضد العنف الممارس على النساء، والثانية -وهي أكثر حدة- تتعلق بالمساواة في الميراث.

تونس أول دولة عربية تصدر قانوناً يحمي النساء من العنف

في السادس والعشرين من تموز/يوليو 2017، اعتمد البرلمان التونسي القانون الأساسي من أجل القضاء على العنف ضد المرأة. وكانت تلك حصيلة نضال طويل قامت به الناشطات النسويات في الحركات المستقلة قبل عشرين عاماً.

قام بتقديم مشروع هذا القانون والدفاع عنه إلى النهاية المجتمع المدني وفي الأخص الجمعية التونسية للنساء الديموقراطيات (ATFD) التي افتتحت في عام 1993 مركزاً للاستماع إلى شكاوى النساء ضحايا العنف وتقديم المشورة لهنّ. يشكّل هذا التشريع الجديد في الواقع تطبيقاً للدستور لا سيّما المادة 46 منه التي تنص  على أنه "على الدولة أن تتخذ كافة الإجراءات الضرورية من أجل القضاء على العنف ضد المرأة".

جنازة المدونة والناشطة لينا بن مهني: نساء يحملن النعش على أكتافهن.

يرى عدد من الحقوقيين/ات أن أهمية هذا النص تكمن من جانب في كونه يعتمد المعايير والأدوات الدولية في مجال النضال ضد العنف الممارس على النساء، ومن جانب آخر في كونه يقوم على الركائز الأربع لمكافحة هذه الآفة وهي الوقاية وحماية الضحايا ورعاية النساء المعرّضات للعنف، وقمع مرتكبي العنف.

كذلك، فإن النص يجرّم المعتدي ويحمي الضحايا ويقوم بمداواة جراحهنّ ويضع الدولة أمام مسؤولياتها في رعايتهن (تقديم السكن والرعاية والدعم القانوني والنفسي مثلاً). كما أنه يلغي "مادة العار" أي المادة  227 مكرّر من قانون العقوبات التي تنص على إسقاط دعوى ملاحقة القائم بفعل جنسي مزعوم دون عنف مع قاصر دون سن الخامسة عشرة في حال تزوج من ضحيته. ويشدّد القانون العقوبات المتعلقة بجميع أشكال العنف إذا ما تمت في إطار الأسرة. كذلك، يعاقب اقتراف التحرش الجنسي في الأماكن العامة، وكذلك تشغيل الفتيات الصغيرات كعاملات منزليات، ويفرض غرامات على أصحاب العمل الذين يُنقصون عمداً أجور النساء. كما أن القانون ينص على إنشاء وحدات خاصة داخل مراكز الشرطة، وتخصيص قاض للنظر في قضايا العنف. وفي المحاكم، يتم تخصيص أمكنة مستقلة مهيئة لإيواء ضحايا كافة أنواع الاعتداءات. وبذلك تكون تونس الدولة العربية الوحيدة التي أصدرت قانوناً شاملاً للقضاء على العنف ضد النساء تحديداً.

مشروع قانون المساواة في الميراث ينتظر إقراره

في استكمال لهذه الانطلاقة نحو المساواة الكاملة بين الرجال النساء المنصوص عليها في الدستور في تونس، أثار الرئيس السابق الباجي قائد السبسي في خطابه الذي ألقاه في الثالث عشر من آب/أغسطس 2017 بمناسبة عيد المرأة التونسية نقاشاً حول المساواة في الميراث؛ ذلك أنه رغم كل الإنجازات والفتوحات، ظلت المرأة التونسية ترث نصف ما يرثه الرجل.

"لا يمكن التعامل مع النساء كما كان الأمر في عام  1956، أي قبل ستين عاماً. في الواقع صارت المرأة مساوية للرجل، لكن المشكلة ما زالت تكمن في الميراث. مع ذلك فإن الميراث ليس مسألة دينية في جوهره. إنه مسألة تتعلق بالحياة اليومية وبالعلاقات بين البشر. في كل الأحوال، هذا ما أؤمن به..." تلك كانت كلمات الباجي قائد السبسي في خطاب طويل أطلق فيه النقاش حول موضوع كان ما زال من الممنوعات؛ كما أعلن فيه عن تأسيس لجنة من أجل صياغة قانون للحريات الفردية والمساواة. كذلك، أعلن الرئيس في الثالث عشر من آب/أغسطس عن تشكيل لجنة للحريات الفردية والمساواة تكون مهمتها التفكير بمشروع قانون يتعلق بعدة أشياء من بينها إلغاء عدم المساواة بين الرجال والنساء فيما يتعلق بمسائل الميراث.

والواقع أن تلك المطالب هي التي سعت الناشطات النسويات التونسيات إلى الدفاع عنها في السنوات ما بين 1980 و 2000. أمّا الفترة التي تلت الانتفاضة وحرية التعبير المُكرّسة في تونس فهي التي سمحت لتلك المطالبات بأن تتنقل من موقعها الخجول لتصبح وسط النقاشات والمنتديات.

في شهر حزيران/يونيو 2016، بادر أحد النواب وهو مهدي بن غربية إلى تقديم قانون أساسي للبرلمان يتعلق بـ "تحديد الحصص الإرثية بين المستحقين" بحسب نظام اختياري يجعل من المساواة بين الرجال والنساء قاعدة اختيارية. لكن مفتي الجمهورية وهو أعلى سلطة دينية عارض تلك المبادرة.

في هذا الإطار، أتت مبادرة الباجي قائد السبسي التي ترافقت باقتراحه إلغاء البلاغ رقم  73 الذي يمنع الزواج بين تونسية ورجل غير مسلم (في حين أن العكس ممكن) وأشعل باقتراحه جدلاً واسع النطاق في البلاد وتجاوز النقاش الساخن الحدود التونسية لينتشر في جميع أرجاء المنطقة العربية.

في الثاني عشر من حزيران/يونيو ٢٠١٨، نشرت لجنة الحريات الفردية والمساواة تقريرها. استلهم منه الرئيس السابق الباجي قائد السبسي لكي يقترح في الثالث عشر من آب/ أغسطس 2018 مشروع قانون يؤسس للمساواة في الميراث في حال لم يُطلب العكس. وحدّد الرئيس الموقف بدقة حين قال "سوف نعكس الوضع" جاعلاً بذلك من المساواة القاعدة ومن عدم المساواة استثناءً لها.

اعتمد مشروع القانون في مجلس الوزراء في تشرين الثاني/نوفمبر 2018 ثم تم عرضه على مجلس نواب الشعب المسمّى بـ ARP. في غضون ذلك، تشرذمت بشكل كبير حركة نداء تونس التي كانت تستطيع أن تحمل المبادرة الرئاسية والدفاع عنها، وتوفي الرئيس الباجي قائد السبسي في 25  تموز/يوليو 2019 وتم تشكيل برلمان غالبيته من المحافظين في خريف عام  2019. فوجد المشروع حول المساواة في الميراث نفسه منتظراً فرصاً أفضل ليعود ويُطرح على طاولة النقاش في مجلس نواب الشعب... علّه يسجّل انتصاراً جديداً لنساء تونس.

Exit mobile version