هذه المقالة متاحة أيضًا بـ: Français (الفرنسية) English (الإنجليزية)
تتّسم ظروف حياة النساء من ساحل العاج وعملهنّ بممارسات تمييّزية كثيرة تفقدهنّ إنسانيتهنّ، وبمعاناة كبيرة من مختلف أشكال العنف المبني على النوع الاجتماعي، بالإضافة إلى عدم حيازتهن على وثائق رسمية، ما يزيد من تعرضهنّ للاستغلال.
تأتي ليديا التي تبلغ 47 من العمر من منطقة ريفية في ساحل العاج. لديها ابن واحد، وتهتم بتربية ثلاثة من أولاد أخيها. وصلت إلى تونس عام 2018، حيث بدأت تعمل في مخزن في أبيدجان مقابل ما يساوي250 درهم تونسي شهرياً، أي ما يعادل أربعة وسبعون يورو. في يوم من الأيام، طلبها أحد أفضل زبائن صاحب عملها التي تقول ليدينا إنه "هو الذي حدثني عن تونس مؤكداً لي أن ما سيُدفع لي هناك مقابل القيام بالمهام نفسها ليس أقل من500 فرنك إفريقي CFA، أي ما يعادل ثلاثة آلاف دينار وخمسمائة بالشهر، أو1200 يورو".
وتتابع ليديا، "أخذ ذلك الزبون على عاتقه نفقات السفر وبطاقة الطائرة والحجز في فندق، وطلب مني أن آخذ معي500 فرنك أفريقي لأسلّمها هناك لأخ من ساحل العاج سيقوم باستقبالي في تونس ويؤمّن لي إقامتي في عملي الجديد. لكن، بخلاف اتفاقنا، اصطحبني المراسل الوسيط من ساحل العاج الذي أعطيته المبلغ المتّفق عليه، بمجرد وصولي، إلى عائلة في جندوبة حيث كان عليّ أن أقوم بتنظيف البيت طيلة أيام الأسبوع بدون عطلة ولمدة شهور خمس لم أنل فيها قرشاً واحداً. كنت أنام في الكراج ولا أجد طعاماً أسدّ به رمقي. كذلك، صادرت العائلة جواز سفري ولم يعد لدي الحق في مغادرة البيت".
وقعت ليديا إذاً ضحية لممارسات الاتجار بالبشر التي انتشرت منذ ما يقرب 8 سنوات، وتديره بين ساحل العاج وتونس شبكة من رجال المافيا تتألف بشكل خاص من رجال، من ساحل العاج وتونس. بعد شهر من تشغيلها لدى هذه العائلة التي تعود بأصولها إلى مدينة صغيرة في شمال غرب البلاد، فهمت ليديا أنها وقعت ضحية لاحتيال مزدوج. وبدا لها ذلك بشكل واضح عندما بلّغتها صاحبة البيت أنها ستعمل عندهم "بموجب عقد ثانوي". كما شرحت لها صاحبة عملها الجديدة أنها دفعت المبلغ للوسيط الذي وعدها منذ شهور عدّة بإحضار خادمة من ساحل العاج، وأنه بمجرد أن ينتهي ذلك العقد، تستطيع أن تتلقى راتباً حقيقياً. كم كانت صدمة ليديا كبيرة، وكم شعرت باليأس والغضب... كانت تجهل تماماً كل ما كان ينتظرها في تونس.
عذاب الحياة... بموجب عقد
تستذكر ليديا تلك الفترة وتخبر "ميدفيمينسوية"، "كنتُ أبكي طيلة الوقت لأنني كنت أعمل دون توقف، والسيدة كانت قاسية جداً معي. لكنني قلت لنفسي، "سوف أُسكت قلبي وأقبل بوضعي ريثما أستعيد جواز سفري وأتحرّر". بالإضافة إلى كل ذلك، كنت أشعر أنني أعيش في آخر العالم لأنني لم أكن أعرف البلاد ولم يكن لدي أي شخص أستطيع أن أسرّ له بآلامي".
