تروي لينا مراد، وهي نازحة من الضاحية الجنوبية لبيروت أن زوجها أصيب في إحدى الغارات على منطقة حارة حريك، وأصبح الآن عاجزاً عن العمل، تقول: " أخبرنا أحد سكان المنطقة أن بيتنا دُمّر أيضاً، ولا أعرف إلى أين سأعود، كما أننا لا نستطيع تحمّل عبء إيجارات المنازل في الوقت الحالي".
ليلى وعائلتها غادروا المنزل منذ نحو شهر واستقروا في منزل شقيقتها في منطقة الحمراء، لكن البيت ضيّق ولا يمكنهم البقاء هناك لفترة أطول.
حجم الأضرار بالأرقام
بحسب مؤسسة "الدولية للمعلومات"، المتخصصة في الدراسات والإحصاءات، بلغ العدد الإجمالي للوحدات السكنية التي دُمّرت خلال شهرين فقط من الحرب 42 ألف وحدة سكنية. أما العدد الإجمالي للوحدات المدمرة منذ بداية حرب غزة في عام 2023، فقد وصل إلى 46 ألف وحدة سكنية، أصبح جزء كبير منها غير صالح للسكن، بينما يحتاج الجزء الآخر إلى إصلاحات وترميم. وتتوزع هذه الوحدات في مناطق مختلفة. من جهة أخرى، تكشف "الدولية للمعلومات" أن أضرار الحرب الأخيرة، هي ضعفا أضرار "حرب تموز*" عام 2006. بلغت أضرار حرب عام 2006 التي استمرت 33 يوماً، 5 مليار و300 مليون دولار أميركي، فيما وصل مجموع الأضرار المباشرة وغير المباشرة للحرب الأخيرة إلى 11 مليار و200 مليون دولارٍ أميركي، علماً أن أكثر من 9 مليارات من هذه الخسائر، سُجِلتْ في الشهرين الأخيرين فقط. ووفقاً للتوقعات، يحتاج لبنان إلى أربع سنوات لإعادة بناء الأبنية المهدمة، إذا توفر التمويل.
غصّة رغم فرحة عودة النازحين
علي، الذي التقيناه في شارع الحمراء، روى لـ"ميدفيمينسوية" أنه فقد بيتين في قريته في جنوب لبنان، وشقةً في ضاحية بيروت الجنوبية: "لم أعد أملك أي شيء". اضطر علي مع عائلته ووالديه إلى استئجار شقّة صغيرة في فترة النزوح، وحين سألناه عما ينوي فعله بعد انتهاء الحرب، قال: "سأزور الجنوب لأودّع بيتي الذي أصبح ركاماً، وسأحاول لملمة بعض الذكريات والأشياء... ثم سنرى".
لا شكّ أن مشاهد عودة النازحين إلى قراهم وبيوتهم في جنوب لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع، تشرح القلب، والضحكات التي على وجوههم تكاد تمحو من ذاكرتنا أوجاع الحرب، إلا أنه لا يمكن إنكار حجم الخسائر البشرية والاقتصادية والاجتماعية، التي سيتعين على لبنان وأهله تحمّلها، في ظل مؤسسات رسمية مفلسة وأزمة اقتصادية ما زلنا نواجه تحدياتها تتفاقم يوماً بعد يوم.
من جهة أخرى، لا يزال القلق يسيطرعلى اللبنانيين في ظل مخاوف من اندلاع الحرب مجدداً، خاصة مع الخروقات الإسرائيلية شبه اليومية، والتي شملت قصفاً في الجنوب وترويعاً للعائدين وتحليقاً للمسيرات في سماء بيروت.
وهدد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالعودة إلى حرب شرسة في لبنان رغم اتفاق وقف إطلاق النار، وقال للقناة 14 الإسرائيلية: "إن الاتفاق ليس إنهاء للحرب بل هو وقف لإطلاق النار وقد يكون قصيراً إذا حدث خرق".
