نعلم أنكِ مررتِ بصعوبات لا يمكن تخيلها، حيث كان القصف والموت حولك وحول عائلتك، كيف حالك وعائلتك بعد15 شهر من الحرب؟
بصراحة، لا أعرف كيف يمكنني وصف حالي وحال عائلتي بعد هذه الشهور القاسية. كنت أعتقد أننا سنلتقط أنفاسنا بعد انتهاء الحرب وإعلان وقف إطلاق النار، لكن الأيام أثبتت لي أن الحرب الصاخبة انتهت، لتبدأ بعدها حروب صامتة أشدُّ قسوة، علينا مواجهتها والصمود أمامها.
الظروف التي نعيشها الآن، خاصة مع دخول الشتاء، قاسية إلى حد لا يوصف. البرد، الأمطار، الرياح العاتية التي اجتاحتنا خلال المنخفض الجوي الأخير... كانت من أصعب الأيام التي مررنا بها.
ما زلت أذكر تلك الليلة جيداً، حين تكسرت خيمتي وتمزقت أقمشتها في ساعة متأخرة من الليل، بينما كان أطفالي نياماً. لم أستطع أن أغفو بسبب صوت الرياح والبرد القارس، وفجأة، دون سابق إنذار، انشقت الخيمة من شدّة الرياح، وانكسر أول عمود خشبي. كان عليّ أن أنقل أطفالي وهم نائمون، ملفوفين بأغطيتهم، إلى خيمة قريبة لعائلتي. كانت المهمة شاقة، وقلبي كان يرتجف خوفاً عليهم.
كنت أعتقد أننا سنلتقط أنفاسنا بعد انتهاء الحرب وإعلان وقف إطلاق النار، لكن الأيام أثبتت لي أن الحرب الصاخبة انتهت، لتبدأ بعدها حروب صامتة أشدُّ قسوة، علينا مواجهتها والصمود أمامها.
مررنا بالكثير من الليالي الصعبة، لكن تلك الليلة كانت مختلفة. كانت ليلة مليئة بالخوف والدموع والقلق، لحظات ستظل محفورة في ذاكرتي، لا أستطيع نسيانها.

أين تتواجدين الآن وما هي الظروف التي تعيشينها بعد الهدنة؟
خلال الفترة الماضية، كنت أعيش في منطقة مواصي خان يونس جنوب قطاع غزة، في ظروف قاسية جداً، خاصة مع أربعة أطفال. كنت مضطرة لتلبية احتياجاتهم اليومية وسط معاناة العيش في خيمة، بين الرمل والحشرات، وفي ظل البرد القارس الذي يشتد هذه الأيام. كل ذلك شكَّل ضغطاً نفسياً هائلاً علي، وجعل الثبات يبدو شبه مستحيل. ورغم ذلك، كنت أحاول دائماً أن أكون أماً قوية، صامدة، قادرة على تلبية احتياجات أطفالي مهما بلغت قسوة الظروف.
الآن، عدتُ إلى غزة بعد أن تمكنّا أخيراً، وبصعوبة كبيرة، من العثور على شقة للإيجار. المبلغ مرتفع جداً، لكن لم يكن هناك خيار آخر، فكان لا بد من الخروج من جحيم الخيمة. لكن للأسف، لم تكن العودة سهلة، إذ وجدت نفسي أمام مراحل جديدة من المعاناة، في مدينة لم أعد أعرفها، وفي حيٍّ جديد لا أعرف فيه أحداً.
أنا وزوجي مطالبان بتأمين كلّ احتياجاتنا الأساسية من الصفر: توفير المياه، شحن الهواتف، تأمين الإضاءة، ناهيك عن ترميم الشقة التي تعرضت للقصف، حيث لا نوافذ ولا أبواب تحمينا. ورغم كلّ هذا، نحاول إصلاح ما يمكن إصلاحه، علّنا نحول هذا المكان إلى مأوى يحتضن عائلتنا من جديد.