نويمي، 26 عاماً، هي أيضاً من ساحل العاج وأم لثلاثة أطفال عهدت بهم إلى أختها. وصلت إلى تونس في أيار/مايو2022 . قصتها تشبه كثيراً قصة ليديا. فقد التقت بالصدفة بأحد أبناء بلدها وهو عضو شبكة بيع الأوهام تلك. مدح لها تونس على أنها بلد مزدهر يمكن الانطلاق منه للوصول إلى السواحل الإيطالية بيسر وسهولة. رسم لها مشروع رحيل سرّي نحو أوروبا بعد أشهر من الترانزيت في تونس حيث سيمكنها أن تجمع، بفضل صديق تونسي، ثمن رحلتها لعبور البحر، عن طريق العناية بمنزل سيدة لا أطفال لها. وافقت نويمي وقرّرت دفع ما ترتب عليها إلى الوسيط التونسي الذي استقبلها في مطار تونس، ثم استفاد من جهلها بأسعار الصرف ليقوم بتبديل ما لديها من مصروف جيب يبلغ500 فرنك أفريقي، وهو كل ما وفرته، وأعطاها بالمقابل 100 درهم تونسي، أي 30 يورو.
قبل أن يرحل دون أن يترك لها أي عنوان، أوصل الوسيط نويمي لدى سيدة تسكن في حي النصر الغني في الضاحية السكنية لتونس العاصمة. خضعت خلال شهور أربعة لجميع أنواع الصعوبات التي تحيط بحياة الخدمة المنزلية بموجب "عقد ثانوي"، من احتجاز في البيت، إلى مصادرة جواز السفر، والعمل دون هوادة، من دون أن تجني منه أي فائدة مالية.
تروي نزويمي، "قال لي الوسيط إنه ما زال هناك ديون ترتبت علي من مصاريف السفر ويجب سدادها. فتفاوض مع أصحاب البيت بحيث يقبض كل مكافآتي خلال فترة العقد أي ما يعادل 2500 دينار تونسي/ 740 يورو. كان العمل شاقاً لدى هذه العائلة المؤلفة من أربعة أشخاص. كان عليّ، بالإضافة إلى تنظيف البيت، أن أقوم بالتسوق والعناية بالحديقة والاعتناء بوالدهم العجوز المقعد. في المساء، كان يصرخ عندما يقع من سريره وكان عليّ أن أعيده إلى مكانه. كذلك، كان يوقظني في مطلق أي ساعة من الليل. أرهقني ذلك، وأصبت بالتهاب العصب الوركي بعد أن انتهى عقدي، لكن صاحبة البيت رفضت أن تعالجني وأن تعطيني أياماً لأستريح، لا بل صرخت في وجهي قائلة: "إن كنت مريضة، عليك أن تتركي. لم نشغّلك عندنا كي تبقي في السرير!". لم أكنقادرة على التحمل أكثر. استعدت جواز سفري ورحلت".
فالعنف الذي يُمارس داخل العمل، والذي تخبره النساء من أصول جنوب صحراوية، هو عنف متعدد الأشكال. هناك العنف الجسدي، والعنف الناجم عن الاتهام بالسرقة والحرمان والتهديد والتحرش الجنسي، وهناك التحرش المعنوي
القصص الشبيهة بحكاية ليديا ونويمي كثيرة للغاية. حتّى أن بعضها لا يمكن سماعه لقسوتها. سالي التي تبلغ 27 من عمرها اضطرت إلى تحمّل رب عائلة كبيرة العدد التي كانت تعمل لخدمتها. اعتاد هذا الرجل في كل مرة تغلق فيها سالي على نفسها باب المطبخ أن يأتي ويحك جسده بفخذيها. حين لم تفد اعتراضاتها في شيء، اضطرت إلى أن تصوّر نفسها من أجل أن تثبت لأسيادها أنها تقول الحقيقة.
أما ناتاشا التي تبلغ 36 من عمرها، فلم يكن يحق لها استعمال السائل المطهّر لليدين خلال فترة الكوفيد، في حين كانت سيدة المنزل تجبرها على أن تستخدم بكثرة ماء الجافيل بيديها العاريتين، وأن تنظف الأرضية بهذا المنتج دون أن ترتدي شيئاً في قدميها. والنتيجة كانت تهتك أصابعها ومعاناتها من مشاكل تنفسية*. أما ماري، 29، ففقدت ابنها الرضيع البالغ من العمر ثلاثة أشهر قبل أقلّ من سنة لأنها عهدت به خلال النهار إلى حضانة غير مرخّصة في ساحل العاج، فلم يستطع النجاة من الإهمال المحيط به. أصيبت ماري بالانهيار العصبي جراء ذلك وهي تعيش اليوم مما تناله من التضامن المجتمعي...