هذا التأرجح والمخاوف من معاودة القصف وإنذارات الإخلاء يزيدان من من قلق ومعاناة النساء والعائلات التي ما زالت ترزح تحت تبعات الشهرين الماضيين، لا سيما في ظل ظروف النزوح والتشرّد ومراكز الإيواء غير المجهّزة، وستكون العائلات مضطرة لتحمل المزيد، ذلك أن إعادة الإعمار مسألة بغاية التعقيد في الفترة الحالية، إضافة إلى الخسائر الكبيرة التي لحقت بالاقتصاد في مناطق النزاع، فقد قُدّرت أضرار المؤسسات الصناعية والتجارية والسياحية بـ 510 ملايين دولارٍ أميركي، منذ 17 أيلول/ سبتمبر الماضي، تاريخ توسع الحرب الإسرائيلية على لبنان. وهي خسائر يبدو تعويضها صعباً، هذا في حال كان ممكناً، ما يجعل حياة السكان والعائدين أكثر تعقيداً، إذ خسروا أبواب رزقهم ووظائفهم، لا بيوتهم وأحباءهم وحسب.
مشاهد العودة المفرحة لا تكفي لمحو عام كامل من القهر خاصة الشهرين الأخيرين اللذين كانا جحيماً على الجنوب والبقاع وبيروت وضاحيتها الجنوبية، والتي شهدت نزوح حوالى مليون ونصف لبناني ولبنانية، لم تستطع مراكز الإيواء استيعاب سوى جزء بسيط منهم.
أراضٍ وبلدات دُمِرت بالكامل
عدم اليقين والخوف من تكرار الحرب يجعلان حياة اللبنانيين واللبنانيات مبنية على الخوف وانتظار الأسوأ، على الرغم من فرحة العديد بعودتهم إلى منازلهم، لا يزال سكان أكثر من 70 قرية في الجنوب غير قادرين على العودة حتى الآن، بعد تحذيرات إسرائيلية بعدم العودة، وقصف أو ترهيب لمن حاولوا العودة.
إلى جانب ذلك، قدّر البنك الدولي خسائر قطاع الزيتون، الذي يُعد مصدر رزق أساسي لعدد كبير من سكان الجنوب، بنحو 58 مليون دولار أميركي، وذلك بسبب النزوح والحرب، ويُذكر أن مساحات شاسعة من الأراضي أصبحت غير صالحة للحصاد أو الاستهلاك البشري نتيجة قصف الفوسفور الأبيض المحرّم دولياً الذي طالها.
"دمّر بيتنا في كفركلا، والبيت الذي كنا نعيش فيه في منطقة الشياح لا أعرف شيئاً عنه، عليّ أن أذهب حتى أتأكد أنه ما زال موجوداً، فقد تم استهداف أبنية مجاورة له"، تقول زينب، التي اضطرت إلى ترك بيتها منذ شهرين تقريباً من أجل طفلتها التي لم تكن قادرة على تحمّل أصوات القصف طوال الوقت. تتابع: "لقد صرفت مدّخراتي كلها، والمؤسسة التي كنت أعمل فيها سوّيت بالأرض في الضاحية الجنوبية لبيروت، لكن لا بأس المهم أن يكون وقف إطلاق النار حقيقياً وأن نحصل على وقت كافٍ لاستجماع حياتنا وبيوتنا". وتضيف: "ابنتي في الخامسة، وهي في وضع نفسي يحتاج إلى متابعة، أتمنّى أن أستطيع مساعدتها في الفترة المقبلة، هذا كل ما أتمناه، البيوت يمكن تعويضها والوظائف أيضاً".
مسح الجيش الإسرائيلي 37 بلدة في جنوب لبنان بالكامل، وهي بلدات فقدت معالمها، حتى بات من الصعب تحديد الحدود بينها، وفقاً لبعض الأهالي الذين التقيناهم.
وبحسب تقرير صدر قبل نحو أسبوع عن "الوكالة الوطنية للإعلام" وهي وكالة الأنباء الرسمية في لبنان، فإن تدمير القرى ومنازلها وقع في منطقة تمتد على عمق 3 كيلومترات من الحدود الجنوبية من بلدة الناقورة حتى مشارف الخيام، إذ دمر الجيش الإسرائيلي بشكل منهجي بلدات جنوب لبنان، التي بدت خاوية وسط أكوام الركام بعد نزوح سكانها.
ربما توقفت إنذارات الإخلاء التي كان يمطرنا بها، المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، وربما ما زلنا على قيد الحياة، لكنّ الدمار هائل و46 ألف عائلة لن تتمكن من النوم في بيوتها، حتى مع انتهاء الحرب. قالت إحدى السيدات: "أخشى أن أعود إلى قريتي ولا أجدها".