كيف تغيرت حياتك ومشاعرك بعد الدمار الذي لحق بمنزلك والمنطقة المحيطة؟
الطرق تغيرت، الأحياء التي كُنّا نحفظها عن ظهر قلب، كما يُقال، لم تعد كما كانت، فقد تبدلت ملامحها هي الأخرى.
حتى هذه اللحظة، لا أظن أنني قوية بما يكفي للوصول إلى ركام منزلي، ولا أعتقد أنني أجرؤ على الوقوف أمامه ورؤيته على أرض الواقع. طوال شهور العدوان، ورغم أنني تلقيت مقطع فيديو يوضح حجم الدمار الذي لحق بمنزلي وبالمنطقة المحيطة به، كنت أقول لنفسي: "عندما تنتهي الحرب، سأذهب إلى هناك وسأجد بيتي قائماً كما كان". هكذا كنت أواسي نفسي وأصبرها، وهكذا كنت أؤمن.
وحتى الآن، ما زلت أتمسك بذلك الوهم، وأقول ربما، فقط ربما، أذهب إلى هناك وأجد البيت ينتظرني، وكلّ شيء تركته داخله لا يزال في مكانه. لكن للأسف، هذه ليست سوى أضغاث أحلام.
كيف كان تأثير ذلك على عائلتك؟ وكيف تشرحين للأطفال مثلاً أن المنزل لم يعد موجوداً؟
بصراحة، كان هذا أحد أصعب المواقف التي مررت بها. بالمناسبة، لدي أربعة أطفال: أكبرهم ريان، يبلغ من العمر ثمانية أعوام، يليه إبراهيم، الذي سيتم عامه السادس في إبريل المقبل، ثم كرمل، التي ستكمل عامها الرابع في نفس الشهر. أمّا كندا، أصغر أطفالي، فعمرها عام ونصف، أي أنها وُلدت في ظل الحرب. عندما نزحت من منزلي في اليوم الأول للعدوان، كان عمرها شهراً وثلاثة أسابيع فقط. منذ ذلك الوقت، لم تعرف سوى النزوح، والحياة في الخيام، وظروف الحرب القاسية.
ريان، ابني الأكبر، يدرك أن منزلنا دُمّر وأننا لن نعود إليه. إبراهيم أيضاً يعلم أننا فقدنا منزلنا، لكنه لا يستوعب تماماً أننا لن نعود إليه. أحياناً يتحدث عن المنزل وكأنّه مدمر، لكنه سرعان ما يتذكر ألعابه وأغراضه التي تركها هناك، معتقداً أننا سنعود يوماً ما ليأخذها. أما كرمل، التي لم تُكمل عامها الرابع بعد، فلا تفهم ولا تدرك أننا فقدنا بيتنا.
من أصعب المواقف التي مررت بها، تلك الأيام التي كنا ننتظر فيها الإعلان عن وقف إطلاق النار، حين كانت كرمل تسألني: "يعني يا ماما، رح نرجع على بيتنا؟ إذا خلصت الحرب، رح نروح على بيتنا؟". كان هذا من أصعب الأسئلة التي طرحتها عليّ طفلتي. لم أكن أرغب في الإجابة، وكنت أفضّل أن تظل على حالها، بدلاً من أن أخبرها أن منزلنا دُمّر، وأننا ببساطة لم يعد لدينا واحدٌ نعود إليه.
في كل مرة أتحدث فيها عن منزلي، أكتشف أنني ضعيفة، أنني حزينة، أنني يتيمة من دون هذا البيت. يؤلمني أنني حين أعود إلى غزة، لن أعود إلى منزلي. يؤلمني أيضاً أنني تركت هناك كل أغراضي، وذكرياتي، وممتلكات أطفالي، ولم أستطع أن أحمل معي أي شيء في الساعات الأولى من النزوح.