تختلف تصرّفات أصحاب وصاحبات العمل وتجاوزاتهم من حالة إلى أخرى. فكريستيل، 40 عاماً، وهي أم لثلاثة أطفال وصلت إلى تونس عام 2018، أسعفها الحظ بأن تعمل لدى سيدة متفهمة وتتصرّف بإنسانية. "حتى ولو كنت أعمل بموجب عقد ثانوي، فإنها ما كانت تتردد في إعطائي مالاً إضافياً، وكانت تتركني أخرج على هواي لأذهب إلى صالون الحلاقة الذي يقع بالقرب من منزلها. كنت أذهب لأمارس شغفي وهو تصفيف الشعر والتجميل".
الاتجار بالبشر: تاريخ الجريمة
بدأ نشاط الاتجار بالنساء من ساحل العاج إلى تونس عام 2014، بعد سنتين من إيقاف تأشيرات الزيارة بين البلدين، نتيجة اتخاذ بلد "الربيع العربي" الأول مبادرة إيقاف التأشيرات شرطاً للدخول، بعد ملاحظة تمركز شركات تونسية عدّة في قطاع الأشغال الكبيرة والتجارة الدولية وإعادة البناء في ساحل العاج. في الأصل، كانت نية تونس أن تسهّل حركة انتقال المقاولين المحليين نحو القارة التي تقع جنوب الصحراء. لكن سرعان ما تشكّلت إثر ذلك شبكات تجارة البشر في كلتا المنطقتين من أفريقيا.
كانت تلك صفقات مثيرة ومشبوهة في آن معاً استطاعت أن تستفيد من جهة من الاضطرابات السياسية التي عرفها ساحل العاج بين 2010 و2011، ومن جهة أخرى من التضخم المتسارع في اقتصاده، والرواتب القليلة التي تنالها اليد العاملة، والبطالة التي يعاني منها الشباب بشكل دائم، وغيرها من العوامل. من الجانب التونسي، اعتُبرت مهن التنظيف والرعاية كمهنٍ غير محترمة اجتماعياً، وكان هناك صعوبة في توظيف نساء لهذه المهمات خلال العقدين الماضيين، تحديداً نساء يعشن داخل البيوت التي يعملنَ فيها. فهؤلاء العاملات في مجال الخدمة المنزلية يعملن 24 ساعة في اليوم، وقد يستطعن في بعض الحالات أخذ استراحة مرة في الأسبوع.
مع ذلك، فإن الطلب ظل عالياً على فئتَين من المُساعدات المنزليات: المقيمات، و"الصاعدات نازلات"، وهي التسمية المستخدمة في ساحل العاج لوصف طبيعة عمل النساء اللواتي يرجعن إلى بيوتهن بعد انتهاء عملهنّ في نهاية فترة بعد الظهر، ويعدن للعمل في اليوم التالي صباحاً. وإن كان لهذا العمل طابعه الجندري بالأصل، فإنه سرعان ما اكتسب تدريجياً في تونس طابعاً عنصرياً إذ تمت الاستفادة من هشاشة أوضاع النساء من منطقة جنوب الصحراء (على الأخص في ما يتعلق بالأجر الذي نادراً ما يتجاوز 750 ديناراً تونسياً/ 220 يورو)، بخاصة وأن معظمهن يعيش في وضع غير قانوني في تونس بسبب القيود التشريعية المتعلقة بإقامة الأجانب وعملهم، من الرجال والنساء.
سلسلة مستمرة من العنف
بحسب التحقيق الوطني حول الهجرة الدولية الذي نُشر عام 2021، يُقدّر مجمل السكان الأجانب الذين يعيشون في تونس بـ 59 ألف شخص (أي 5% من مجمل السكان التونسيين). يكشف التحقيق أن مجموعة المهاجرين الذين يعودون بأصولهم إلى بلاد أفريقيا خارج المغرب (ساحل العاج، وغينيا، ومالي) هي التي سجّلت أكبر نسبة نمو في السنوات الأخيرة، حيث ازداد العدد التقديري من7 200 شخص عام 2014 إلى 21 466 شخص في الفترة التي تم فيها التحقيق. يأتي أبناء ساحل العاج على رأس هؤلاء، إذ يشكلون حوالي 70 % من سكان جنوب الصحراء الذين دخلوا إلى تونس.
ووفق دراسة تحمل عنوان "مسار حياة النساء المهاجرات في تونس" والتي أعدّتها جمعية "تونس أرض اللجوء" عام 2020، فإن غالبية النساء المهاجرات من ضحايا الاتجار بالبشر اللواتي استقبلتهن الجمعية، هن بالأساس من جنسية ساحل العاج (79%). صرّحت هؤلاء النساء أنهن أتين إلى تونس بحثاً عن فرص عمل أو لأنهن كنّ وجدن قبل قدومهن عملاً في البلد.
"يظلّ هذا النوع من الاتجار بالبشر مصدراً للعنف متعدّد الأشكال التي تتداخل في ما بينها. فمنذ قيام المهاجرات بالبحث عن عمل في البلاد الأصلية وحتى نهاية ما يسمّى "العقد"، يتعرّضن للعنف الاقتصادي الذي يمكن تشبيهه بالعبودية الحديثة. فالعنف الذي يُمارس داخل العمل، والذي تخبره النساء من أصول جنوب صحراوية، هو عنف متعدد الأشكال. هناك العنف الجسدي، والعنف الناجم عن الاتهام بالسرقة والحرمان والتهديد والتحرش الجنسي، وهناك التحرش المعنوي"، تلاحظ مارتا لوسينو مورينو، وهي باحثة في جمعية "بيتي". وقد نفّذت هذه الجمعية ضمن ما تنفّذه من أبحاث عام 2021 دراسة نوعية حول "العنف الممارس على النساء والفتيات المهاجرات داخل تونس".
المقيمون/ات "بدون أوراق" داخل تونس
لا تتقدم المهاجرات من ضحايا العنف بأي شكوى، في حين أن القانون الأساسي الذي صدر عام 2016 والمتعلق بمنع ومكافحة الاتجار بالبشر، يحميهن ويعاقب المعتدين عليهن. في هذا الإطار القانوني، تم تأسيس الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر عام2017 (ومواردها تظل محدودة بلا شك)، وذلك من أجل تقديم مساعدة قضائية لهؤلاء النساء، وتوجيههن نحو الجمعيات الصديقة لغير التونسيين/ات. أما سبب عزوف المهاجرات عن الشكوى فهو أن معظمهن يعشن وضعاً إدارياً غير منتظم، ما يزيد من تردّدهن وهشاشة وضعهنّ، كما يضمن ذلك، للأسف، عدم معاقبة الأفراد الذين ارتكبوا أو ساهموا في الاحتيال عليهنّ وإساءة معاملتهنّ واستغلالهنّ وانتهاك حريتهن.
بعد دخول هؤلاء النساء إلى تونس بتأشيرة دخول سياحية صالحة لأشهر ثلاثة، يتوجب عليهن الحصول على بطاقة إقامة. لكن الطبيعة التقييدية للإطار القانوني الوطني التونسي الناظم لاستخدام الأجانب من الرجال والنساء، وغياب قانون حول اللجوء، يجعلان من شبه المستحيل حصول المهاجرات على بطاقة إقامة، لأنهنّ سيحتجن قبلها إلى الشروع بإجراءات عقد العمل وتصريح العمل وفقاً لقواعد الأولويات المعطاة للعاملين/ات من التونسيين؛ إذ "لا يمكن انتداب أجانب عند توفر كفاءات تونسية في الاختصاصات المعنية بالانتداب"، بحسب ما نص عليه قانون عام 1968.
بعد تصريحات الرئيس، رفضت ليديا وكريستيل أن ترحّلهما سفارتهما إلى ساحل العاج...
وفي حال عدم توفر بطاقة الإقامة، يتوجب على المهاجرين/ات دفع خطية (غرامة) بسبب تجاوز مدة الإقامة تعادل 20 ديناراً تونسياً/ 7 يورو، عن كل أسبوع. ولأن الغرامات تتراكم ويمكن أن تصل إلى عدة آلاف من الدنانير، فإن المهاجرات والمهاجرين يبقون في حالة غير منظمة قانوناً (الرجال من ساحل العاج يعملون في القطاع غير الرسمي المخصّص لورشات البناء، ويعيشون في ظروف تمييزية أيضاً، وينالون أجوراً أقل مما يناله التونسيون ويجدون أنفسهم أمام استحالة دفع ما يترتب عليهم).
على الرغم من تحديد سقف الغرامات عام2017 بحيث لا يتجاوز 3 000 ديناراً تونسياً/ 900 يورو، فإن الوضع الذي تعيشه النساء "بدون أوراق"، يبقيهن في إطار أكثر المهن بعداً عن الوضع النظامي وأكثرها هامشية. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه يمنعهنّ من الاستفادة من النظام الصحي العام ومن تسجيل أولادهن في المدارس، كما يمكن أن يؤدي إلى طردهنّ بقوة السلاح، ومنعهن لسنوات من العودة إلى بلادهن لرؤية أولادهن. يدفعهنّ ذلك نحو "الحرقة"، أي عبور البحر الأبيض المتوسط بشكل غير شرعي، أو نحو اتخاذ الحيطة واعتماد استراتيجيات الحذر والاختفاء والتجنب بشكل متكرّر.