ما يجعل الأمر أكثر قسوة، أنني سكنت في هذا المنزل قبل عام واحد فقط من العدوان. كان منزلي حديثاً، وقد بنيته بعد عشر سنوات من معاناة التنقل بين شقق الإيجار. كنت أعتقد أنه سيكون بيت العمر، البيت الذي سيكبر فيه أطفالي، ويحتضن ذكرياتنا، ويشهد على تفاصيل حياتنا. جهزته بحبّ، وأشرفت على كل تفاصيله، من أصغر المستلزمات إلى أكبرها. في مرحلة التشطيب، حين كنا نشتري المواد، كان الباعة يسألوننا: "هل تريدون النوع التجاري أم النوع الأصلي؟" كنت أجيب فوراً: "طبعاً الأصلي، فهذا بيت العمر". أردت أن يكون كل شيء متيناً، يصمد أمام شقاوة أطفالي، ولعبهم، وحركاتهم العفوية. لم يخطر ببالي يوماً، حتى في أسوأ كوابيسي، أنني سأفقده بعد أقل من عام على سكني فيه.
كانت هذه واحدة من أقسى صدماتي في العدوان. كنت أعتقد أنني مع مرور الشهور سأتجاوزها، لكنني في كل مرة أتحدث فيها عن منزلي، أكتشف أنني ضعيفة، أنني حزينة، أنني يتيمة من دون هذا البيت. يؤلمني أنني حين أعود إلى غزة، لن أعود إلى منزلي. يؤلمني أيضاً أنني تركت هناك كل أغراضي، وذكرياتي، وممتلكات أطفالي، ولم أستطع أن أحمل معي أي شيء في الساعات الأولى من النزوح.
لكن هذا قدري، وهذا قدر كلّ من يعيش في قطاع غزة. الحمد لله.
بصفتكِ صحفية، كيف تعاملتِ مع تغطية الأحداث بينما كنتِ تعيشين المأساة شخصياً؟
بصراحة، من الصعب جداً أن يُطلب من الصحفية تغطية الأحداث والحرب بينما تعيش بنفسها واقع هذه الأخبار والمأساة. عملتُ كمراسلة لإذاعة نساء أف أم، حيث كنت أرسل تقارير صوتية يومية أنقل فيها آخر المستجدات. كما تواصلت معي بعض الإذاعات العربية، مثل تلك في تونس والأردن ولبنان، للعمل كمراسلة لها أيضاً.
رغم كلّ ما حدث، كيف تحافظين على قوت ؟
هذا سؤال صعب، وربما يرتبط بالسؤال السابق. بصراحة، لم أستطع الحفاظ على قوتي كأمّ وكامرأة طوال الوقت. في كثير من الأحيان، كنت أنهار، وأبكي، وأصرخ، وهذا من أصعب ما مررت به خلال العدوان. لم أكن قادرة على أن أكون قوية دائماً، وكثيراً ما انهرت أمام أطفالي.
لا أدري إن كانت الحرب قد انتهت حقاً أم لا، لكنني أندم على كثير من المواقف التي جمعتني بأطفالي، والتي كنت فيها قاسية معهم بسبب الضغط النفسي الهائل الذي عشته. أنا نازحة منذ اليوم الأول للعدوان، لم أكن في منزلي، وكنت مشتتة ومشردة، أتنقل من بيت إلى آخر. أمّ مع أربعة أطفال، في منزل مكون من عدة طوابق، يضم أكثر من عائلة، وكبار سن، حيث نتشارك كلّ شيء، كلّ تفاصيل الحياة، بلا أي خصوصية. وفي هذا المشهد، كان أطفالي هم الحلقة الأضعف، وربما كنت أفرغ غضبي وقهري فيهم، وهذا أمر لم أعتد عليه من قبل، ولم أفعله في الأيام العادية. لكن الحرب أجبرتني عليه، وأنا نادمة الآن، وأحاول تصحيح أخطائي واستدراك ما فات.
ما رأيك بخطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الخاصة لإعادة إعمار غزة وإخراج الفلسطينيين منها؟
نحن بالتأكيد ضد أن يتم تهجيرنا قسرياً، وضد أن يتم إفراغنا من غزة، وضد أن يتم بيع غزة والأفكار المجنونة التي يتحدث عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. نحن أبناء هذا البلد وسنبقى فيها رغم كلّ ما حل بها. لكن نحن نريد فرصة للخروج، لنستعيد عافيتنا وقوتنا ثم نعود مرة أخرى إلى غزة.