العيش بعيداً عن الأنظار
نادراً ما تخرج نويمي يوم الأحد، وهو يوم عطلتها، خوفاً من أن يتم طلب أوراقها من قِبَلِ الشرطة. وبالتالي فإن حياتها الاجتماعية معدومة تماماً. "لماذا يكون لدينا أصدقاء وصديقات طالما أنه ليس باستطاعتنا أن نرى بعضنا وأن نلتقي في مقهى وأن نتنزه؟ لماذا نعقد صداقات مع الرجال أو مع النساء طالما أن الشارع مليء بالخطر بالنسبة إلينا، بل شبه ممنوع؟" تلك هي تساؤلات نويمي. وبالتالي، فإن هذه الصبية التي وصلت إلى هنا قبل ما يقرب السنة، قلّصت إلى الحد الأدنى صلاتها مع الآخرين، كما أنها لا تفصح عن شيء، وتلتزم الصمت، ولا تتحدث إلا نادراً فتتحول شيئاً فشيئاً إلى امرأة غير مرئية.
لا تعرف نويمي شبكة الجمعيات التي يمكن أن تأتي لمساعدتها في حال وقعت فريسة مرض عضال. كما لا تعرف "الغاندا" أي المقاهي والمطاعم السرية التي يديرها ويحرك الحياة فيها شبان من ساحل العاج، وفيها يمكن تناول وجبات محلية والاحتفال بالزواج والخطبة وحفلات أعياد الميلاد بعيداً عن أي حضور تونسي. إلى ذلك، لم تختبر حلقات التضامن المجتمعي، ولا قدّاس يوم الأحد الذي يقيمه قساوسة من مناطق جنوب الصحراء في فضاءات مخصصة لمجتمعاتهم؛ ذلك أن هناك حياةً خفية وغامضة تدور تحت الأرض في ظل مدينة معادية وعنصرية وكارهة للنساء، تقوم بتجريد الإفريقيات من ذوات البشرة السوداء من إنسانيتهنّ وتمعن في ممارسة التفرقة ضدهن.
اليوم، وبعد أن صارت نويمي تعمل عند "أشخاص طيبين يعاملوني باحترام ويدفعون لي بشكل مناسب"، كما تؤكد، صارت تعمل فقط من أجل تلبية احتياجات أبنائها الثلاثة، حيث أنها توصل لهم المال عبر "حلقة من سكان ساحل العاج". هذه المنظومة الموازية لتصريف العملة تكلف أقل من كلفة إرسال اليورو عبر وسترن يونيون. ونويمي استطاعت أن تدبر نفسها بحيث تعطي المال لطلاب وطالبات من ساحل العاج يعيشون في تونس في حين يتكفل أهاليهم بإعطاء 100 إلى 200 فرنك افريقي شهرياً لشقيقتها.
على الرغم من أن نويمي تعيش بعيداً عن ضجيج العالم، فإن خيبة أملها كانت كبيرة عندما عاشت أكبر خوف ممكن يوم حاول جيرانها إخراجها بالقوة من بيتها بعد أن شتموها وطالبوها بأن "تخلي المكان".
حصل ذلك في 23 شباط/ فبراير 2023، بعد يومين من التصريحات المثيرة للجدل التي أطلقها الرئيس التونسي قيس سعيد أثناء اجتماع المجلس الأمن القومي المخصص لبحث "الإجراءات العاجلة" من أجل وضع حد لظاهرة "تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين غير النظاميين من جنوب الصحراء في إفريقيا".
محرومون من العمل ومطرودون من السكن
تصريح الرئيس الذي نُشر على صفحة رئاسة الجمهورية على فيسبوك يوم21 شباط/ فبراير كان بمثابة النسخة التونسية من نظرية "الاستبدال العظيم". ففي إطار "خطة خبيثة يخطط لها منذ بداية هذا القرن"، بحسب ما جاء في التصريح، "تلقّت بعض الجهات أموالاً طائلة بعد سنة2011 من أجل توطين المهاجرين/ات غير النظاميين من جنوب الصحراء الإفريقية داخل تونس، والهدف هو "إعادة تونس إلى بعدها الأفريقي، وتجريدها من انتمائها العربي والإسلامي".
أما الحرس الوطني، فقد أعلن من جهته في اليوم التالي لهذه التصريحات الرئاسية عن "حملة توقيف ضد التونسيين الذين يسكّنون أو يشغّلون مهاجرين يعيشون وضعاً غير قانوني". في الأيام التي تلت، حُرم مئات بل وآلاف من سكان جنوب الصحراء من عملهم، وقام أصحاب البيوت بطردهم من بيوتهم، وفي الكثير من الأحيان كان الأمر يتم في ظلمة الليل ومن دون إنذار مسبق، ومن دون أن يتسنى لهم أن يحملوا معهم أي شيء، أو على الأقل أن يستعيدوا الكفالة التي دفعوها لقاء السكن. فصار المهاجرون والمهاجرات بالنسبة إلى أولئك الذي يؤمنون بالخطاب الشعبوي لقيس سعيد بمثابة كبش فداء وسط أزمة اقتصادية عميقة. كما عانوا من موجة عنف في كل مكان كانوا يمرّون فيه، رجالاً ونساءً، في حافلات النقل، وفي المترو، وفي الشارع...
رغبة محمومة بالانتصار
ظلت نويمي متمترسة في سكنها طيلة أيام عشرة، وما كان لها أن تنجو لولا اهتمام ربة عملها التي قدمت لها وقتها دعماً غير مشروط من خلال تأمين الغذاء لها بشكل منتظم. لم يكن لغيرها من النساء المهاجرات الحظ نفسه. "تلقيت حوالي30 نداء استغاثة في اليوم، أطلقها رجال ونساء من جنوب الصحراء. وفي جمعية "بيتي"، قمنا بفتح خلية طوارئ داخل وحدة مناوبتنا النهارية"، حسب ما تذكره مارتا لوسيرنو مورينو.
وتردف، "أنشأنا ونسقّنا مع عدة جمعيات نسائية وإنسانية مركزاً غير رسمي للعناية بضحايا كراهية الغوغاء. كانت الاحتياجات تتعلق بالمساعدة الطبية وتقديم السكن لأولئك الذين تم طردهم من بيوتهم، والمساعدة الاقتصادية لكي يتمكّنوا من دفع أجرة السكن والفواتير لأولئك الذين لم يستطيعوا الذهاب إلى العمل خلال فترة الأزمة. وسرعان ما امتلأ مركز الإيواء الذي نديره. كما أن مدراء الفنادق التي نعمل معها عادة من أجل إسكان النساء من ضحايا العنف تلقوا الأمر بألا يفتحوا أبوابهم للمهاجرات".
النتيجة هي أن عدد حالات الدخول غير الشرعي في بلاد الاتحاد الأوروبي قدوماً من تونس عرفت في شهر آذار/ مارس وأيار/ مايو2023 ذروات ارتفاع لم تُعرف من قبل. فقد سجّلت زيادة بنسبة 1100 % مقارنة مع السنة السابقة، بحسب الأرقام التي قدمتها الوكالة الأوروبية "فرونتكس".
بعد تصريحات الرئيس، رفضت ليديا وكريستيل اللتان ارتبطتا بصداقة قبل ثلاث سنوات، تحديداً خلال حضورهما قداس الأحد، أن ترحّلهما سفارتهما إلى ساحل العاج مثلما حصل مع عدد كبير من أبناء وطنهما. كما رفضتا اجتياز البحر الأبيض المتوسط على ظهر قوارب صغيرة مرتجلة من المعدن يتم تكديس المهاجرين/ات فيها ويصنعها المهرّبون في يوم واحد. اختارت الشابتان البقاء والمقاومة. فالرغبة المحمومة بالانتصار في المواقف التي لا تُحتمل كانت تحركهما معاً. وكان هدفهما أن تتدرّبا في تونس على صنع الحلويات الفرنسية، بالنسبة لليديا، وعلى التجميل بالنسبة لكريستيل.
"إن مشروع حياتنا هو أن نعود بعد سنتين أو ثلاثة إلى ساحل العاج لنلتقي بعائلاتنا. وما سنقوم بتوفيره سيساعدنا على فتح محل لبيع الحلويات وصالون تجميل. وعبر شبكة الجمعيات التونسية القريبة من المهاجرين والمهاجرات، حددنا نوعية التدريب المجاني الذي ننوي الانطلاق فيه قريبا"، تقول بصوت واحد المرأتان، وهما تضحكان ضحكة نابعة من القلب.